السبت، 15 يناير 2022

( الذاكرة والتاريخ ومستقبل النفوذ الشيعي )

التاريخ يؤكد أن كماشة الهلال الشيعي ليست دائمة 

د/ أحمد بن حامد الغامدي


لعشاق البلد الجميل لبنان يكثر تداولهم توصيفه بسويسرا الشرق في حين أنني قد أفضل استرجاع لقب قديم ونادر هو (فاكهة العرب) ليس فقط لجمال طبيعة لبنان، ولكن لأن (الذاكرة السياسية) العربية ما زالت تربط ويلات الانشقاق والاحتراب الأهلي بما حصل في أحياء لبنان الشهيرة من مثل: عين الرمانة وإقليم التفاح وعين التينة.

قبل أيام وعند اندلاع الاشتباكات المسلحة في منطقة عين الرمانة في ضواحي بيروت استرجع الجميع في لبنان الجريح (ذكريات) الحرب الأهلية الشنيعة. قبل أربعة عقود وبالتحديد في يوم 13 أبريل من عام 1975م انطلقت شرارة الحرب الأهلية في هذه المنطقة بالذات وبعد خمسة عشر سنة توقفت القتال بعد أن خلف حوالي 150 ألف قتيل و20 ألف مفقود وتشريد ونزوح مئات الآلف من المهجرين.

من الأقوال الحكمية للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي قولها (الذاكرة أحسن خادم للعقل) وبعد تلك المآسي والكوارث من الحرب الأهلية المنبعثة من بؤرة (عين الرمانة) هل مال أهل السياسة في بيروت لصوت العقل وغلبوا الحكمة بدل رعونة الاقتتال. في (عين) المكان أي عين الرمانة، ولكن في زمن مختلف (بعد مرور 15 على انتهاء الحرب الأهلية) كادت حادثة (قنص) أن تعيد حالة الإحتراب والاقتتال عندما قُتل شاب مسيحي في منطقة عين الرمانة على يد أحد عناصر حزب الله. كما هو معلوم حالة الانقسام والاستقطاب في المجتمع اللبناني بلغت مداها في شهر مارس من عام 2005م فيما عرف بمظاهرات 8 آذار و 14 آذار وكان من المحتمل أن تكون حالة القنص والقتل تلك في عين الرمانة نطقه شرارة جديدة لحرب جديدة. صحيح أن المجتمع اللبناني منقسم بحدة ومتشظي بشدة، ولكن يبدو انه حصل فيه نوع من (توازن الرعب) فجميع الفرقاء ما زالوا يتذكرون مصائب وويلات الحرب الأهلية ولهذا هم يهوشون ويهددون ولكن شيء من العقل يلجم ويشكم تصرفاتهم. وبهذا (ذاكرة) الحرب الأهلية الأليمة السابقة أصبحت تستخدم (كسلاح ردع) يجعل (زعران) وبلطجية الأحزاب المتصارعة يتورعون عن الاندفاع في القتال المتهور. وهذا ربما يفسر إلى حدا ما لماذا بلع حزب الله (الموس) ولم يبادر برد مزلزل لمهانة مقتل ستة من عناصره بالقرب من منطقة عين الرمانة وعلى يد خصومه من المليشيات المسيحية لحزب لقوات اللبنانية.

كالعادة القوة المفرطة المتلبسة بالغرور بالنفس تورد الأشخاص والجمعات والدول المهالك ولهذا توقع حزب الله والتيار الشيعي في لبنان أن لهم الكلمة العليا وأن قوتهم لا تقهر. ولذا تهور أتباع حسن نصر الله في البداية في محاولة الدخول لحي عين الرمانة ذو الأغلبية المسيحية الكاسحة وهنا حصلت الكارثة والصفعة المنكرة ضد المليشيات الشيعية. غرور القوة ظاهرة متكررة في جميع الكيانات والتيارات السياسية ذات التعصب الديني أو القومي أو الفلسفي الفكري. وهذا الغرور أحيانا يصطدم بأرض الواقع ويتبن أن وهم السيطرة ليس مبني على أسس حقيقة ولهذا في نفس الأسبوع الماضي عندما انكشف لحزب الله الشيعي أن ليس له سيطرة نافذة على الأراضي اللبنانية تبين كذلك لملالي إيران أن نفوذهم ليس نافذ وطاغي في العراق بدلالة خسارة الأحزاب الموالية لهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بأرض الرافدين.

وهذا يقودنا إلى موضوع ذي صله فكما إن الذاكرة قد تكون (سلاح ردع) هي كذلك قد تكون (سلاح دعم معنوي) فالتاريخ كثيرا ما يكرر نفسه وبهذا يمكن بث حالة من التفاؤل والأمل بأنه كما اندحر العدو في الماضي البعيد سوف يندحر العدو في المستقبل القريب. قبل عدة سنوات تفاخر رئيس الاستخبارات الإيراني السابق حيدر مصلحي بأن إيران تسطير على أربع عواصم عربية. وبعد أن كان حلم نظام الملالي يتوقف عند مجرد تصدير الثورة أصبح هدفهم استيراد الثروة من عواصم البلدان العربية التي تدفع لهم الخُمس المالي والسياسي. في غمرة النشوة بالتمدد الشيعي يعتقد البعض أن الثورة الخمينية لا تعرف الحدود وبمختصر العبارة هي (باقية .. وتتمدد). ومن حسن الحظ أن الذاكرة التاريخية يمكن استخدامها كسلاح معنوي كما ذكرنا ببث الأمل وتثبيت القلوب المنخلعة بثقل الواقع فيما يتعلق بسطوة النفوذ الشيعي الحالي وأنه لا بد وحتما سوف ينجلي يوما ما.

كما هو معلوم التاريخ موجات وتذبذبات فمثلا في نهاية القرن الرابع الهجري ظهرت الدولة العُبدية الإسماعيلية التي لقبت بالخلافة الفاطمية وبلغ من شدة توسعها أنها كادت تقضي على الخلافة العباسية. قديما احتل الشيعة الاسماعلية الغلاة العواصم والمدن العربية الكبرى التالية: مكة والمدينة والقدس والقاهرة والإسكندرية ودمشق وحلب وطرابلس والموصل والقيروان وتونس وكان لهم نفوذ ملموس في صنعاء وغيرها من مدن اليمن. بل وصل الأمر لدرجة لا تصدق فيما يتعلق (بتمدد الدولة الفاطمية الشيعية) أنه في عام 450هـ وصل نفوذهم لعاصمة الخلافة العباسية حيث أصبح يُدعى في صلاة الخطبة للخليفة الفاطمي المستنصر بدلا من الدعاء للخليفة العباسي القائم بالله. ولقد كان من شدة بطش وتنكيل الحكم الشيعي الإسماعيلي على البلاد العربية السنية أن اشتهرت مقوله عن الإمام أبو بكر النابلسي: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بسهم ولرميت الفاطميين بتسعة أسهم.  ثم كان ماذا لقد زال ولله الحمد كل ذلك الشقاء الطائفي الشنيع بعد أن استمر لمدة ثلاثة قرون والغريب أنه لا وجود على الاطلاق للتشيع في المناطق التي كانت معقل الدولة الفاطمية مثل مصر وأرض تونس التي انطلقت منها الدعوة العُبيدية.

وبالعودة للعواصم العربية الأربع الوقعة حاليا تحت النفوذ الشيعي وبرحلة في فخاخ الذاكرة نجد أنها في زمن ما مضى وانقضى قد وقعت سابقا تحت السيطرة الشيعية. فهذه بغداد قبل خمسة قرون تتعرض للغزو الشيعي الإثنى عشري زمن الدولة الصفوية فقد اقتحمها الفرس الصفويين عام 914 هجري وبذا تحولت لمدينة شيعية. ويكفي أن نشير إلى أن أكبر وأعرق مساجد بغداد وهو جامع أبو حنيفة النعمان تم تحويلة اثناء الاحتلال الشيعي ذاك إلى مزبلة ومربط للخيل وهم بهذا سبقوا الفرنسيين بهذه الخساسة بثلاثة قرون عندما (دخلت الخيل الأزهر) واستخدمه جنود نابليون إسطبل للخيل. وبالانتقال من بغداد إلى صنعاء نجدها هي الأخرى في التاريخ القديم ترزح تحت حكم الشيعة الاسماعلية لمدة قرن من الزمان أثناء حكم الدولة الصليحية في القرن الخامس الهجري. ومن سيطرة بنو صليح شيعة اليمن إلى سيطرة بنو عمار شيعة لبنان ومؤسسي الدولة العمارية الشيعية في لبنان. لقد ترسخ حكم الشيعة الإثنى عشرية في لبنان في القرن الخامس الهجري واستمر لعد عقود من الزمن وكانت عاصمة ملكهم مدينة طرابلس أكبر وأهم مدن لبنان في ذلك الزمن وقت أن كانت بيروت مدينة هامشية. وعندما زار الرحالة والشاعر الفارسي ناصر خسرو طرابلس في ذلك الزمن وصفها في كتابه سفر نامه بأن سكانها كلهم شيعة. وكما هو معلوم تعتبر طرابلس الشرق هي معقل السنة اليوم في لبنان وهو ما يؤكد أن التاريخ يتذبذب في موجات متلاحقة ولا يثبت على حال فقد تم نقض وطرد النفوذ الشيعي من الشمال اللبناني كما من مصر وتونس. ومن توصيف الرحالة ناصر خسرو لتشيع أهل مدينة طرابلس اللبنانية إلى توصيف الرحالة ابن جبير لمظاهر التشيع في مدينة دمشق وأن الشيعة بالجملة في بلاد الشام أكثر من السنة. وهذا أمر متوقع فكما هو معلوم في القرن الرابع الهجري سيطر الشيعة الجعفرية من خلال دولة بني حمدان (من ملوكها سيف الدولة الحمداني) على المدن الإسلامية الكبرى مثل حلب والموصل وهو ما عزز النفوذ الشيعي على أغلب مدن الشام ومنها دمشق. دولة شيعية أخرى كان لها نفوذ في بلاد الشام وهي الدولة الإسماعيلية النزارية التي أسسها الحسن الصباح واشتهرت في كتب التاريخ بلقب دولة الحشاشين وقد كان لهم تواجد في عدد كبير من القلاع المتوزعة على كامل الأراضي السورية.

تصدع الهلال الشيعي

بالرغم من إن المصطلح السياسي (الهلال الشيعي) تم تداوله في وقت قريبا نسبيا بعد الغزو الأمريكي للعراق إلا أن (فكرة المشروع) قديمة قدم الاحتلال الإنجليزي للبلاد العربية. ووفق القاعدة السياسية الإنجليزية الراسخة (فرق تسد) البعض يعتبر مشروع الهلال الشيعي هو مشروع بريطاني (قديما) ومشروع أمريكي (حاليا) أكثر منه مشروع إيراني صفوي. ومن لطف الله علينا أن السوابق التاريخية تعطينا دفعة معنوية في مقاومة هذا المشروع وإفشاله فالنفوذ الشيعي قديما زمن الدولة الفاطمية كان يشكل بدر كامل التكوين وليس مجرد هلال هزيل ومع ذلك تلاشى ذلك النفوذ الجاثم. من اللافت من نتائج التنقيب في فخاخ الذاكرة التاريخية أن سيطرة المكون الشيعي على الشعوب العربية تكون دائما من خلال الاستقواء والتعاون بتبادل المصالح مع الغازي الصليبي. حصل ذلك زمن الدولة الفاطمية وتحالفها مع الصليبيين في القرن الخامس الهجري وحصل ذلك مع الشاه الإيراني عباس الأول الصفوي وتحالفه المشهور مع الملك البرتغالي مانويل الأول ومراسلاته مع البابا بولس الخامس في القرن العاشر الهجري. ويبدو أنه كل 500 سنة يحصل تقارب وتقاطع في المصالح بين الشيعة والنصارى الغزاة وقد تم التجديد لهذا التعاون في القرن الخامس عشر الهجري. ومع هذا ينبغي التنويه بأن هذا التآمر لا يعني أن هؤلاء (الشركاء المتشاكسون) لا يحصل بينهم نزاع فالتاريخ العربي يسجل أسماء معارك مثل معركة عسقلان ومعركة الرملة والتي دارت رحاها بين الفاطميين وبين الصليبيين وكذلك حصلت حرب ضروس للسيطرة على مضيق هرمز بين الصفويين والبرتغاليين واليوم نشاهد مناوشات حقيقية بين الامريكان والإيرانيين.

وفي الختام لا بد من تأكيد أن الاستشراف الدقيق للمستقبل القريب أمر متعذر تماما لكن لا يخالجنا أدنى شك في أن النفوذ الشيعي على المدى البعيد مصيره إلى اضمحلال وإن كان هذا لا يعنى الزوال التام. ويبقى السؤال ما هو دور (السنة العرب) في هذا النضال هل سوف نشارك فيه أم (يكرر التاريخ نفسه) مرة أخرى ويكون شرف مقاومة النفوذ الشيعي لغير العرب. كما حصل مع صلاح الدين الكردي الذي قضى تماما على الدولة الفاطمية الشيعية أو السلطان التركي سليم الأول الذي حارب الدولة الصفوية الفارسية وطردها من العراق. ومن الغرائب أن من يمكن أن يتسبب في تآكل وتصدع مشروع الهلال الشيعي ليس العرب السنة، ولكن الصراع المتصاعد بين شيعة العروبة والشيعة الصفويين والانشقاقات في نسيج المجتمع الإيراني نفسه كما يحصل مع شعب الأحواز الإيراني السني.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق