السبت، 29 يونيو 2024

( نهاية الحروب الصليبية والفرج بعد الشدة )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الواقع الحالي مرير ومفزع ومع ذلك تمر اليوم السبت ذكرى ذات مغزى وعبرة لمن يدرك مألات مسيرة التاريخ الشائكة. في مثل هذا اليوم (الثالث عشر من شهر أبريل) من عام 1250م تم أسر الملك الفرنسي لويس التاسع قائد الحملة الفرنسية السابعة والذي حبس في دار ابن لقمان الشهيرة بمدينة المنصورة والتي سميت بهذا الاسم بالذات تمجيدا لهذا النصر المبين. ومع ذلك ينبغي أن نشير إلى أنه قبل ذلك بسنة واحدة فقط كانت الأمة العربية في ذلك التوقيت في أضعف حالاتها فقد وصل الملك الفرنسي بأسطول بحري ضخم يتكون من 1800 سفينة وحوالي 80 ألف مقاتل في حين أن الجيوش العربية في تلك اللحظة مشغولة بالاحتراب الداخلي فيما بينها في حين أن سلطان المسلمين الملك الصالح نجم الدين أيوب على فراش الموت وهذه نقطة ضعف قاتلة في زمن الحروب المفصلية. في الواقع ليس المهم فيما جرى في يوم الثالث من شهر أبريل هو مجرد تحول حال المسلمين من الهزيمة المحققة إلى النصر المبين، ولكن الأهم من ذلك أن انكسار (الحملة الصليبية السابعة) كانت هي اللحظة الفعلية في نهاية الحروب الصليبية بالرغم من توالي حملات صليبية إضافية (الثامنة كانت مرة ثانية بقيادة لويس التاسع نفسه) ضعيفة الأثر والأهمية.

الحكمة القديمة تقول (أقرأوا التاريخ إذ فيه العبر .. ضلّ قومٌ ليس يدرون الخبر) ولهذا تأتي عبارة (التاريخ يعيد نفسه) غالبا في سياق التوبيخ لمن يكرر أخطاء التاريخ ولا يستفيد من دروس الماضي ولهذا كانت المقولة الساخرة التي أطلقها كارل ماكس (التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة). ونظرا للتناظر والتطابق في محاور عديدة للقضية الفلسطينية زمن الحملات الصليبية مع المأساة الفلسطينية زمن الاحتلال الصهيوني حرصت بعد اندلاع الأحداث الأخيرة بعد طوفان الأقصى أن أقرأ كتابا عن الحروب الصليبية ليس فقط كما رآها العرب (الرواية السردية التي ساقها باللغة الفرنسية أمين معلوف) ولكن أيضا من خلال الاطلاع على سردية الحملات الصليبية كما رآها الفرنجة وذلك من خلال كتاب (الحروب الصليبية) من تأليف المؤرخ البريطاني المعاصر أندرو جوتيشكي.

في الواقع منذ قدماء المفكرين من فلاسفة الإغريق وحكماء الصين انتشر مفهوم أن التاريخ يتحرك في مسار دوري وفق ظاهرة التكرار التاريخي Historic Recurrence وهو ما يعبر عنه بأن (التاريخ يعيد نفسه). وأهمية اعتناق هذا النوع من التفكير المتقبل لمفهوم التكرار التاريخي أن الفائدة المستنبطة من ذلك أن الماضي يعلمنا دروسا من أجل التصرف السليم في المستقبل ومن هنا تكمن ضرورة دراسة الماضي لاستشراف دورة التاريخ القادمة. ولهذا سبق وأن أشرت في مقال قريب بأن المؤرخ اليهودي يوشع براور صاحب كتاب: قرون حطين (المستخلص من الأوراق العلمية المنشورة في مؤتمر غربي ضخم بمناسبة مرور ثمانية قرون على معركة حطين) كان يحاول هو وزملائه خدمة الكيان الصهيوني من خلال محاولة استنباط الدروس والعبر لأسباب انتصار صلاح الدين على مملكة الصليبيين في بيت المقدس وذلك بهدف محاولة الحرص على عدم تكرار التاريخ لنفسه بانتصار العرب مرة أخرى.

إذا كان التاريخ يعيد نفسه .. فأبشروا بالفرج

استقراء الماضي واستشراف المستقبل عمليتان متلازمتان لكل مؤرخ حصيف أو رجل سياسية رشيد ومع ذلك سبر أغوار الماضي وتفكيك التاريخ ليس شرطا أن يقود دائما وفي كل موقف لاستنباط المسار الصحيح لحركة التاريخ. ولنضرب لذلك مثلا فمطالعة كتاب (تشريح الثورة) للمؤرخ الأمريكي كرين برينتن تمكن القارئ من خلال استقراء تاريخ الثورات السياسية الكبرى في التاريخ أن يفهم المراحل الأربعة الأساسية التي تمر بها الثورات في الغالب. ولكن تفكيك وتشريح التاريخ هذا لا يعني بالضرورة أن أحذق خبراء السياسة فضلا عن القارئ العادي يستطيع أن يعرف ما هي الدولة التالية التي سوف تندلع فيها ثورة شعبية أو ما هي الخاتمة الفعلية لثورة ما لم تنته بعد. والمقصود أن استقراء الماضي وتشريح التاريخ سهل بينما استشراف المستقبل ومحاولة وضع السيناريوهات لمنعرجاته المحتملة أمر أكثر صعوبة ومع ذلك لا يوجد مانع من شرف المحاولة.

وهذا يقودنا للتذكير ببداية المقال واستحضار لحظة بداية النهاية للحروب الصليبية مع اعتقال لويس التاسع في دار لقمان بالمنصورة وانكسار جيش الفرنجة الجرار في ظرف غريب بواسطة مقاومة شبة عشوائية من عامة الناس في شوارع المنصورة. لدرجة أن المؤرخ المصري ابن إياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور ذكر أن العربان والعوام اشتركوا في قتال الفرنجة بالحجارة وقد وضع العوام على رؤوسهم طاسات النحاس بدلا عن خوذات الجنود. فهل يمكن إسقاط الماضي على الحاضر ونجد في غفلة من الزمن أن تتلاشى سطوة القوة الصهيونية التي تقهر الأمة العربية وبهذا تضمحل وتخفت الزوبعة التي كنا نظن أن لا ملاذ منها. ومن يستقرأ ويستعرض التاريخ العربي يجد أربع فترات في مسيرة الأمة تعرضت لحالة قهر وخضوع امتدت ربما لعقود طويلة من الزمن ثم تلاشت تلك القوى القاهرة في لحظة فاصلة وبصورة سريعة نسبيا. وهذا ما حصل في منطقتنا العربية أثناء الصراع الداخلي مع الاجتياح الشيعي زمن الدولة الفاطمية وأثناء الغزو الخارجي المغولي والصليبي وأخيرا أثناء فترة الاستعمار الأوروبي.

ولنبدأ بذكر أول تحد سياسي وعسكري خطير في محيطنا العربي وذلك عندما كادت الدولة الفاطمية في القرن الخامس الهجري من إسقاط الخلافة العباسية بعد أن أصيبت بالترهل السياسي والفتور الحضاري زمن العصر العباسي الثاني. ويكفي أن نعرف أنه أثناء توسع ما يسمى بالخلافة الفاطمية احتل الشيعة الاسماعلية الغلاة العواصم والمدن العربية الكبرى التالية: مكة والمدينة والقدس والقاهرة والإسكندرية ودمشق وحلب وطرابلس والموصل والقيروان وتونس وصنعاء. بل وصل الأمر أنه في عام 450هـ أن امتد نفوذهم حتى وصل لعاصمة الخلافة العباسية مدينة بغداد حيث أصبح يُدعى في صلاة الخطبة للخليفة الفاطمي المستنصر بدلا من الدعاء للخليفة العباسي القائم بالله. وبعد مرحلة التيه والضعف المتطاول التي استمرت لأكثر من قرنين ونصف جاءت مرحلة الفرج بعد الشدة وتلاشت الزوبعة الإسماعيلية الشيعية فجأة في سنة 567 هجري عندما قام السلطان صلاح الدين الأيوبي بإلغاء الخلافة الفاطمية مباشرة بعد وفاة الخليفة الإسماعيلي العاضد لدين الله وقد برر صلاح الدين تصرفه ذلك أن هذا الخليفة العبيدي الأخير توفي ولم يكن له ولد يخلفه في الحكم.

وإذا كانت زوبعة الإعصار الإسماعيلي تشتت مع انعدام الوريث للخليفة والسلطان فإننا نجد وفي مقابل ذلك أن كثرة الأبناء لأحد أحد أشنع السلاطين الذين عاثوا فسادا في العالم الإسلامي، نتج عن اختلاف وصراع الأولاد للقائد المغولي تيمورلنك انطفاء واضمحلال إعصاره الشنيع والمدمر للأمة الإسلامية. كلنا يعلم المجازر والدمار الذي خلفه الغزو المغولي للعالم الإسلامي خلال القرن السابع الهجري وجرائم جنكيز خان وهولاكو وقازان في هذا الشأن معلومة ومشهورة. ومع ذلك ربما كان من أشنع قادة المغول في سجل الجرائم ذلك الذي وصف نفسه بقوله: أنا غضب الرب في أرضه وكأنه مثل سلفه اللعين أتيلا الهوني الملقب بسوط الله وهو الذي يقال إنه تسبب في مقتل حوالي 17 مليون شخص (أي حوالي 5% من البشر في ذلك الزمن وهذا رقم مفجع وصادم) ونعني بذلك القاتل المبير قائد التتار تيمورلنك.

ومرة أخرى مرحلة التيه والضعف للأمة العربية أثناء العقود الزمنية للخراب المغولي كانت خاتمتها بشكل مفاجئ وسريع فكتب التاريخ تذكر أنه خلال سنوات قليلة في مطلع القرن الثامن الهجري استطاع تيمورلنك من هزيمة الخلافة العثمانية لدرجة أنه أسر وسجن السلطان العثماني بايزيد الأول الذي لقب بسبب قوته وجسارته بلقب (بايزيد الصاعقة). وفي خلال سنة واحدة فقط هي سنة 803 هجري اجتاحت جيوش التتار بقيادة تيمورلنك المدن العربية الكبرى مثل بغداد ودمشق وحلب وحمص وحماة وطرابلس وبعلبك وفي العديد منها كان ذاك المجرم يبني أهراما من رؤوس القتلى. وبعد تلك الغمة السوداء على العالم العربي والإسلامي سرعان ما تلاشت تلك العاصفة الهوجاء بعد سنوات قليلة عندما توفي فجأة تيمورلنك في عام 807م وهنا اندلع الصراع بين أبنائه وأحفاده على ولاية العرش وبهذا انشغل المغول بأنفسهم وتراجع أثرهم تماما عن المناطق العربية في العراق والشام.

وبعد أن أشرنا لظاهرة خروج الأمة الإسلامية بصورة شبه مفاجأة من مأزق الصراع الحربي الحاد مع القوى والمخاطر الهائلة الداخلية (الدولة الفاطمية الشيعية) أو الخارجية (الحملات الصليبية والغزو المغولي) لعلنا نختم بتشريح التاريخ والإشارة إلى أن هذه الظاهرة كما حصلت في التحدي الحضاري في القديم حصلت نسبيا في الزمن المعاصر.

 ونقصد بذلك أن خروج أغلب الدول العربية والإسلامية من ربقة الاستعمار الأوروبي حصل بشكل شبه مفاجئ وذلك بعد سنوات وعقود طويلة من الاحتلال الغربي للأراضي العربية. صحيح أنه ظهرت حركات مقاومة ضد الاستعمار في بعض البلدان العربية في الجزائر والعراق والشام ومصر ولكن أغلب بطولات المقاومة للاستعمار تلاشت تماما في منتصف القرن العشرين. والاستثناء الواضح كانت حركة المقامة الجزائرية للاحتلال الفرنسي الذي استمر لمدة 130 سنة منذ عام 1830م علما بأن احتلال الإنجليز لمدينة عدن وجنوب اليمن استمر كذلك لمدة 129 سنة ومع ذلك انتهى ذلك الاحتلال دون مقدمات تذكر في عام 1967 ميلادي. ومرة أخرى باستثناء الجهاد المبارك والمقاومة الوطنية في الجزائر والفاتورة العالية لذلك المتمثلة بالتضحية بحوالي مليون شهيد، نجد أن (جلاء) الاستعمار الأوروبي عن المدن العربية حصل من جراء النضال السياسي وليس القتال المسلح. ولهذا كحال أغلب الدول الأفريقية نجد أن العديد من الدول العربية حصلت على استقلالها من قوى الاحتلال الإنجليزية أو الفرنسية بشكل سلس نسبيا في الفترة من الخمسينيات وحتى السبعينيات من القرن العشرين.

وفي الختام وعودٌ على بدء نذكر بمدخل المقال وفكرة (الفرج بعد الشدة) على مستوى الشعوب والأمم فالأعاصير السياسية المدمرة يمكن أن تتلاشى وتضعف دواماتها بشكل سريع أو حتى مفاجئ كما لاحظنا مع غزو الصليبيين بقيادة لويس التاسع واكتساحهم لمدينة دمياط ثم انكسارهم السريع والغريب في مدينة المنصورة. ولهذا نأمل بمشيئة الله أن الأمة العربية بمجموعها كما تعرضت لقرون طويلة من الصراع مع الجحافل الإسماعيلية العبيدية ومع الحملات الصليبية ومع الغزوات المغولية ومع الاحتلال الأوروبي ثم تلاشى كل ذلك بشكل تام وحاسم في لحظة ما من التاريخ وبشكل شبه مفاجئ، نأمل أن يتكرر ذلك قريبا مع صراع الأمة العربية والإسلامية مع عدوها الغاشم الكياني الصهيوني الغاصب. (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا).

 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق