د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1447/5/10 الموافق الأول من نوفمبر
تعرفنا على عبارة (الفاتح من سبتمبر) من ثورة القذافي الهالك التي حصلت في أول يوم من شهر سبتمبر بمعنى أنها مستهل شهر سبتمبر (الفاتح من سبتمبر) ونحن اليوم السبت في أول يوم ومستهل شهر نوفمبر فنحن في يوم (الفاتح من نوفمبر) ولهذا التاريخ ذكرى مهمة (ثورة الفاتح من نوفمبر) أو كما تشتهر أكثر باسم: ثورة التحرير الجزائرية التي اندلعت يوم 1 نوفمبر من عام 1954م والتي تستحق أن يفرد لها مقال خاص وربط بداياتها ونهاياتها ومآسيها وأمجادها بثورة السابع من أكتوبر في غزة، ولكن هذا حديث آخر. وفي الواقع نحن نتحدث اليوم عن أهمية هذا التاريخ في الرزنامة السنوية المسيحية ليس فقط لأن الأول من نوفمبر يتوافق مع يوم عيد (جميع القديسين) ولكن لأنه كذلك تسبقه مناسبة وثنية ذائعة الصيت هي (عيد الهالوين) ويتلوه مباشرة مناسبة دينية بارزة هي (عيد جميع الأرواح).
ويجب أن أوضح أن هذه المناسبات الدينية والفعاليات الترفيهية المرتبطة بها هي طقوس وعادات أجنبية وغريبة عن مجتمعنا العربي والإسلامي وما كنت لأتحدث عنها لو لا الضجة الكبيرة التي حصلت الأيام الماضية مع منكرات وخزعبلات (مولد السيد البدوي). كل ذو فهم سليم يعلم أن العقيدة المنحرفة تقود إلى تدين وتعبد ضال فلانحراف عن القعيدة السليمة يؤدي إلى تشوه المفاهيم الدينية وهذا بدوره يقود إلى سلوكيات منحرفة وهو ما تم تداوله بكثافة في الأيام الماضية من الانحرافات العقدية والانفلاتات السلوكية الموثقة في التغطية المكثفة للعديد من صانعي المحتوى في وسائل التواصل الاجتماعي الذي نقلوا صورة حية عما كان يحدث في مولد السيد البدوي هذا العام.
وبالعودة لأول يوم في شهر نوفمبر نجده كما ذكرنا أنه يتوافق مع ما يعرف الديانة المسيحية بعيد (جميع القديسين) وهو مناسبة دينية بالغة الأهمية لأغلب الطوائف المسيحية. الطريف في الأمر أن العيد المسيحي (عيد جميع القديسين) الذي احتفل به لأول مرة على الأغلب في مطلع القرن السابع الميلادي (عام 609م) بهدف أن يكون يوم عيد يحتفل فيه بحياة العديد من القدسيين الذين لا يوجد يوم عيد محدد لهم خلال العام. ووجه الطرافة أنني كنت أعتقد أن (الرزنامة المسيحية) التي تحدد عدد القدسيين الذي خصصت لهم أيام عيد أو أيام صوم عددهم محدود وإذا بي بعد الرجوع للرزنامة الكاثوليكية أجد بها عدد هائل يبلغ 114 قديسا. بل إن شهر نوفمبر نفسه الذي فيه عيد جميع القديسين يوجد فيه أيام أخرى للحوالي تسعة قديسين (مثل عيد القديس ألبرت والقديس أندرو والقديسة كاثرين والقديس مارتن .. الخ). وهذا يدل على مزيد من انحراف العقيدة وتناقض الفكر فلماذا تتعدد الأعياد في نفس الشهر الذي من المفترض أن يبدأ بعيد جامع مانع لكل القديسين.
وبالرغم من خطورة الانحراف العقدي في عيد مولد السيد البدوي أو عيد جميع القديسين أو عيد المساخر اليهودي ومع هذا سوف أركز في ربط الفساد والشطط في الاعتقاد الديني وانعكاس ذلك على الانفلات السلوكي المصاحب لبعض الموالد الدينية في البلدان العربية والإسلامية وما يقابل ويناظر ذلك من الانحلال الأخلاقي في الأعياد والموالد المسيحية أو اليهودية. في المجتمعات الغربية المسيحية لا يوجد تفريق أو انفصال بين عيد الهالوين وعيد جميع القدسيين فالعيد الأول يقع مباشرة في عشية العيد الثاني بمعنى أن الفارق بينهم ساعات معدودة. تشير المصادر إلى أن أصل كلمة الهالوين (Halloween) هي في الأصل اختصار لعبارة: عشية جميع القديسين (All Hallows’ Eve) وذلك أن كلمة Hallow هي كلمة إنجليزية قديمة تعني (مقدس) في حين أن كلمة Eve تعني عشية أو مساء (مثل عشية عيد الميلاد Christmas Eve). والمقصود أن الهالوين في الأصل كان عشية ليلة عيد جميع القدسين ولهذا موعد الهالوين هو مساء يوم 31 أكتوبر في حين أن عيد جميع القديسين بعده بساعات أي نهار يوم 1 نوفمبر. وما يهمنا هنا هو تحول تلك المناسبة الدينية التعبدية المرتبطة بالصوم والتأمل إلى عادات وفعاليات ترفيه منها ما هو بريء (مثل ارتداء الأطفال للملابس التنكرية وطلب الحلوى) ومنها ما هو بذيء وفاحش وماجن. ومن العجائب كيف يتحول سوك بعض البشر بالتدرج واتباع خطوات الشيطان لدرجة أن يتحول عيد ديني مقدس مثل عيد جميع القديسين إلى حفلات صاخبة وتجمعات ماجنة يتنشر فيها الفجور والخمور كما يحصل في ليلة الهالوين أو الليلة الأشنع التي قبلها والتي تسمى في بعض الدول بـ (ليلة الشيطان Devil’s Night). في تلك الليلة الشريرة الشيطانية ليس فقط ترتكب العربدة والمجون ولكن أيضا قد يقوم بعضهم بالتخريب والحرق المتعمد للمنازل والسيارات وإلحاق الأذى بالآخرين والاعتداء عليهم وترويعهم ولهذا من ألقاب هذه الليلة الشنيعة (ليلة الأذى mischief night). ومع كل هذا الرعب والخوف الذي قد يحصل في ليلة الهالوين أو ليلة الأذى التي قبلها ليس من المستغرب أن (ليلة الهالوين) أصبحت مرادفة لأفلام الرعب التي تتفنن فيها هوليوود.
انحراف الأعياد من التقديس إلى التدنيس
تجدر الإشارة إلى أنه لا يتوقف تشويه عيد القديس الديني بتحويل عشيته والليلة السابقة له إلى حلفة مجون وعربدة باسم الشيطان كما يحصل في ليلة الهالوين ولكن نجد أن انحراف السلوك وصل بالبعض في الدول المسيحية الكاثوليكية إلى تحويل عيد جميع القديسين في يوم 1 نوفمبر وكذلك عيد جميع الأرواح في يوم 2 نوفمبر إلى حفلة رعب صاخبة تسمى (يوم الموتى Day of the Dead). وكما تسرب إلى المسيحية العيد الوثني القديم (عيد الهالوين) والذي كان منتشرا في شمال فرنسا والجزر البريطانية وإيرلندا زمن الشعوب السلتية Celtic التي كانت تعتقد أنه في ليلة الهالوين ونهاية موسم الحصاد وبداية فصل الشتاء تضعف الحدود بين عالم الأحياء وعالم الأرواح مما يسمح للأشباح والجنيات بالمرور إلى عالمنا. فكذلك نجد أن المسيحية الكاثوليكية عندما وصلت إلى العالم الجديد في المكسيك وما حولها، تسرب إلى المسيحية العيد الوثني القديم في حضارة الأزتك والمايا للشعوب الأصلية المكسيكية والتي كانت تحتفل بعيد الموتى والذي تداخل وتطابق مع عيد (كل الأرواح All Souls Day) الذي يقام في يوم الثاني من نوفمبر. وما يهمنا هنا أنه مرة أخرى يتحول العيد الديني المقدس إلى احتفال ومهرجان مدنس فبدلا من تذكر الموتى بشيء من الحزن والعضة والتبجيل لأرواح الأسلاف أصبحت احتفالات عيد الموتى في المكسيك التي تقام في الساحة العامة أمام كاتدرائية مكسيكو ستي الضخمة يطغى عليه الغناء الصاخب والرقص بل وتعاطي المخدرات وكأنه بذلك تشابه كارنفال ريو دي جانيرو الشهير.
ومن أدلة أن الانحراف السلوكي أثناء الاحتفال بالأعياد الدينية قد يتزايد مع الزمن إذا حصل تساهل كبير في طلب البهجة المفرطة المصاحبة بتشريع الخروج عن المألوف وإطلاق العنوان للنفس أن تفعل ما تشاء، وبالفعل نجد ذلك بشكل واضح في العيد الديني اليهودي المهزلة (عيد المساخر). وفق ما ورد في كتاب العهد القديم في سفر إستير أنه عند نجاة اليهود المقيمين في الإمبراطورية الفارسية من المذبحة العالمة التي كان يخطط لها الوزير (هامان) وتقديرا لدور الذي قامت به ابنة أخ مردخاي الفتاة اليهودية أستير زوجة الملك الفارسي في تخليص قومها من المذبحة. ولهذا أصبح اليهود يحتفلون كل سنة بنجاتهم من مؤامرة هامان الفارسي وذلك من خلال إقامة (عيد البوريم) كما يحتفلون بعيد الفصح (عيد الفطير) بمناسبة نجاتهم من فرعون وخروجهم من مصر. في بداية الأمر كانت شعائر اليهود الاحتفالية في عيد البوريم (المساخر) تتمثل في صيام هذا اليوم وتلاوة سفر إستير من الكتاب المقدس وعندما يأتي ذكر هامان الفارسي أثناء القراءة يسخرون منه بإصدار أصوات عالية والهدف من هذا الضجيج محو اسم هذه الشخصية المكروهة عندهم. ثم مع الزمن أضافوا على عيد المساخر طقوس ترفيهية مثل التجمهر في أفواج والرقص في الشوارع وارتداء الملابس التنكرية المضحكة والمبهرجة ونتيجة للتشابه في استخدام الملابس التنكرية البعض يصف عيد الماخر بأنه هالوين اليهود. والأغرب من ذلك أنه في هذا العيد بالذات أصبحت التقاليد اليهودية وبعض الفتاوى الدينية تحث على الإفراط في شرب الخمور والسكر لدرجة أنه ورد في كتاب التلمود عبارة (يجب على الشخص أن يسكر في عيد المساخر حتى لا يستطيع التمييز بين: مردخاي المبارك وهامان الملعون). وينقل عن الحاخام اليهودي المشهور موسى بن ميمون قوله في عيد المساخر (يجب على المرء الشرب حتى الثمالة وحتى الإغماء) والمعتدل من أحبارهم من يحث على شرب الخمر أكثر من المعتاد وإن لم تصل بالشخص إلى السكر التام.
وبعد هذه الجولة في التاريخ وفي الأديان والأعياد أود أن أختم بأن الشياطين والنفس الأمارة بالسوء ما تزال تتدرج في التلاعب بالبشر وتحرفهم عن الجادة حتى تتحول الأعياد الدينية والمناسبات الروحانية في اليهودية والمسيحية والإسلام إلى مجرد طقوس شعائرية منحرفة يخالطها الكثير من الانحلال الأخلاقي والسلوك الشائن كما شوهد في مولد السيد البدوي في ديار المسلمين وكما في ليلة الشيطان وأهوال الهالوين في بلاد النصارى وكما في الإفراط في السكر والخمور في عيد المساخر اليهودي.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق