السبت 1447/5/17
ليس من فراغ أن كان من أسماء الحرب عند العرب قديما (يوم الكريهة) والشاعر والملك الضليل امرؤ القيس لم يكن ضالا ولا مبالغا في وصفه وهجائه للحرب بأنها بعد أن تكون فتية فاتنة تنقلب إلى عجوز شمطاء صلعاء مكروهة للشم والتقبيل. ومع ذلك فإن الحرب في زمن الجاهلية الأولى كانت لا تخلو من الفروسية والشهامة كما هي أخلاق العرب النبلاء أما في زمننا المعاصر فأصبحت الحرب وخصوصا الحرب الأهلية شنيعة ترتكب فيها الفظائع والفضائح التي تصك الآذان وتدمي القلوب عند سماع أخبار جرائم الحرب والتي يرد فيها مصطلحات صادمة مثل: الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والاغتصاب الجماعي والاستعباد الجنسي والتعذيب الوحشي ولعل أهونها التهجير القصري.
وأعلم مسبقا أن القارئ الكريم قد تفطر قلبه حزنا وامتلأ صدره حنقا على ما حصل في أرض السودان الجريح من جرائم الحرب الشنيعة التي ارتكبتها قوات الإجرام السريع في مدينة الفاشر وإقليم دارفور وما قام به المجرم الأثيم سفاح الفاشر أبو لولو (أبو لؤلؤة المجوسي). ولهذا لن ننكأ الجراح ولن نسترجع صور المآسي المؤلمة والمخزية، ولكن سوف نطرح أسئلة لمحاولة فهم لماذا يقوم الأنذال من بني جلدتنا في ارتكاب مثل تلك الجرائم الشنيعة في حق أهلهم وجيرانهم والأبرياء من شعبهم ووطنهم.
الكاتب الأمريكي مارك توين وبعد أن عايش ويلات الحرب الأهلية الأمريكية في شبابه وقبل ذلك الحرب الأمريكية المكسيكية توصل لحكمة في شيخوخته تقول (إن كل حرب يجب أن تكون مجرد قتل لغرباء لا تشعر تجاههم بأي عداوة شخصية، غرباء كنت لتساعدهم في ظروف أخرى إذا وجدتهم في ورطة). وكأن فلسفة مارك توين عن الحرب بأنه في أصلها عبثية حيث يتم تدريب الناس وإصدار الأوامر لهم بقتل غرباء تمامًا كان من اللياقة الإنسانية مد يد المساعدة لهم في ظروف معينة وإذا بهم في زمن الحرب يتغير الموقف معهم للضد بتصفيتهم وإبادتهم. وهذه بالضبط شناعة الحرب الأهلية ففي زمن السلم قد تقوم بكل المحبة والصدق بمد يد المساعدة إلى جارك في الحي أو زميلك في العمل ثم بتأثير هيجان حرب الإبادة العبثية يقتل ويغتصب الجار الصربي جاره البوسني الذي كان قبل أسابيع أو أشهر قليلة على وفاق تام معه كما حصل في حرب البلقان الشهيرة.
لقرون طويلة شغلت الحرب المفكرين والكتاب والفلاسفة فكما رأينا ما هي وجهة نظر رائد الأدب الأمريكي مارك توين حيالها نجد أن رائد الأدب الروسي دوستويفسكي يعتبرها سلوكا همجيا متأصلا في حين أن فيلسوف فرنسا ورائد عصر الأنوار فولتير يقرر بأن (الحرب أعظم الجرائم على الإطلاق). وبحكم أن الحرب العالمية الأولى كانت أول حرب في التاريخ البشري تبلغ درجة عالية من الضخامة (لذا سميت الحرب الكبرى Great War) في عدد الجيوش أو عدد القتلى من المدنيين أو حجم الانتهاكات والجرائم الشنيعة ضد الأبرياء لذا أصابت المجتمع الغربي بصدمة كبيرة. ليس من فراغ تم تسمية الأدباء الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الأولى بأنهم أدباء (الجيل الضائع) فالعديد من الأدباء الغربيين عبروا عن صدمتهم إزاء فضائع الحرب العالمية الأولى من خلال الكتابة عن خيبة الأمل والصدمة النفسية ورفض السرديات البطولية والتشكيك في قيم المجتمع. حالة الوعي المتشظي والشك الوجودي بسبب صدمة الحرب أنتجت أشهر الأعمال الأدبية الغربية مثل قصيدة (الأرض اليباب) للشاعر البريطاني الأمريكي ت. س. إليوت ورواية (وداعا للسلاح) للروائي الأمريكي أرنست همنغواي والرواية المذهلة (كل شيء هادئ في الجبهة الغربية) للكتب الألماني إريك ريمارك.
وعلى نفس النسق ومباشرة بعد نهاية الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى) بل ربما قبل أن تنتهي بدء العديد من الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس والمختصين في العلوم الاجتماعي في محاولة تفسير (والبعض تبرير) ما حصل خلال تلك الحرب العلمية من جرائم وإبادة وتدمير أو كما ورد في الوصف القرآني البديع (ويهلك الحرث والنسل). والغريب أن أشهر وأهم من ناقش أسباب ومألات الحرب العالمية الأولى عالم الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين وذلك بعد أن استعان بعالم النفس النمساوي سيجموند فرويد وهذا ما أثمر السجال الفلسفي والفكري بينهما والمراسلات التي جرت بينهما في عام 1932م للإجابة عن السؤال الشائك (لماذا الحرب؟).
لماذا الحرب؟ يسأل أينشتاين ويجيب فرويد
بسبب التغيرات الهائلة للمجتمعات الغربية في العقد الأول من القرن العشرين وحالة الشحن النفسي للشعوب الأوروبية بسبب توقع نشوب الحرب نجد أن عالم النفس البريطاني فيليب فيرنون يصف العقد الأول من القرن العشرين بأنه العقد الأكثر إثارة في علم النفس منذ وفاة أرسطو. صحيح أنني في عام 2014م كتبت مقالا بمناسبة مرور 100 سنة على اندلاع الحرب العالمية الأولى وسميتها (حرب الكيميائيين) ولاحقا كتبت مقالا عن الحرب العالمية الثانية وسميتها (حرب الفيزيائيين) ومع ذلك بكل دقة يمكن كذلك أن نصف الحرب العالمية الأولى أنها أول (حرب نفسية) كبرى. ولهذا عندما تم تكليف أينشتاين في عام 1932م من قبل المعهد الدولي للتعاون الفكري التابع لعصبة الأمم بمناقشة ودراسة أسباب الحرب لم يكن من المستغرب أن يتجه أينشتاين لطرح سؤال (لماذا الحرب) على أهم وأشهر علماء النفس في ذلك الزمن: فرويد.
قد يكون أينشتاين عبقريا في الفيزياء والعالم الغريب للنظرية النسبية وبالرغم من أنه أرجع سبب الحرب إلى الغريزة العدوانية البشرية ونزعة التدمير المتأصلة لكنه أراد المزيد من الفهم المتعمق للطبيعة النفسية للحرب والأهم من ذلك طرح الحلول العملية لتجنبها ولهذا اتجه إلى فرويد وأرسل له يسأله لماذا الحرب؟. بالجملة كان جواب فرويد عن سؤال (لماذا الحرب) أن النفس البشرية مدفوعة بغريزتين متعارضتين وهما غريزة الحياة التي تدفع إلى الاندماج وغريزة الموت أو العدوانية التي تدفع إلى التدمير. وبالرغم من أن وجهة نظر فرويد في الحرب أنها المشكلة الأخطر التي تهدد البشرية إلا أنه كان يرى أنه لا يمكن التخلص من الميول العدوانية، ولكن يمكن تصريفها في قنوات أخرى. ومن وجهة نظري أن أهم ما ذكره وتوصل له سيغموند فرويد هو أن العدوانية تعمل على تعزيز (التلاحم) داخل المجموعة الواحدة من خلال خلق عدو مشترك. كما ذكرنا كانت هذه المراسلات والسجال الفكري والفلسفي بين أينشتاين وبين فرويد في عام 1932م والغريب أنه بعد ذلك بعام واحد فقط استلم أدولف هتلر والحزب النازي مقاليد الحكم في ألمانيا وبعدها بسنوات سوف يتسبب في اندلاع الحرب العالمية الثانية التي هي أشنع في عدد القتلى ووسائل الفتك والقتل بالبشر. وعلى كل حال استبق فرويد الأحداث والزمن عندما فسر بشكل مبكر جزء من السلوك العنيف الذي سوف تتخذه ألمانيا النازية ضد الدول الأوروبية الأخرى وبجرائم الإبادة الجماعية ضد اليهود والغجر والبولنديين وغيرهم وأن من أسباب ذلك أهداف داخلية لتوحيد المجتمع الألماني الأبيض حول عدو ومشترك. وكذلك لأهداف خارجية لبث الرعب والخوف لدى الدول المعادية والمناهضة وذلك أشبه بسياسة (الصدمة والرعب) التي استخدمت كثرا عبر التاريخ على يد البرابرة مثل قبائل الهون أو التتار أو القرامطة وغيرهم.
الطريف في الأمر على ذكر الحرب العالمية الثانية أنه في نهاية تلك المراسلات بين أينشتاين وبين فرويد توصلا لفكرة ضرورة تفعيل دور (منظمة دولية) مثل عصبة الأمم League of Nations (وخليفتها لاحقا: هيئة الأمم United Nations) في فرض السلام وحل النزاعات بين الدول. ووجه الاستغراب والاستهجان من مواقف وآراء أينشتاين أنه بعد سنوات قليلة من هذا التنظير البارد حول (لماذا الحرب) وما هي أسبابها وكيف نحول دون استمراريتها نجده أصلا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1 سبتمبر عام 1939 بشهر كامل أي في يوم 2 أغسطس عام 1939م يكتب الرسالة الشهيرة إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت يحثه على ضرورة البدء في تصنيع القنبلة الذرية قبل أن يسبقهم هتلر والألمان في تصنيع ذلك السلاح المريع. وإذا بنا نجد أن هذا المفكر والفيزيائي الذي يتفلسف حول لماذا الحرب وحتى قبل أن تندلع يساهم بقوة وحماس في تشكيل أجواء الحرب بدلا من أن يفعل فكرته البائسة في جعل عصبة الأمم تفرض السلام وتحل النزاعات بين الدول. وينبغي أن نشير إلى أن أينشتاين لاحقا أبدى ندمه على المساهمة في تطوير القنبلة الذرية وإن كان لم يشارك بشكل مباشر في مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلة الذرية ولهذا ساهم بعد ذلك مع عالم الفيزياء الدنماركي نيلز بور في عقد مؤتمرات الذرة من أجل السلام وإن كان وقع في نفس تلك الفترة في تناقض أخطر حيث دعم إقامة دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين بل تم ترشيحه لمنصب رئيس دولة إسرائيل.
لماذا تحدث جرائم الحرب؟
وقبل أن نغادر نعود في خاتمة المقال لطرح سؤال (لماذا الحرب) بطريقة مختلفة وفي سياق مغاير وهو لماذا في بعض الحروب الأهلية تحصل بشكل شنيع جرائم الحرب الأثيمة مثل الإبادة الجماعية والاغتصاب والتدمير وحرق المنازل والمزارع. وهذا ما حصل في السودان الجريح في عام 2003م في حرب دارفور الأولى التي راح ضحيتها حوالي 300 ألف أغلبهم من المدنيين الأبرياء وتم تشريد الملايين وحرق عشرات القرى بالكامل بل وحتى حصلت جريمة اغتصاب النساء. في الأسبوع الماضي ومع الأحداث الأليمة في مدينة الفاشر تم نشر مقطع لسيدة سودانية (الضابطة شيزار حالد أخزاها الله) وهي تخاطب جمع من المقاتلين من مجرمي الدعم السريع والجنجاويد وتحثهم على الفتك والقتل بخصومهم ثم كان الطامة الكبرى أن قالت كلاما يفهم منه حث الجنود المرتزقة على أخذ سبايا من بنات ونساء شمال السودان.
ولهذا كما حصل قبل حوالي قرن من الزمن أن أشترك العالم الفيزيائي أينشتاين مع عالم النفس فرويد في محاولة الإجابة عن سؤال (لماذا الحرب؟) وعندما تم نشر السجال الفكري بينهما في كتاب مشترك كتب مقدمته الفيلسوف البريطاني المشهور والمعادي للحرب برتراند راسل وأدلى بدلوه هو الآخر في إعطاء إجابة على سؤال (لماذا الحرب). ولهذا على نفس النسق نحتاج أن نكرر السؤال في صيفة معدلة (لماذا جرائم الحرب) لماذا نجد شعب لطيف المعشر ومسالم في الغالب مثل الشعب السوداني الشقيق في الوقت الحالي أو الشعب الياباني قبل الحرب العالمية الثانية تتحول شرائح واسعة من هذه الشعوب من أشخاص لطفاء إلى مجرمي حرب لا يترددون في ارتكاب أشنع الجرائم أثناء القتال. كما حصل في إقليم دارفور ومدينة الفاشر بالنسبة للسودان وكما حصل مع جرائم الجيش الياباني ليس فقط في كوريا والفلبين وبورما وتايلند بل كذلك حتى المدنيون من سكان محافظة وجزر أوكيناوا اليابانية.
سؤال محير بالنسبة لي لماذا شعب مسالم ولطيف مثل الشعب السوداني أو الشعب الياباني في خضم الحرب الأهلية قد يرتكب جرائم حرب يندى لها الجبين في حين في المقابل نجد أن شعوبا أخرى مثل الشعب العماني اللطيف هو الآخر وبالرغم من اندلاع ثورة شيوعية فيه قبل نصف قرن (ثورة ظفار) إلا أن القتال سلم منه المدنيون وكان الصراع محصورا بين الثوار وبين الجيش المحلي المدعوم من بريطانيا وإيران الشاه. وهنا أختم بأن أوجه السؤال لعلماء النفس وفقهاء الشريعة والدين والفلاسفة والمفكرين والكتاب والعلماء (لماذا جرائم الحرب؟) قد تحصل من شعب يغلب عليه في العادة اللطف والمسالمة وهو سؤال شائك ومربك بالنسبة لي ولم أجد له جوابا مقنعا وشافي.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق