السبت، 13 ديسمبر 2025

( جيمس واطسون .. آخر رجال العلم المشتهرين )

د. أحمد بن حامد الغامدي

الأحد 1447/5/18

يوم أمس توفي عالم الإحياء الأمريكي الباز جيمس واطسون مكتشف تركيب الحمض النووي DNA والحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1962م وفي الواقع كنت أتمنى أن يكون عنوان هذا المقال المختصر (وفاة جيمس واطسون آخر الرجال المحترمين) ولكن للأسف العنوان بتلك الصيغة تزيف صارخا للواقع. أعرف شخصية جيمس واطسون من قراءاتي في الكتب العلمية في المرحلة الثانوية وازداد إعجابي به كثيرا بعد أن قرأت كتابه المشهور (اللولب المزدوج The Double Helix) والذي يسرد فيه سيرته الذاتية وقصته الشيقة مع وزميله عالم الكيمياء البريطاني فرانسيس كريك في اكتشاف تركيب جزئي DNA الذي أطلقا عليه (سر الحياة) والبعض يطلق عليه (سلم الحياة) بحكم أنه يأخذ شكل السلم الحلزوني. وهذا الكتاب أحد أسباب شهرة جيمس واطسون وكذلك أحد أسباب السخط عليه وهذا ما يعكس الشخصية المتناقضة لهذا العالم فهو من جانب ألّهم وحفّز العديد من العلماء الشبان الذي أشاروا صراحة أنهم دخلوا في مجال علم الأحياء بسبب قراءتهم لذلك الكتاب مثل عالم الأعصاب الأمريكي لإيرك كاندل الحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 2000 ميلادي.

وفي الجانب المقابل تسبب نفس ذلك الكتاب في ترسيخ النظرة السلبية عن جيمس واطسون بأنه شخص عنصري يحتقر المرأة ولهذا بعد أن قامت مطبعة جامعة هارفرد بإخراج الطبعة الأولى من ذلك الكتاب رفضت أن تعيد طباعته بسبب الضجة التي أثيرت حوله. صحيح أن فرانسيس كريك الذي حصل على جائزة نوبل مع جيمس واطسون وصف ذلك الكتاب بأنه (ثرثرة مفرطة) لكن الانتقاد الأكبر حول سلوك واطسون أنه وصف عالمة الكيميائي البريطانية روزاليند فرانكلين بأنها متعجرفة وسخر من تسريحة شعرها وملابسها أو ارتدائها للنظارة. بينما كانت روزاليند في الواقع هي من ساهمت بشكل جذري في الاكتشاف العلمي التاريخي لتحديد تركيب DNA بعد أن أرتكب واطسون جريمة سرقة أحد الصور المهمة لتجربة أشعة إكس التي أجرتها روزاليند على الحمض النووي وكان من المفترض أن يرد لها الجميل بإبداء شيء من اللباقة معها خصوصا أنها توفيت في سن مبكرة ولم تشاركهم الحصول على جائزة نوبل. وفيما يتعلق بمشاكل جيمس واطسون مع النساء ومعاملته المستهترة بهن نجد أنه في كتابه الثاني (الجينات والفتيات وجامو) والذي نشره عام 2001م أثار ضجة إضافية لأنه في ذلك الكتاب الذي يعتبر الجزء التالي والمكمل لقصته العلمية مع DNA وأبحاثه الجديدة في هذا المجال أشار لجانب من قصة حياته وكيف تعرف على زوجته وكذلك لخيانته الزوجية وعلاقاته العاطفية خارج الزواج وهو ما يدل على سلوكه الوضيع في هذا الشأن.

بقي أن نقول إنه في السنوات الأخيرة قبل وفاة جيمس واطسون حصلت له مشكلة أكبر وذلك عندما صدرت منه تصريحات عنصرية ضد السود حيث زعم أنهم من ناحية علم الجينات أقل ذكاءً من البيض بمعنى إن الذكاء مرتبط بالعرق البشري وأن السود في مرتبة أدنى وهذا ما أثار عليه عاصفة كبرى أدت في النهاية إلى إيقافه عن العمل كمستشار لأحد المراكز البحثية الأمريكية وتجريده من ألقابه الفخرية ولذا عاش سنواته الأخيرة وهو شبه منبوذ من المجتمع العلمي في داخل الولايات المتحدة الأمريكية.

صحيح أن جيمس واطسون لم يكن محترما بدرجة كافية على مستوى السلوك البشري، ولكنه شخصية علمية على درجة فائقة من الأهمية والشهرة وللأسف بعد انحسار دور العلماء والباحثين في الحياة العامة لا يوجد في الوقت الحالي أي شخصية علمية ما زالت على قيد الحياة معروفة للأشخاص غير المختصين بالعلوم بعدما توفي عالم الفيزياء ستيفين هوكنغ وعالم الكيمياء أحمد زويل وعالم الفلك كارل ساغان والطبيب الجراح مايكل دبيكي. منذ 28 فبراير عام 1953م وهو تاريخ اكتشاف تركيب الـ DNA لم يحصل على الإطلاق أي اكتشاف علمي يفوق أهمية هذا الاكتشاف البارز وهذا ما يعزز شهرة ومكانة جيمس واطسون وفرانسيس كريك في دنيا العلوم ولهذا على الغلاف الخارجي لأحد أجمل الكتب العلمية التي قرأتها (Eurekas and Euphorias) تم رسم شخصية واطسون وكريك داخل رسومات شخصيات مشاهير العلوم على الإطلاق مثل نيوتن وأينشتاين ومدام كوري وفيثاغورس وفلمنج وأوبنهايمر. ولهذا كانت السعادة غامرة في المجتمع العلمي في جامعة الملك سعود في عام 2010م عندما تم الإعلان أن برنامج استقطاب علماء نوبل سوف ينظم محاضرة علمية لجيمس واطسون في مدرجات كلية العلوم. وفي ذلك الوقت كنت الأمين العالم لاتحاد الكيميائيين العرب ولهذا تم التنسيق مع الإخوة الكرام في الجامعة أن يتم منح جيمس واطسون ميدالية جابر بن حيان في تلك المناسبة المميزة في تاريخ الكلية. بينما في صيف هذا العالم وعند زيارتي لمدينة كيمبردج البريطانية حرصت أنا والزميل العزيز الدكتور عبدالكريم الخليفي على التقاط الصور ونحن نجلس على نفس الكراسي في داخل حانة النسر والتي كان يجتمع فيها جيمس واطسون وفرانسيس كريك مع بقية الباحثين في مختبرات جامعة كيمبردج حيث كانت تتم بينهم المناقشات العلمية وفي تلك الطاولة تم التوصل للحظة الإلهام العلمي لاكتشاف التركيب الصحيح للحمض النووي. والجدير بالذكر أن جيمس واطسون وزملائه كانوا على سباق في تحديد تركيب الـ DNA مع عالم الكيمياء الأمريكي العبقري لينوس باولنغ الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء وفي السلام والذي أرسل ابنه لإجراء أبحاثه في جامعة كيمبردج كي يتجسس على واطسون وكريك. بقي أن أقول إن باولنغ فشل فشلا ذريعا في تحديد تركيب الحمض النووي ولكن لعبقريته وشهرته العلمية تم رسم شخصيته في غلاف الكتاب سالف الذكر وهو يقشر برتقاله لأنه كان يحث على تناول جرام واحد يوميا من فيتامين سي وهي فكرة غبية من الناحية الطبية.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق