السبت 1447/4/26
مع ضجيج الأخبار السياسية المرتبطة بالصراع العربي الإسرائيلي ومآسي العدوان على غزة وما تلا ذلك من توقيع اتفاق غزة لإنهاء الحرب لعلي أستأذن القارئ الكريم في أن أنقل مجرى السياق للحديث عن اثنين من العلماء الحاصلين على جائزة نوبل في الكيمياء وكل منهما هاجر إلى أمريكا وهو شاب صغير وكل منهما اشترك في الحصول على جائزة نوبل مع عالم كيمائي ياباني، ولكن أحدهما عربي من أصول فلسطينية والثاني يهودي من أصول بولندية. عالم الكيمياء رولد هوفمان الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1981م هو من عائلة بولندية هاربة ونازحة من أهوال النازية أثناء الحرب العالمية الثاني وقد وصل إلى أمريكا في عام 1949م وهو في عمر 12 ودرس بالجامعات الأمريكية وتدرج في مسيرته البحثية ليعمل في جامعة كورنيل الأمريكية العريقة ويحصل على جائزة نوبل بالمشاركة مع العالم الياباني كينيتشي فوكوي من جامعة كيوتو. وفي المقابل نجد أن عالم الكيمياء عمر ياغي الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025 هو من عائلة فلسطينية نازحة مدينة غزة وهاربة من أهوال الصهيونية أثناء احتلال فلسطين وقد وصول هو الآخر بدوره إلى أمريكا في عام 1980 (أي قبل سنة واحدة فقط من حصول هوفمان على جائزة نوبل) وذلك عندما كان عمر ياغي يبلغ من العمر 15 سنة. وعلى نفس النسق درس عمر ياغي بإحدى الجامعات الأمريكية وتدرج في مسيرته البحثية ليعمل في جامعة بيركيلي العريقة ويحصل لاحقا على جائزة نوبل بالمشاركة مع العالم الياباني سوسومو كيتاغاوا من جامعة كيوتو.
من هذا وذلك نعلم أن الطريق إلى جائزة نوبل ليس دائما مفروشا بالورود وإنما يكون أول خطوة فيه مغموسة في الشقاء والمعاناة فالطفل رولد هوفمان وهو في سن الخامسة اضطر هو ووالدته أن يعيشوا مرة في عليّة attic منزل ومرة في مخزن حتى يختبؤوا من الجنود النازيين بينما نجد أن الطفل الصغير عمر ياغي في نفس تلك السن يعيش هو وأسرته في مخيم للاجئين الفلسطينيين في ضواحي مدينة عمان وقد كانت أسرته المكونة من 12 تعيش في غرفة واحدة مع الماشية ودون كهرباء. وكما يقال من رحم المعاناة يولد ليس فقط النجاح ولكن الإبداع والتميز وهذه إحدى الدروس والعبر التي يمكن نستخلصها من القصة الكيميائية المزدوجة لعمر ياغي ورولد هوفمان وأن العقول البشرية تتشابه. ليس صحيحا أن اليهود أكثر عبقرية من العرب ولهذا يحصلون على جوائز نوبل أكثر منهم ولكن لأن الفرصة الكاملة لا تتاح دائما للعباقرة العرب بنفس الدرجة بالمقارنة مع فرص اليهود ولذلك في السنوات الأخيرة زاد عدد العلماء العرب الحاصلون على جوائز نوبل في الكيمياء بالذات كما حصل مع المصري أحمد زويل والتونسي منجي الباوندي والأردني السعودي عمر ياغي.
من الدروس والعبر التي يمكن أن تستخلص من وصول عمر ياغي لجائزة نوبل أنه حصل عليها في مجال من علم الكيمياء يمزج ويخلط بين مواد كيميائية مختلفة هي مركبات عضوية مع أيونات معدنية لتشكل معقدات كيميائية جديدة تسمى (الأطر العضوية المعدنية). عندما أُعلن يوم الأربعاء الماضي عن فوز عمر ياغي بجائزة نوبل اشترك معه في هذا الإنجاز العلمي علماء من جنسيات مختلفة أحدهما عالم ثنائي الجنسية (بريطاني/ أسترالي) والآخر ياباني الجنسية. ولهذا كما أن المركب الكيميائي المكون من مزيج من المواد أصبح أفضل بكثير من المواد الكيميائية المفردة فكذلك تنوع الهويات في شخصية الدكتور عمر ياغي (فلسطيني الأصل وأردني المولد وسعودي الجنسية وأمريكي الإقامة والعمل) جعل منه شخصية ذات قدرات مميزة وفائقة. الجدير بالذكر أن عددا لا بأس به من أبرز العلماء الذين حصلوا على جائزة نوبل كانوا مزدوجي الجنسية وينتمون إلى ثقافات ومجتمعات إنسانية متعددة. في الكتاب الثري والشيق (الطريق إلى ستوكهولم) للمؤرخ والكيميائي الهنغاري استفان هارغيتاي الذي يوثق ويحلل تاريخ جائزة نوبل في التخصصات العلمية (الطب والفيزياء والكيمياء) نجده يتعرض لظاهرة تعدد الجنسيات لبعض علماء نوبل بشكل متوسع في الفصل الثاني من ذلك الكتاب.
عمر ياغي بالثوب السعودي
كما كان طريق عمر ياغي للوصول إلى ستكهولم والحصول على جائزة نوبل يمر عبر محطات مختلفة سوف نجد أن وصول عمر ياغي إلى الرياض وحصوله على الجنسية السعودية قد مرّ عبر مراحل متتالية. المسيرة الفعلية للدكتور عمر ياغي في طريق نوبل بدأت من جامعة أريزونا وفيها توصل لبدايات اكتشافه العلمي المميز عن مركبات الأطر العضو معدنية MOFs وذلك في مطاع التسعينيات من القرن العشرين. ومع الوقت تدرج التطوير لهذه المنهجية العلمية الجديدة مع تنقل عمر ياغي بين جامعات ميتشجان وكاليفورنيا لوس أنجلس وأخيرا جامعة بيركلي والتي منذ وصوله لها أصبح يلقب بأبي الكيمياء الشبكية (Reticular chemistry). وبالجملة المرحلة الأكثر أهمية في الحياة المهنية للدكتور عمر ياغي كانت في عام 1995م وذلك عندما نشرت له مجلة الطبيعة Nature مقالا علميا عن اكتشافه الكيميائي البارز وبلغ من أهمية هذا البحث أنه اختير لكي يتم وضعه في صفحة الغلاف لتلك المجلة العلمية العريقة والتي تعتبر أهم مجلة علمية على الإطلاق. ومن غلاف هذه المجلة يمكن أن نبدأ قصة علاقة عمر ياغي بالباحثين السعوديين ولاحقا حصوله على الجنسية السعودية وذلك أن الدكتور زيد العثمان المبتعث من قسم الكيمياء بجامعة الملك سعود في حدود بداية عام 2000م كان يبحث عن موضوع لمشروع أحد مقررات الدكتوراة في جامعة ولاية أوكلاهوما وأثناء بحثه في المجلات العلمية وقع نظره على ذلك الغلاف من مجلة نيتشر مما أثار اهتمامه العلمي. وشيئا فشيئا بدأ باحث الدكتوراه زيد العثمان في محاولة التواصل مع عمر ياغي عندما كان يعمل في جامعة ميتشجان للحصول على مزيد من المعلومات التفصيلية عن مركبات MOFs وتوثقت العلاقة بينهما عندما تقابلا في بعض المؤتمرات العلمية التي تنظمها الجمعية الكيميائية الأمريكية.
وإذا كانت سنة 1995م هي اللحظة الحاسمة في مسيرة عمر ياغي في طريقة إلى مدينة ستوكهولم وجائزة نوبل فإن سنة 2009م هي ربما اللحظة الحاسمة في طريق عمر ياغي إلى مدينة الرياض وذلك أنه في ذلك العام قام الدكتور زيد العثمان بالتواصل مع عمر ياغي وتوجيه الدعوة له لزيارة قسم الكيمياء بجامعة الملك سعود ومن المصادفات أن الجامعة قبل ذلك بسنة واحدة كانت قد بدأت برنامج استقطاب علماء نوبل. وبحكم أن تلك الزيارة توافقت مع الفترة الذهبية لدعم الأبحاث العلمية في جامعة الملك سعود لذا تم بداية التعاون العلمي الفعلي مع عمر ياغي بأن أصبح المستشار العلمي لكرسي أبحاث المواد المتقدمة التي تولى رئاسته الدكتور زيد العثمان وقد ساهم عمر ياغي في وضع المخطط العلمي لهذا الكرسي البحثي وأقترح قائمة التجهيزات المختبرية الواجب توفرها في المختبر المتقدم في قسم الكيمياء.
لاحقا عبر السنوات التالية توالت زيارة عمر ياغي لقسم الكيمياء وكلية العلوم عندما تم استضافته كضيف ومتحدث رسمي في أكثر من مؤتمر دولي في مجال الكيمياء قامت بتنظيمه قسم الكيمياء بجامعة الملك سعود والجمعية الكيميائية السعودية. وعليه لقد كانت أبحاث عمر ياغي معروفة بشكل واسع في قسم الكيمياء بجامعة الملك سعود وبالفعل كانت أبحاث بعض طلاب وطالبات الدراسات العليا مبنية بشكل رئيس على استخدام تقنياته العلمية في تحضير مركبات الكيمياء الشبكية. ربما المحطة الثانية في طريق عمر ياغي إلى الرياض تتمثل في عملية ترشيحه لجائزة الملك فيصل العالمية للعلوم (في مجال الكيمياء) وبحكم أنني عبر السنوات الماضية كان يتم تكليفي من قبل رؤساء قسم الكيمياء بملف اختيار الأسماء المميزة في مجال الكيمياء بعد مناقشتها مع بقية الزملاء والزميلات بالقسم لترشيحها لجائزة الملك فيصل فقد تم التنسيق مع زيد العثمان أن يتواصل مع عمر ياغي لتجهيز الملف الذي سوف نقدمه عن طريق الجامعة إلى أمانة جائزة الملك فيصل العالمية. وبالمناسبة في مناسبات متعددة فاز مرشحو قسم الكيمياء بجامعة الملك سعود بجائزة الملك فيصل العالمية مثل الأمريكي آلن بارد والسويسري مايكل غراتزل والأمريكي ريتشارد زير وطبعا عمر ياغي.
وبعد حصول عمر ياغي على جائزة الملك فيصل العالمية في عام 2015م وبحكم أن أمانة جائزة الملك فيصل أصبحت تفضل أن يذهب الفائزون بجائزة في الأفرع العلمية لإلقاء محاضراتهم بعد الحصول على الجائزة في قاعة المحاضرات الكبرى بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (KACST) بعد أن كانوا يوجهون قديما إلى قاع حمد الجاسر بجامعة الملك سعود ويبدو أنه من هذه اللحظة بدأت المحطة الثالثة في طريق عمر ياغي إلى الرياض. ونظرا للتجهيزات العلمية المتقدمة بشكل كبير في المعاهد العلمية المتخصصة والمتطورة في مدينة العلوم (KACST) بدء عمر ياغي يوثق تعاونه العلمي معهم بشكل متزايد ويظهر لي والله أعلم أن مدينة الملك عبد العزيز للعلوم التقنية هي من رشحت عمر ياغي للحصول على الجنسية السعودية وهذا ما حصل كما هو معلوم في عام 2021م والباقي تاريخ قريب ربما يعرفه الجميع.
الاستثمار العلمي في عمر ياغي
من الأقوال والعبارات المشهورة والمترددة التي تقل في حق العلماء الذين حصلوا على جائزة نوبل (هل توجد حياة بعد جائزة نوبل) والسبب في طرح هذا السؤال أن بعض علماء نوبل يحصلون عليها في سن متقدم من العمر لهذا بعضهم يفضل أن يتقاعد بعد نوبل. والبعض قد يفضل أن يتفرغ أكثر للحياة الاجتماعية والعلاقات العامة وإجراء المقابلات مع وسائل الإعلام بل وحتى تقديم برامج وثائقية علمية كما فعل عالم الكيمياء رولد هوفمان الذي ذكرناه في أول المقال والذي قدم برنامجا تلفزيونيا في عام 1988م بعنوان (عالم الكيمياء) من 26 حلقة. وبالمناسبة في عام 2021م قام عالم الأعصاب الأمريكي إريك كاندال والحاصل على جائزة نوبل في الطب عام 2000م بتأليف كتاب حمل عنوان (يوجد حياة بعد جائزة نوبل) ناقش فيه مسيرته العلمية لمدة عشرين سنة بعد نوبل. والمقصود أن بعض العلماء قد يستمر في التردد على المختبر لسنوات طويلة بعد نوبل فعالم الكيمياء الهنغاري ألبرت ناجيرابولت مكتشف تركيب فيتامين سي والحاصل على جائزة نوبل عام 1937 وحتى وفاته وهو عجوز في سن 93 كان ما زال يذهب لمختبره العلمي. ومن الطرائف أنه بعد نشر كتاب (يوجد حيا بعد جائزة نوبل) بسنة واحدة فقط حصل عالم الكيمياء كارل شاربلس على جائزة نوبل للمرة الثانية وذلك في عام 2022م بعد أن حصل عليها للمرة الأولى في عام 2001م وبالمناسبة هو قد حصل على جائزة الملك فيصل في الكيمياء عام 1995م. وهذا ما يؤكد أنه بالفعل توجد حيا بعد نوبل لبعض العلماء لدرجة أن يحققوا جائزة نوبل ثانية كما حصل مع عالم الكيمياء البريطاني فريدريك سانجر وعالم الفيزياء الأمريكي جون باردين.
وما أود الوصول له أنه بالنسبة للدكتور عمر ياغي وهو يبلغ من العمر 60 عاما وبمشيئة الله المستقبل ما زال أمامه لمزيد من الإبداع والتميز في مجال الأبحاث الكيميائية. وفقا لوكالة الأنباء العالمية رويترز فأنه خلال الفترة من عام 2000م وحتى عام 2010م كان عمر ياغي ثاني كيميائي على مستوى العالم من حيث الاستشهاد بأبحاثه العلمية (حتى الآن تجاوزت 250 ألف استشهاد) وهذا أمر متوقع لأن مجال أبحاثه كان مجالا جديدا تماما ولكن بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على بداية المشوار العلمي لعمر ياغي ربما قد يخفت قليلا زخم الأبحاث العلمية المتطورة والجديدة. وعليه أوقع أن أفضل ما يمكن أن نستثمر فيه في الخبرة والتميز العلمي لعمر ياغي هو إرسال أكبر عدد من الباحثين السعوديين للعمل في مختبره العلمي والاحتكاك المباشر به ونقل الخبرة والتقنية العلمية منه. في الخمس سنوات الأخيرة بدأ عمر ياغي يتجه أكثر لبذل مزيد من الجهد والوقت في أنشاء بعض الشركات الناشئة والمبنية على فكرة الاستفادة التجارية من نتائج الأبحاث وبراءات الاختراع العلمية والملكية الفكرية وهذه ظاهرة قديمة ومنتشرة تتعلق بإنشاء شركات منبثقة من الجامعات ومراكز الأبحاث (شركة ناشئة ومنبثقة من الجامعةuniversity spin-off company ).
وبالفعل قام عمر ياغي في عام 2020م بتأسيس شركة ناشئة تحمل اسم Atoco مركزها بولاية كاليفورنيا وتركز على تسويق ابتكاراته في تقنيات الكيمياء الشبيكة بالذات في مجال استخلاص المياه من الهواء وتخفيف تلوث انبعاثات الكربون. وفي عام 2021م شارك عمر ياغي كذلك في تأسيس شركة ناشئة ثانية تهتم بتطبيق اكتشافاته في الكيمياء الشبكية في تخزين الطاقة مثل تخزين غاز الهيدروجين. وبحكم أنه في العشر سنوات الأخيرة توجهت أبحاث عمر ياغي إلى المجال البحثي المذهل الذي يطلق عليه (النسيج الجزيئي molecular weaving) ويبدو أن هذه هي الموجة الجديدة من علم المواد المتقدم بعد أن أصبحت تقنية النانو (دقة قديمة) ولهذا أقترح أن يتم الاتفاق مع الدكتور عمر ياغي بتدشين عدد من الشركات الناشئة startup companies يكون مقرها داخل المراكز البحثية الكبرى في المملكة وتهدف لضخ دعم مالي سخي من أجل (الاستثمار في عمر ياغي). وكما بدأنا بالحديث المزدوج عن عمر ياغي وعن عالم الكيمياء رولد هوفمان لعلنا نختم بهما ففي مناسبة قديمة تحسّر وتضايق رولد هوفمان بأن الحائزين على جائزة نوبل في أمريكا لا يحظون بنفس درجة التبجيل والاهتمام التي يحصل عليها علماء نوبل في الدول الأوروبية واليابان وذكر عدة مواقف حصلت معه تؤكد هذا الشيء ومن أطرفها أنه لم يجد من يسانده عندنا أراد أن ينشر ديوان شعر كتبه. بينما في يخص عمر ياغي أتوقع أنه بمشيئة الله سوف يحظى بتقدير ودعم مالي ومعنوي سخي جدا من القيادة والشعب السعودي فنحن كرماء وهو يستاهل. وفي الواقع قبل عدة أشهر وفي مطلع عام 2025 تم الإعلان عن (خريطة منظومة التقنية العميقة في المملكة) والتي أعدتها جامعة الملك عبد الله مع مؤسسة Hello Tomorrow وتم التأكيد أنه من أعمدة وركائز تسريع نمو (التقنية العميقة Deep Tech) الاستثمار في الشركات العلمية الناشئة واستقطاب المواهب العقول العلمية وهذه كلها تتحقق بامتياز في عمر ياغي.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق