السبت، 29 يونيو 2024

( التسمم الغذائي وعموم البلوى )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

من الأقوال الشائعة المبتذلة مثل (عُضّ قلبي ولا تعض رغيفي) إلى مقولة الجنرال نابليون بونابرت الحكيمة (الجيوش تسير على بطونها) يمكن أن نستشف شغف البشر وتعلقهم البالغ بتوفير (لقمة العيش). ولهذا أي أخبار تنتشر عن احتمالية نقص إمداد الأغذية أو حصول حالات تسمم من تناول أطعمة مخزنة أو موزعة من خلال المطاعم والمخابز تثير قلقا متوقعا كما حصل الأسبوع الماضي في مدينة الرياض من حالات التسمم المؤسفة من تناول وجبات الهامبرغر من أحد فروع سلسلة مطاعم الوجبات السريعة.

قبل حوالي عشرين سنة حصلت في الولايات المتحدة الأمريكية كارثة بالغة الخطورة من تناول شطائر لحم الهامبرغر من فروع شركة أغذية أمريكية واسعة الانتشار اسمها (جاك في الصندوق Jack in the Box) والتي لها حولي 2200 فرع في مختلف الولايات. وفي السابق كان لهذه الشركة إهمال خطير في سياسية جودة الغذاء فليس فقط كانت تبيع شرائح لحم البقر المخلوطة بلحم الخيول بل الأخطر من ذلك أنها لم تكن تتبع إرشادات ضرورة طبخ اللحم في درجة حرارة زيت القلي لا تقل عن 68 درجة مئوية لضمان قتل أي تلوث من البكتيريا القولونية (E. coli). ونظرا لأن تكرار استخدام زيت القلي عند درجة الحرارة العالية مثل 68 درجة مئوية سوف يؤدي إلى التلف السريع للزيت المستخدم، لذلك كانت شركة الأغذية تلك تجهز لحم شرائح الهامبرغر عند درجة أقل (60) واستمرت على ذلك حتى حصلت الكارثة الكبرى.

في عام 1993م أصيب حوالي 732 شخصا بحالات تسمم خطيرة من جراء تناول شطائر مطاعم تلك الشركة ذات الاسم الغريب نتج عن ذلك للأسف وفاة أربعة أطفال وتعرض العشرات لمضاعفات طبية خطيرة مثل تلف دائم في الكلى والدماغ. وبعد عملية الاستقصاء تبين أن عدد فروع مطاعم تلك الشركة التي تعرضت للتسمم بلغت حوالي 73 فرعا منتشرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة مما زاد من خطورة هذه الكارثة الغذائية. ما سبق ذكره هو أمر صادم من ناحية أنه في تاريخ حديث نسبيا وفي بلد متطور جدا ومشهور بأنظمته الرقابية الصارمة فيما يتعلق بجودة صناعة المنتجات والحرص البالغ على سلامة الصحة والبيئة، ومع ذلك يقع مثل ذلك الخلل الخطير في عملية تحضير المواد الغذائية أو تخزينها وتوزيعها. ومع ذلك مثل تلك الحوادث المؤسفة لحالات تسمم الغذاء ليست نادرة، بل أحيانا تكون واسعة الانتشار بشكل مريع. فحسب تقديرات المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض الوقاية منها أن الأغذية الملوثة في الولايات المتحدة تسبب سنويا دخول حوالي 130 ألف شخص إلى المستشفى وعدد حالات الوفاة السنوية من جراء تسمما الغذاء تصل لحوالي 3000 وفاة.

ومن هذا لن نستغرب الآن أن نعلم أنه في عام 1994م حصلت في الولايات المتحدة حادثت تسمم غذائي ناتجه من بكتيريا السالمونيلا المعوية الخطيرة وذلك بعد تناول منتج آيسكريم من إنتاج شركة الأغذية شوان (Schwan). بقي أن نقول إن حادثة التسمم الغذائي تلك حصلت لسبب غريب وهي أن الشركة استخدمت شاحنات لنقل صناديق البيض النيئ غير المبستر والمصاب ببكتيريا السالمونيلا ولاحقا استخدمت نفس تلك الشاحنات لنقل منتج الآيسكريم الذي انتقل له ذلك التلوث ومن هنا حصلت الفاجعة: تعرض حوالي ربع مليون (224000) زبون لحالة تسمم من جراء تناول تلك المثلجات المسمومة. وكما هو معلوم لا آيسكريم من دون حليب وهذا يقودنا للتذكير بالضجة الكبرى التي حصلت في الصين في عام 2008م عندما قامت إحدى شركات الألبان الصينية بإضافة كميات قليلة من مادة الميلانين الكيميائية إلى سائل الحليب للتلاعب والتحايل على فحوصات كمية البروتين في الحليب. ونظرا لأن تلك المادة الكيميائية خطرة فقد تسبب ذلك في حدوث تسمم غذائي لحوالي أكثر من 300 ألف شخص معظمهم من الأطفال.

كيمياء الأغذية بين الإصلاح والإفساد للطعام

المشكلة أن تلوث الحليب في الصين أو تسمم الآيسكريم في أمريكا جاء بعد تصاعد القلق العالمي عبر العقود الماضية من اتساع دائرة القلق من تكرار وقائع التسمم الغذائي. ففي حين كانت أحداث التسمم الغذائي تتركز حول تلوث البيض ببكتيريا السالمونيلا  (أُعلن في بريطانيا عام 1988م أن أغلب البيض المباع في الأسواق مصاب ببكتيريا السالمونيلا)  أو القلق من أن حبوب القمح أو الأرز في حال التخزين السيئ لها يمكن أن ينمو عليها نوع من الفطريات يفرز سموما قاتلة تدعى الأفلاتوكسين (تشير بعض الدراسات أن العينات المفحوصة من الأرز في الصين نصفها ملوث بسموم الأفلاتوكسين). لقد كانت تلك مصادر القلق في الماضي أن التسمم الغذائي مرتبط بسوء التخزين للمواد الغذائية، ولكن في السنوات الأخيرة ظهرت مشكلة جديدة وهي أن عملية تجهيز وتحضير الأطعمة (معالجة الغذائية food processing) قد تسبب مشاكل أعقد فيما يتعلق بالتسمم الغذائي.

ومن ذلك مثلا أنه عند تصنيع رقائق البطاطا المقرمشة والمحببة من قبل الصغار والكبار، كانت طريقة التحضير تعتمد على قلي شرائح البطاطا في الزيت عند درجات حرارة عالية ولفترة طويلة نسبيا وفي وجود كمية من السكريات وهذه خلطة قد تكون سحرية لطهو طعم فريد النكهة ولكنها خلطة سيئة للإنتاج مادة كيميائية سيئة السمعة (الأكريلاميد). في عام 2002م استفاق العالم على خبر مفزع أن البعض من المواد الغذائية المقلية والمقرمشات ورقائق الكورن فليكس ملوثة بكميات خطيرة من مادة الأكريلاميد التي يشتبه بأنها قد تسبب مرض السرطان.

وبالمناسبة مادة الأكريلاميد الملوثة للأطعمة يمكن أن تنتج من عملية الشوي للمواد الغذائية النشوية أو من عملية تحميص حبوب القهوة وهذا ما يؤدي إلى مزيد تفاقم انتشار ظاهرة التسمم الغذائي. وربما قد وصل للقارئ الكريم التحذير منذ سنوات من عدم الإفراط في تناول اللحوم المشوية على الفحم أو اللهب لأنه مرة أخرى عملية المعالجة والتحضير للأطعمة بهذه الطريقة قد تنتج مركبات كيميائية ضارة من أكثرها انتشارا تلك المسماة الأمينات الحلقية غير المتجانسة HCAs وهي مواد كيميائية من المحتمل أن تسبب السرطان إذا حصل تناولها بكميات كبيرة ولفترة طويلة (والله يعين عشاق الشاورما ولحم المظبي !!).

وبعد صدمة تلوث رقائق البطاطس والتشيبس كانت الصدمة الثانية المفزعة من احتمالية التلوث الشاسع للمواد الغذائية واسعة الاستهلاك عندما تناقلت وسائل الإعلام البريطانية في عام 1998م أنه تم اكتشاف مادة ملوثة للمشروبات الغازية لكبرى العلامات التجارية مثل شركة كوكا كولا وشركة بيبسي. في بداية الأمر توقع العلماء أن كميات مادة البنزين (مركب كيميائي عضوي وليس وقود السيارات) الموجودة في علب المشروبات الغازية هي نتيجة تلوث مياه مصانع الإنتاج، ولكن مع المزيد من التدقيق العلمي تبين أن تلك المادة الكيميائية تنتج أثناء التخزين السيئ لعلب المشروب الفوّار. لقد اكتشف علماء الكيمياء العضوية أن المادة الحافظة التي تضاف للمشروبات الغازية وهي بنزوات الصوديوم وفي وجود فيتامين سي يحصل تنشيط لعملية كيميائية تدعى نزع مجموعة الكربوكسيل (decarboxylation). وبهذا يتحول مركب حمض البنزويك إلى مركب البنزين الذي يمكن اعتبار وجوده دلالة على تلوث المشروبات الغازية ولهذا يحصل من فترة وأخرى الإعلان أن شركة كوكا كولا أو بيبسي قامت بسحب ملايين علب المشروبات الغازية من الأسواق لأن تركيز مركب البنزين فيها أعلى من الحد الأعلى المسموح به.

وبما أن سيرة مركب البنزين انفتحت فتجدر الإشارة أن له أهمية كبرى في مجال الكيمياء العضوية لأنه تصنع منه الآلاف من المشتقات الكيميائية التي توصف بأنها (مركبات عطرية aromatic compounds) بسبب رائحتها المميزة. وهذا يقودنا لذكر الحادثة الأليمة والمفزعة المتعلقة بالتسمم الغذائي والتي حصلت في إسبانيا في عام 1981م وذلك عندما قام بعض التجار بخلط زيت الزيتون بكميات قليلة من مادة زيتية هي أحد مشتقات مركب البنزين تدعى الألنين. وبالرغم من أن كمية الألنين في زيت الزيتون كانت قليلة ومخففة إلا أنها تسببت في حصول حالة تسمم لأكثر من 25 ألف شخص تعرض حوالي 600 مصاب للوفاة بينما تعرض الآلاف للإصابة بالشلل.

رقم 600 قتيل بسبب التسمم الغذائي رقم مفزع ولكنه ولله الحمد نادر ما يحصل أن تصل عدد الوفيات في مثل هذه الحوادث لمثل ذلك الرقم العالي إلا تلك الحادثة المؤسفة التي وقعت في أرض الرافدين العراق في عام 1971 ميلادي. تلوث الغذاء في تلك الحادثة جاء نتيجة استيراد شحنة حبوب القمح الملوثة بكمية زائدة من مبيد للفطريات عالي السمية (المركب الكيميائي ميثيل الزئبق). ونتج عن استهلاك شحنة تلك الحبوب السامة وغير المعدة للاستهلاك البشري وفاة حوالي 650 شخصا في شمال العراق ممن تناولوا الخبز المحضر من دقيق الموت. العجيب أن كل الكتب والمناهج الدراسية القديمة التي تناقش موضوع تلوث البيئة تذكر قصة هذا المركب الكيميائي الشنيع (ميثيل الزئبق) وكيف أحدث صدمة في العالم كله عندما تسبب في عام 1956م في مصرع أكثر من 700 ضحية في المدينة الساحلية اليابانية ميناماتا وذلك بعد تناول السكان للسمك والمحار الملوث بمركب ميثيل الزئبق المنتشر في مياه خليج ميناماتا نتيجة التلوث الصناعي.

في الختام تلك كانت فقط رحلة عبر الزمن القريب لاستعراض مشكلة ظاهرة تفشي التسمم الغذائي وبالرغم من صعوبة القضاء النهائي على هذه المشكلة الصحية والغذائية إلا أنه ولله الحمد مع التطور الكبير في مجال العلوم الغذائية والرعاية الطبية ودور الرقابة البيئة والصحية فقد قلل ذلك كثيرا من هذه الأخطار.

 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق