السبت، 13 ديسمبر 2025

( إجازة الخريف والسياحة الشتوية )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1447/6/1

لتلاميذ جيل الطيبين لطالما ابتهجنا بإجازة (منتصف العام الدراسي) التي كانت تمتد دائما لمدة أسبوعين متواصلة وفي ذلك الزمن الجميل لم يكن شائعا ارتباط تلك الإجازة بالسفر لخارج المملكة وإن كان من المحتمل السفر (وليس السياحة) لأداء العمرة أو زيارة الأقارب في المدن قريبة. الإجازة الدراسية الأهم والأطول كما هو معلوم كانت هي (العطلة الصيفية) ومنذ العام الماضي بدأت وزارة التعليم بإعادة تسمية إجازة منتصف العام الدراسي إلى (إجازة الخريف) و(إجازة الشتاء) بعد أن تم تقسم زمن تلك الإجازة المطولة إلى أسبوعين منفصلين. وفي الواقع منذ الجاهلية أو صدر الإسلام والعرب تسمي الصيف والشتاء بـ (الحر والقرّ) وأما الحر فهو معروف وأما ( القرّ ) أو القِرّة فهو مأخوذ من (القرار) والاستقرار والإقامة في موضع واحد وذلك لأن (البرد يكتف) كما نقول في اللهجة العامية.

والمقصود أنه إذا كان الصيف أوفق وأنسب للسفر والترحال والسياحة فإن الشتاء في العادة كان أقرب للخمول والهجوع (البيات الشتوي) وإن كان لا ينساب السفر ففي المقابل فإن الشتاء مناسب لإقامة الحفلات والولائم الشعبية والأعياد الدينية التي لا تتطلب الانتقال. والمستعرض لمواعيد وتواقيت الأعياد والاحتفالات الدينية في أغلب الحضارات القديمة والأديان السماوية يجدها تتركز غالبا في أشهر الشتاء أو قبل أو بعد ذلك بأسابيع قليلة كما هو معلوم من عيد الميلاد المسيحي ورأس السنة الميلادية وما يتبعها مثل عيد الصوم الكبير وعيد الغطاس وأمشير عند الأقباط في مصر أو عيد المساخر في الديانة اليهودية. وبمجرد انتهاء الشتاء نجد الاحتفال بمنظومة من الأعياد لمختلفة الديانات والطوائف فمع الاعتدال الربيعي (21 مارس) نجد توقيت عيد الفصح المسيحي وعيد النيروز الفارسي وبعده بقليل موسم شم النسيم ذي الأصول الفرعونية. والغريب في الأمر أن أشهر الصيف نادرا ما كانت تشهد أعياد دينية أو حتى حفلات وولائم تقام في الميادين العامة فمثلا في الحضارة الرومانية الوثنية القديمة كان عيد زحل Saturnalia يرتبط بإقامة الموائد واحتفال جميع أفراد الشعب بالشرب والأكل والرقص وفي الواقع كانت تقام هذه الاحتفالات والولائم في شهر ديسمبر الثلجي. بالمناسبة تشير المراجع الرومانية القديمة أنه خلال احتفالات عيد زحل التي كانت تبدأ في يوم 17 ديسمبر وتمتد لمدة أسبوع أن جميع مظاهر الحياة المدنية تتوقف مثل المحاكم ودواوين الحكومة والمحلات التجارية وكذلك مدارس الأطفال وذلك لإعطاء فرصة لجميع أفراد الشعب أن تشارك في تلك الاحتفالات الدينية البهيجة.

والغريب أنه في أغلب التاريخ البشري كانت (عطلة المدارس) للتلاميذ والمعلمين دائما ما تكون في الشتاء وليس في أشهر الصيف وأن تلك (البدعة) التعليمية ظهرت فقط في العصور الحديثة. قبل ظهور نظام التعليم الحديث نجد أن العطل المدرسية السنوية في الكتاتيب الإسلامية كانت هي عطلة يوم عيد الفطر والتي لا بأس أن تصل إلى ثلاثة أيام وعطلة يوم العيد الكبير (عيد الأضحى) والتي لا بأس أن تصل إلى خمسة أيام. وهذا ما ورد في كتاب (آداب المعلمين) والذي هو من أقدم المرجع العلمية في النظام التربوي الإسلامي وهو من تأليف الإمام ابن سحنون في منتصف القرن الثالث الهجري. والحال مشابهة تماما في الدول الأوروبية في زمن العصور الوسطى حيث كان يقتصر التعليم العام فيها على المدارس الكنسية ومدارس الأديرة الدينية ولهذا كانت الإجازات المدرسية متزامنة مع العطل والأعياد الدينية ونادرا ما كانت تلك العطل المدرسية المسيحية تصل لمدة أسبوعين.

ومن الغرائب أن ظهور المذهب المسيحي البروتستانتي وكذلك ومفهوم الرأسمالية الاقتصادية ربما هما من تسبب معا ليس فقط في تغير نمط وتوقيت العطلة المدرسية وتحويلها من موسم الشتاء إلى موسم الصيف، ولكن كذلك (ويا لفرحة الطلاب) في تمديد الإجازة الدراسية السنوية من أسبوعين إلى شهرين. في كتاب (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) نجد أن المفكر والفيلسوف الألماني ماكس فيبر يرصد ظاهرة أن أفراد المذهب البروتستانتي هم في الغالب أغنى وأكثر ثورة مالية من أفراد المذهب الكاثوليكي والسبب في ذلك أن رجال الكنيسة البروتستنتية لديهم انضباط وإخلاص أكثر لأداء العمل الشاق وهذه الأخلاق البروتيتانية هي التي كانت وراء ظهور العقلية الرأسمالية في أوروبا وأمريكا الشمالية. وبعد هذه المقدمة الطويلة نصل للحظة بداية ظهور فكرة (العطلة الصيفية) والتي ظهرت لأول مرة في الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر والسبب في ذلك أن البروتستانت الأمريكيان كانوا في الغالب يملكون مزارع شاسعة المساحة بالمقارنة بالمزارع الأوروبية الصغيرة. وفي ضوء الحماسة الدينية والجدية لأداء العمل الشاق كان المزارع البروتستانتي يحرص على زراعة أرضه كلها وهنا كان لابد أن يشارك في هذا المجهود الشاق جميع أفراد الأسرة. وبحكم أنه كان ينظر للأطفال في ذلك الزمن أنهم قوة عاملة ذات أهمية كبرى في مساعدة الأسرة في الأمور الزراعية ولهذا كان يتم سحب الأطفال من فصول الدراسية إلى حقول المزارع وزرائب الماشية خلال موسم الصيف ومن هنا نشأ مفهوم الانقطاع عن الدراسة لمدة لا تقل عن شهرين وهي الظاهرة التي نعرفها الآن بذلك الاسم الخلاب (الإجازة الصيفية).

السياحة الشتوية من الثلج إلى الرمال

صحيح أن البشر ومنذ فجر التاريخ وهم في سفر وترحال مستمر ولكن ظاهرة (السياحة) هي مفهوم حديث نسبيا ولم يتعزز إلا في بداية القرن التاسع عشر وخصوصا مع اختراع القطارات. وبالمناسبة حصل في صيف هذا العام 2025م احتفالات واسعة في بريطانيا بمناسبة مرور قرنين من الزمن على بداية استخدام القطارات في النقل العام وذلك بعد تشييد أول خط سكة حديد بين مدينة ستوكتون ومدينة دارلينجتون في شمال شرق إنجلترا وذلك في شهر سبتمبر من عام 1825ميلادي. وبعد ذلك بفترة قصيرة تم تدشين عصر (السياحة والسفر) وذلك عندما قام رائد الأعمال البريطاني توماس كوك بتأسيس شركة سياحة بدأت في عام 1941م أول رحلة سياحية في التاريخ تم فيها استخدام القطار بين مدينة ليستر ومدينة لفبرا في وسط بريطانيا. وبهذا نعلم أن ظاهرة (العطلة الصيفية) ومفهوم (الرحلات السياحية) ظهرت فقط في العصور الحديثة حيث كانت غير معروفة سابقا بل إن فكرة الذهاب للشواطئ للسباحة والاستجمام بأعداد كبيرة من المصطافين لم تظهر إلى مع مطلع القرن العشرين !!.

وبحكم أن مفهوم السياحة والسفر مفهوم حديث نسبيا ظهر بشكل كبير مع اختراع القطارات والقوارب البخارية في مطلع القرن التاسع عشر وتعزز بظهور فكرة الإجازة الصيفية الممتدة لفترة زمنية قد تصل لشهرين لهذا ليس من المستغرب أن نعلم أن عادة (السياحة الشتوية) تأخرت ولم تظهر وتنتشر إلا مع نهاية القرن التاسع عشر. وكما تحتفل بريطانيا هذه السنة بمرور 200 عام على بداية تشغيل رحلات القطارات مما عزز السياحية الصيفية، نجد أن سويسرا قامت قبل ذلك وفي عام 2014م بالاحتفال بمرور 150 سنة على بداية ظهور السياحة الشتوية. وذلك أنه في نهاية صيف عام 1864م قام السيد يوهانس بادروت وهو مالك أحد الفنادق السويسرية في مدينة سانت موريتز بعقد رهان مع أربعة من السياح البريطانيين الذين هم على وشك المغادرة في نهاية موسم (السياحة الصيفية) أنهم لو قدموا إلى فندقه في فترة الشتاء فإنهم سوف يستمتعون بقضاء عطلة استثنائية بين الثلوج أفضل من البقاء في الجو الإنجليزي الماطر والبارد. ولقد كان الرهان ينص على أنه بعد وصولهم في شهر ديسمبر وفي حال لم تعجبهم الإقامة في الفندق في فصل الشتاء سوف يدفع عنهم تكاليف إقامتهم والعجيب أنه من شدة إعجابهم بالسياحة الشتوية السويسرية استمروا في الإقامة حتى موعد عيد الفصح في شهر مارس ثم بعد عودتهم إلى بريطانيا نشروا خبر تلك التجربة في السياحة الشتوية مما ساعد في جذب العشرات من السياح الإنجليز.

ومن هذه الحادثة البسيطة التي بدأت بأربعة سياح إنجليز بدأت ظاهرة (السياحة الشتوية) خصوصا في سويسرا حيث يقل إنه بعد عشر سنوات فقط من تلك الحادثة أي في حدود عام 1874م أصبح عدد السياح الذين يصلون في موسم الشتاء إلى مدينة سانت موريتز ومدينة دافوس القريبة أكثر من عدد السياح الذين يأتون في موسم الصيف وبهذا بدأ عصر: سياحة الثلج والتزلج على الجليد أو سياحة جبال الألب أو بمختصر العبارة (السياحة الشتوية). ونظرا لأن الأرقم الإحصائية تشير أنه في شتاء العالم الماضي كان  عدد السياح الأجانب الذي سافروا إلى سويسرا يفوق 9 ملايين سائح وهذا ما يرسخ سمعة سويسرا بأنه (ملكة الشتاء).

الجدير بالذكر أنه مع الزمن توسع بشكل كبير مفهوم (السياحة الشتوية) فكما يوجد منتدى دافوس الاقتصادي بين قمم وثلوج جبال الألب فكذلك يوجد منتدى دافوس الصحراء وعلى نفس نسق السياحة الشتوية لجبال الألب توجد السياحة الشتوية الصحراوية. وبدلا من التزلج على الجليد على سفوح جبال الألب الأوروبية أو جبال الروكي الأمريكيةأو جبال ألبرتا الكندية نجد أن من برامج وفعاليات السياحية الشتوية الصحراوية التزلج على الكثبان الرملية الشاهقة في النفوذ الكبير في السعودية أو صحراء ليوا وصحراء المرموم في دبي أو كثبان واحة سيوة والصحراء الغربية في مصر أو صحراء تاغيت في جنوب الجزائر. وطبعا في السنوات الأخيرة أصبحت السياحة الشتوية الصحراوية صناعة متكاملة ومنظمة ولم تعد كما في زمن الطيبين مجرد كشته للصحراء بخيمة بسيطة و(شبة الضو) للتمتع بفاكهة الشتاء: النار والحطب. حاليا توجد في ضواحي دبي أو أبو ظبي أو الدوحة أو الرياض أو جنوب سيناء العديد منتجعات التخييم الفاخرة والتي توفر العديد من أنشطة المغامرات الصحراوية الممتعة مثل التزلج على الكثبان الرملية وركوب الجمال والدرجات النارية أو التطعيس بسيارات الدفع الرباعي بإضافة للاستمتاع بالأكلات الشعبية أو رقصات وأغاني الفلكلور الشعبي البدوي.

وبعيدا عن السياحة الصحراوية استطاعت ومنذ عقود زمنية طويلة العديد من الدول العربية مثل مصر والأردن وتونس والمغرب جذب مئات الآلاف إن لم يكن الملايين في السياح الأجانب وخصوصا الأوروبيين والآسيويين في موسم السياحة الشتوية لزيارة المواقع الأثرية السياحية. وقد حصل لي في سنوات سابقة أن زرت في فترة الشتاء مدينة الأقصر في جنوب مصر والزاخرة بالمعالم والمعابد الفرعونية ووجدتها غاصة بعشرات الآلاف من السياح الأوروبيين كما سبق لي زيارة مدينة القيروان في تونس الخضراء ووجدت المدينة القديمة فيها تعج بالسياح الأجانب ونفس الظاهرة رصدتها في موقع قرطاج الأثري على مشارف تونس العاصمة. صحيح أنني زرت الآثار الرومانية في مدينة جرش الأردنية ومدينة بعلبك اللبنانية وأطلال الآثار الرومانية في تدمر ومدينة بصرى في سوريا كما زرت معشوقة الفرنسيين مدينة مراكش المغربية ولم أجد في هذه المناطق كثير سياح أجانب وربما السبب ذلك أنني زرتها في الصيف وربما لو زرتها في وقت ذروة (الساحة الشتوية) لربما اختلف الحال.

كما ذكرت لسنوات وعقود طويلة نجحت خطط وفعاليات ومهرجانات السياحة الشتوية في العديد من الدول العربية في جذب مئات الآلاف من السياح الأجانب لأنها وظفت نقاط القوة السياحية التي لديها: جو معتدل خلاف الأجواء الباردة والماطرة في أوروبا وأمريكا الشمالية وكذلك معالم سياحية أثرية فريدة وطبعا (الصحراء العربية) الخلابة. منذ أكثر من عشرين سنة بدأت إمارة دبي بإعطاء بعد جديد للساحة الشتوية خلاف عوامل الجذب الصحراوية أو التاريخية الأثرية وهي استقطاب السياح الأجانب في فصل الشتاء للتسوق وزيارة المولات التجارية ومشاهدات الأبراج الشاهقة بالإضافة بالاستمتاع بالتعرف على ثقافة 90 دولة في موقع واحد هو (القرية العالمية). وفي السنوات الأخيرة حصلت قفزة ملموسة في واقعنا المحلي فيما يتعلق بالسياحة الشتوية التي ترتكز على (موسم الرياض) وفي مطلع الشتاء القريب سوف تفتح (القدية) أبوابها من خلال منتزه الألعاب الترفيهية (الأعلام الستة Six Flags) ومن المتوقع زيادة الإقبال على مدينة الرياض من مختلف أنحاء المملكة ومن الدول الخليجية والعربية الشقيقة.

يوم غد الأحد هو اليوم الأول رسميا لإجازة الخريف التي تمتد لمدة أسبوع واحد وعليه أسعد الله أوقاتكم حيث كانت إقامتكم داخل أو خارج المملكة.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق