السبت، 13 ديسمبر 2025

( الأدباء والمكتبات التجارية ومهنة بيع الكتب )

 


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1447/4/19

 لعشاق القراءة ورفقة الكتاب اليوم السبت 11 أكتوبر هم مع موعد ختام بهجة فعالية (معرض الرياض الدولي للكتاب 2025) وقد تكون تلك مناسبة حزينة، ولكن مما يخفف شجن توديع معرض الكتاب أن تاريخ اليوم يتوافق مع حدث سنوي بهيج هو (يوم متجر بيع الكتب Bookshop Day). بالجملة في الدول الغربية والولايات المتحدة بالتحديد يحتفل بيوم المكتبات التجارية في ثاني يوم سبت من شهر أكتوبر والذي توافق هذه السنة بالصدفة مع نهاية معرض الرياض للكتاب وهذه مناسبة جيدة لتأكيد أن عادة شراء الكتب يجب أن تستمر مع القراء ومحبي القراءة طوال أيام السنة من خلال زيارة مكتبات بيع الكتب.

وبحكم أن الإعلان عن جائزة نوبل للأدب حصل قبل يومين فقط أي بعد ظهر يوم الخميس الماضي 9 أكتوبر وبحكم أنني خلال السنوات الماضية عندما كنت أزور معارض الكتاب في الرياض أو جدة كنت ألمح وأرصد دائما أن العديد من الروايات الأدبية تكون حبكتها الفنية ومسرح أحداث الرواية تقع في مكتبات بيع الكتب. ولهذا بعض تلك الأعمال الأدبية نجد أن غلاف الرواية يحتوي على صورة مكتبة تجارية وكذلك عنوان الرواية أحيانا به كلمة (المكتبة Bookshop) مثل رواية (متجر الكتب المسكون) أو رواية (مكتبة باريس) أو رواية (آخر مكتبة على الأرض) أو رواية (بائع الكتب في كابول) أو رواية (مناديل بائع الكتب القديمة) أو الرواية البوليسية (مقتل بائع الكتب). الجدير بالذكر أن المكتبة التجارية والزبائن الذين يترددون عليها وكذلك العلاقة بين باعة الكتب مع بعضهم البعض كل هذه الأبعاد النفسية والاجتماعية جعلت (عالم وأجواء) المكتبات التجارية عالم ثري من الناحية الأدبية. وبالمناسبة أنصح عشاق ارتياد المكتبات التجارية أن يحاولوا الحصول على نسخة من كتاب (يوميات بائع الكتب The diary of a bookseller) من تأليف بائع الكتب شون بيثل صاحب أكبر متجر لبيع الكتب المستخدمة في أسكوتلندا وفي ذلك الكتاب يحكى قصته الشخصية مع الطبائع المختلفة للزبائن والأحداث الطريفة أو المزعجة المرتبطة بمهنة بيع الكتب.

على كل حال المقدمة السابقة كان الهدف منها لفت الأنظار إلى ثراء بيئة وأجواء المكتبات التجارية ولهذا عندما يزور الأديب أو الكاتب متاجر بيع الكتب قد يلحظ فيها من المشاهد ما يمكن أو يوظفها في أعماله الأديب. ومن ذلك مثلا أنه من المشهور أن الأديب الأرجنتيني خورخي بورخيس أحد أبرز شعراء أدب أمريكا اللاتينية أشتغل فترة من الزمن في مهنة أمين مكتبة وهذا ربما ما ألهمه أن يكتب قصة قصيرة حملت عنوان (مكتبة بابل) وهي عمل أدبي فلسفي من عالم الخيال ذو رمزية العميقة حيث تصور العالم وكأنه عبارة عن مكتبة ضخمة أشبه بالمتاهة.

من الطريف أن معاشرة خورخي بورخيس للكتب وعمله كأمين مكتبه منحه الحكمة والخيال وطبعا الثقافة بالرغم من أنه قد أصيب بالعمى التام عندما كان في وظيفة أمين المكتبة وفي مقابل ذلك نجد أن عملاق الأدب الإنجليزي جورج أورويل (صاحب رواية مزرعة الحيوانات ورواية 1984) كان يشعر بالضجر والممل وهو يعمل في متجر بيع الكتب في شمال لندن. على خلاف التصور العام بأن مهنة بائع الكتب هي (المهنة المثالية) لعشاق الثقافة والأدب نجد أن جورج أورويل ينشر في عام 1936 مقال يخالف تلك الصورة الرومانسية عن (العمل) بين الكتب. في ذلك المقال الذي حمل عنوان (مذكرات مكتبة Bookshop memories) يستند أورويل على تجربته الشخصية كبائع كتب مستعملة لمدة سنة ونصف وهو في أوائل الثلاثينات من عمره وهي تجربة مريرة لأننا نجده في خاتمة المقال يعترف عن نفسه بقوله (هل كنت أحب أن أكون بائع كتب؟ بالجملة وبالرغم من لطافة رب العمل معي وبعض الأيام السعيدة التي قضيتها في محل، أقول لا).

الأغرب من ذلك أننا نجد أن الأديب والشاعر الألماني البارز هيرمان هسه (الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1946م) عندما كان في أوائل شبابه كان مراهقا عنيدا وسريع الضجر وما يهمنا هنا أنه عندما كان في سن 17 عمل في مدينة ألمانية صغيرة في مهنة بائع الكتب لثلاثة أيام فقط. ومع ذلك الحق يقال إن الشاب الطائش هيرمان هسه سرعان ما سوف يتهذب سلوكه ولذا عندما انتقل لمدينة جديدة نجده في عام 1895م وهو في سن 18 يبدأ تجربته الثانية في مهنة بيع الكتب وهنا تبدأ رحلته الثرية في دنيا الأدب والروحانيات والفلسفة. التنقل للعمل كبائع كتب في أكثر من مدينة وفي مرحلة المراهقة كان مصير الكاتب والروائي الأرجنتيني ألبرتو مانغويل الذي عمل في مكتبة بيجماليون التجارية في العاصمة بوينس آيرس لمدة ثلاث سنوات بدأها من سن 15 ولاحقا عمل في مكتبة بيع الكتب في باريس وهو في سن 24 وهذه الحياة المهنية بين أحضان الكتب أكسبته الحصيلة ثقافية هائلة في مجال الكتب أهلته لتأليف كتابه المذهل (تاريخ القراءة) واستحق كذلك أن يحصل على لقب (الرجل المكتبة).

الجدير بالذكر أنه في ذلك الكتاب الشيق (تاريخ القراءة) يشير ألبرتو مانغويل أنه في عام1964م وعندما كان سن 16 تقابل لأول مرة مع الأديب الأرجنتيني خورخي بورخيس عندما زار المكتبة التجارية التي كان يعمل بها ومن هنا توثقت الصلة بينهما وبحكم أن بورخيس كان وقته شخص شبه أعمى فقد طلب من مانغويل أن يصبح القارئ الخاص له. اللطيف في الأمر أن بورخيس قد تولى منصب رفيع هو أمين المكتبة الوطنية الأرجنتينية وكذلك نجد أنه في عام 2016م تم تعيين ألبيرتو مانغويل في نفس ذلك المنصب حيث أصبح خليفة بورخيس في منصبه الإداري كأمين مكتبة وفي شهرته الأدبية كأحد أبرز أدباء الأرجنتين المعاصرين. ولعلنا نختم هذه الجزئية أن بعض مشاهير الأدباء والكتاب مارسوا في فترة من حياتهم مهنة (أمين مكتبة) ومن ضمنهم والروائي الروسي بوريس باسترناك الحاصل على جائزة نوبل عام 1958 (وصاحب رواية دكتور زيفاجو) والذي في أوائل حياته عمل لمدة ثلاث سنوات بين الكتب في مكتبة المفوضية السوفيتية للتعليم في العاصمة موسكو.

وبالانتقال من رواد الأدب العالمي إلى رواد الأدب العربي المعاصر والقديم لعل من الملائم أن نلفت الأنظار إلى أن شاعر النيل حافظ إبراهيم كان يعمل في دار الكتب المصرية لمدة قاربت العشرون سنة حيث عينه وزير التربية والتعليم آنذاك حشمت باشا في عام 1911م في منصب رئيس القسم الأدبي بدار الكتب. وفي التراث العربي القديم نجد الكاتب والأديب ابن مسكويه كان يعمل كأمين لمكتبات قصور أمراء دولة بن بوية وكذلك تولى مهام خازن المكتبة الضخمة المشهورة للأديب الكبير ابن العميد الذي كما هو معلوم كان في الأصل يعمل وزيرا عند ركن الدولة البويهي ومن بعده ابنه مؤيد الدولة. أما وإن سيرة دولة بني بويه ووزيرهم ابن العميد فتحت فهذا ربما يكون مسوغ لذكر الأديب العربي الموسوعي أبي حيان التوحيدي وعلاقته المتأزمة مع الوزيرين الصحاب بن عباد وابن العميد وكذلك حياة البؤس حيث كان يكتسب عيشة من نسخ الكتب وهي المهنة التي مارسها طويلا وكتب عنها أطوال شكاويه.

 الأدباء والمتاجرة بالكتب

عند محاولة سبر أغوار العلاقة بين الأدباء والمكتبات التجارية وجدنا كما تم سرده بالأعلى أن العديد من الأدباء مارسوا مهنة (بائع الكتب) أو مهنة أمين المكتبة ومع ذلك نجد ظاهرة أخرى جديرة بالرصد والإشارة لها وهي أن بعض الأدباء كانوا كذلك يمتلكون مكتبات تجارية وليس فقط عملوا فيها كبائعي كتب. الجدير بالذكر أن هذه الظاهرة منتشرة بشكل ملحوظ في الدول الغربية وأبرز مثال يمكن أن نسوقه هنا أن الأديبة الكندية أليس مونرو الحاصلة على جائزة نوبل في الأدب لعام 2013 كانت تملك متجرا لبيع الكتب في مدينة فيكتوريا الكندية. وكذلك الرواية الأمريكية لويز إردريك افتتحت مكتبة تجارية في عام 2001م والتي ما زالت موجودة حتى اليوم وحاليا تعتبر لويز إردريك من أبرز الأديبات والشاعرات الأمريكيات وقد حصلت على العديد من الجوائز في مجال الشعر وكتابة الرواية. صحيح أن بعض الروائيين البارزين من الرجال أمتلك مكتبة تجارية مثل الروائي الأمريكي البارز جورج مارتن (كاتب ملحمة صراع العروش السينمائية Game of Thrones) ومع ذلك لأسباب تتعلق بطبيعة المرأة في الولايات المتحدة نجد أن عدد الروائيات والكاتبات ممن يمتلكن مكتبات تجاريه في تصاعد مستمر ويكفي أن نشير هنا إلى بعضهن من مثل آن باتشيت وجودي بلوم وإيما ستروب ونورا روبرتس.

وبالانتقال إلى واقعنا المحلي وعالمنا العربي نجد أن هذه الظاهرة مختلفة تماما فأغلب الأدباء الذين يملكون المكتبات التجارية هم من الرجال وليس النساء وأغلب الأسماء الرنانة في عالم الأدب وتجار الكتب هم من جيل الرواد وليسوا من الأدباء المعاصرين. ولنبدأ بالأديب المصري عبد الحميد جودة السحار والذي قام هو وأخوه الكاتب والشاعر سعيد جودة السحار بإنشاء متجر لبيع الكتب حمل اسم (مكتبة مصر) وذلك في عام 1943م ومع الزمن تحولت إلى دار نشر أتاحت الفرصة لجيل الشباب في ذلك الزمن طباعة أعمالهم الأدبية ومن هؤلاء عمالقة الأدب العربي الحديث مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعلى أحمد باكثير. وعليه لا نبالغ كثير أن قلنا إن المكتبة التجارية (مكتبة مصر) التي كان يملكها عبد الحميد الساحر كانت في هي الحاضنة الأساسية للأدب العربي في مجال الروايات ولهذا التف حولها أدباء ذلك العصر حتى استطاعت (مكتبة الشروق) قبل ثلاثين سنة من أن (تسرق) نجيب محفوظ وبالتالي أصبحت حاليا هي أهم دار نشر للروايات العربية المعاصرة.

وكما حصل جيل الرواد من الشباب من أدباء مصر على حاضنة ونقطة تجمع لهم كانت (مكتبة مصر) نجد أن جيل الرواد من الشباب من أدباء الحجاز حصلوا على حاضنة ثقافية وبؤرة تجمع لهم هي (المكتبة الثقافية) التي أنشئها الأديب والكاتب الصحفي السعودي صالح محمد جمال في مكة المكرمة وذلك في عام 1364 هـ (1945) أي تقريبا بعد سنتين فقط من افتتاح مكتبة مصر. وعلى نفس النسق أصبحت المكتبة الثقافية قائدة الحركة الثقافية في الحجاز حيث تردد عليها رواد الأدب السعودي الكبار من مثل أحمد السباعي وطاهر زمخشري وأحمد عبد الغفور عطار وحسن سرحان وعبد القدوس الأنصاري وكذلك الشيخ حمد الجاسر. وعلى ذكر علامة الجزيرة حمد الجاسر ربما بدأ تخفت معلومة أنه كان ثاني (تاجر) يفتتح مكتبة تجارية لبيع الكتب في مدينة الرياض وذلك بعد (المكتبة الأهلية) لصاحبها عبد المحسن أبا بطين التي افتتحها في عام 1946ميلادي. وبحكم أن المكتبة التجارية لبيع الكتب التي أنشئها حمد الجاسر عام 1954 كانت تبيع بالدرجة الأولى الكتب الأدبية والتاريخية والفكرية والصحف المحلية والعربية ولهذا أصبحت هي الأخرى حاضنة الثقافة والأدب والأدباء في منطقة نجد.

وفي الختام أود أن أشير لبعض المكتبات التجارية التي كان لها تأثير بالغ الأهمية في تشكيل بعض الحركات والتيارات الأدبية في بداية ومنتصف القرن العشرين. بالتوازي مع بعض المقاهي المشهورة التي ارتبطت بالأدب مثل مقهى فلورا في باريس أو مقهى ريش في القاهرة أو مقهى الشابندر في بغداد نجد كذلك أن بعض المكتبات التجارية كانت أشبه بالمنتديات ومركز التجمع للأدباء والشعراء. وبالجملة تعتبر مكتبة (شكسبير وشركاؤه) التي افتتحت في باريس في عام 1919م إحدى أهم المكتبات التجارية في تشكيل الأدب الإنجليزي الحديث وذلك لأنها أسهمت في تجميع شباب تيار ما أطلق عليه اسم (الجيل الضائع). العديد من الأدباء وبالذات الأمريكان الذين كانوا يعيشون في مدينة باريس مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى ارتبطوا بهذه المكتبة وهم من مشاهير الكتاب مثل الإيرلندي جيمس جويس والأمريكي أرنست همنغواي الحاصل على جائزة نوبل ورفقائه دربه مثل عزرا باوند وسكوت فيتزجيرالد بالإضافة للفرنسي أندرية جيد الحاصل على جائزة نوبل كذلك.

الأوقات العصيبة تخلق أحيانا استجابة أدبية مختلفة فكما ظهر أدباء الجيل الضائع بعد الحرب العالمية الأولى وتجمعوا في مكتبة شكسبير الباريسية نجد أنه بعد الحرب العالمية الثانية ظهر تيار أدبي يعرف بشعراء (جيل البيِت Beat generation) وبحكم أن كلمة beat تعني الضرب ولهذا البعض يعرب اسم هذه الحركة الأدبية (الجيل المضروب). ومن يهمنا هنا أن هؤلاء الشباب الرافضين للمجتمع والأخلاق تجمعوا في المكتبة التجارية (جوثام بول مارت) في مدينة نيويورك ومن أبرز الأدباء التجريبيين الذين ارتبطوا بهذه المكتبة الشاعر الأمريكي البارز ويليام بوروز ورفقائه ألين جينسبيرج وغريغوري كورسو وجاك كيرواك. الغريب في الأمر أن إرهاصات حركة الجيل المضروب لم تبدأ تماما في نيويورك ولا في مكتبة جوثام ولكن ظهرت في مدينة طنجة المغربية وبالتحديد في عام 1947م وذلك عندما افتتحت سيدتان بلجيكيتان مكتبة تجارية حملت اسم مكتبة كولون (الأعمدة). ولهذه المكتبة التجارية المغربية تأثير بالغ في الأدب الغربي لأنها كانت بؤرة يجتمع فيها كبار الأدباء الأمريكيان مثل ويليام بوروز السالف الذكر وتينيسي ويليامز وترومان كابوتي بالإضافة لبعض الكتاب الفرنسيين مثل جان جنية وميشيل فوكو. في الواقع من تسبب في استقطاب هذه الأسماء الرنانة في الأدب الإنجليزي هو الكاتب الأمريكي بول بولز الذي قضى أكثر عمرة في مدينة طنجة والذي كان له كذلك دور محوري في التأثير على جيل الشباب المغربي وبالخصوص الروائي المثير للجدل محمد شكري صاحب رواية (الخبز الحافي) ولكن تلك قصة أخرى لا يتسع المجال لذكرها هنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق