السبت، 27 يوليو 2024

( عندما تخذل التقنية البشر )

  

د/ أحمد بن حامد الغامدي

قبل عقدين من الزمن أتهم الكيميائي الأمريكي روالد هوفمان (الحاصل على جائزة نوبل في عام 1981م) وسائل الإعلام بأنها تشن حملة ظالمة ضد الكيمياء بتصويرها بأنها خطرة وملوثة و (مملة) ولهذا أخذ على عاتقة تأليف كتاب عن الجوانب الشيقة للكيمياء. صحيح أنني قرأت كتاب روالد هوفمان (the same and not the same) وبالرغم من فائدته الكبيرة لي إلا أن أحد أجمل وأكثر الكتب الكيميائية التي قرأتها تشويقا كان كتابا يحمل عنون (أزرار نابليون: كيف غير 17 مركبا كيميائي التاريخ) وبالمناسبة على الغلاف الخارجي لهذا الكتاب يوجد إطراء من روالد هوفمان على الكتاب. فكرة عنوان ذلك الكتاب (أزرار نابليون) تشير لمفهوم شائع في التاريخ البشري أن بعض الأحداث السياسية والعسكرية يمكن أن تتغير بشكل جذري بسبب خلل بسيط، وخذ على ذلك مثال غزو نابليون الشهير لروسيا في فترة الشتاء وهزيمته المنكرة وكيف أنها ربما ما كانت لتحدث لو أن قادة الجيش الفرنسي اختاروا النوع الملائم من أزرار المعاطف المقاوم للبرد.

بشيء من المبالغة تفترض المؤلفة الكندية بيني لي كوتور أن الجيش الفرنسي الكبير عندما تزامن غزوه لروسيا مع شتاء عام 1812م تسبب البرد الروسي القارص في تفتت وتكسر أزرار المعاطف والسراويل المصنوعة من عنصر القصدير بدلا من الحديد أو النحاس أو حتى العظام. ونتيجة لتعرض الجنود الفرنسيين للبرد الشديد بسبب عدم كفاءة معاطفهم في تدفئتهم حصلت هزيمة نابليون المذلة وتغير التاريخ بشكل كبير. ذلك الخلل التقني البسيط المتمثل في صناعة الأزرار من معدن غير مناسب للصقيع يلخص كيف أن التقنية الصناعية عندما تفشل حتى ولو في مستوياتها الدنيا يمكن أن تسبب في معاناة كبيرة للبشرية جمعاء. وكلنا شاهدنا وعاصرنا هذا الأسبوع حالة الإرباك والفوضى والقلق التي انتشرت في مختلف بقاع الأرض بسبب الخلل التقني الذي نتج عن واقعة بسيطة مثل تحديث أحد برامج الحماية في مجال الأمن السيبراني مما نتج عنه تعطل عمل البرامج الحاسوبية في قطاعات حساسة مثل البنوك والمستشفيات وشركات الاتصالات بل وحتى القنوات الفضائية.

ومع تلك التغطية الإعلامية والفضائية بل وحتى تغطية وسائل التواصل الاجتماعي لآثار هذا العطل التقني كانت تركز بشكل أساسي على صور ومظاهر تكدس الركاب والمسافرين في صالات المطارات بعد الخلل الفني الذي أصاب الشبكات الإلكترونية لشركات الطيران العالمية. في الواقع قطاع الطيران والسياحة والسفر شديد الحساسية لأي مشاكل تقنية أو فنية لأن هذا القطاع بالذات قائم على نظام (الحجوزات المبكرة) ونظام العمل المتسلسل والمتوالي فأي لخبطة في أي مرحلة سرعان ما تتراكم المشاكل وتتداخل وهذا يلخص مأساة أنه (عندما تفشل التقنية فإن البشرية هي من تعاني). في مطلع عام 1995م تم افتتاح مطار مدينة دينفر عاصمة ولاية كولورادو الأمريكية والذي كان في ذلك الوقت أحد أكبر وأحدث المطارات في العالم وبعد سنوات من التأخر في تشغيل المطار وبالرغم من بلايين الدولارات التي صرفت عليه كان حفل التدشين للمطار فضيحة عالمية كاملة. والسبب في ذلك حصول خلل واحد فقط في أحد أنظمة المطار المعقدة جدا والمتداخلة والذي سبب ربكة كاملة لعملية تشغيل المطار وذلك لأن النظام الجديد لنقل حقائب الركاب لم يتم تصميم شبكته الإلكترونية بشكل سليم مما جعل حقائب السفر تتساقط من فوق السير المتحرك مما أدى إلى بعثرة ملابس المسافرين أمام كاميرات الصحفيين ومراسلي القنوات الفضائية.

في الواقع قبل حوالي سنتين وبعد تشغيل الصالات الجديدة لمطار الملك عبدالعزيز بجدة حصل بعد موسم رمضان من عام 1444هـ ربكة كبيرة أستمرت لمدة أسبوع وفي حينها كتب مقال بعنوان (دراما السفر .. مطارات تتهاوى) حشدت فيه أمثلة متعددة عبر التاريخ والجغرافيا لمشاكل محرجة حصلت في أحدث وأشهر المطارات الدولية مثل مطار لندن ومطار برلين. وفي الغالب هذه المشاكل التقنية في تشغيل هذه المطارات الكبرى يجمعها قاسم مشترك واحد أنه (خلل فني في نظام الحواسيب). وهذا يقودني لتذكر مقالة قرأتها أثناء سنوات البعثة في عام 1998م في الكتاب الرائع لعالم الفيزياء الأمريكي المعاصر جيمس تريفيل والذي كان عنوانه الرئيس (101 شيء لا تعرفه عن العلم) وعنوانه الفرعي (ولا يعرفه أحد أيضاً). وفكرة الكتاب طرح سؤال أو فكرة عن موضوع غريب في العلم والتقنية هو موضوع ناقش وبحث لم يحسم بعد ومن ذلك تلك الفقرة رقم 98 من الكتاب والتي كان عنوانها (لماذا ما زلنا نواجه أزمات مستمرة مع البرمجيات). وفي الواقع افتتاحية هذه الفقرة تناقش مشكلة مطار دينفر سالفة الذكر مع الخلل التقني في نظام نقل حقائب السفر وما سبب ذلك من مشاكل للركاب وخسائر مالية. والمقصود أن المشاكل المرتبطة بالخلل في نظام الحواسيب والبرمجيات قديمة ومتكررة وكذلك مزعجة ومحرجة لأن التقنية كانت وما زالت عندما تفشل تسبب خذلان خطير يؤثر على البشر. بقي أن نقول إن الفقرة الأخيرة في ذلك الكتاب (101 شيء لا تعرفه عن العلم) المنشور عام 1996م كانت تحمل سؤال (هل سينتهي العالم في اليوم الأول من شهر يناير لعام 2000). وهذا يشير إلى العلماء ومنذ سنوات عديدة قد تنبهوا لما كان يسمى (مشكلة عام 2000 أو Y2K bug) ولهذا دار الجدل منذ البداية عن أي مدى يمكن أن تتسبب تلك المشكلة في تقنية برمجة الحاسب في ضرر كبير للبشرية مع الساعات الأولى من مطلع القرن الميلادي الجديد. صحيح أننا نعلم الآن الجواب على هذا السؤال وهو أنه ولله الحمد لم يحصل أي ضرر ملموس من دودة عام ألفين Y2K bug باستثناء عشرات المليارات من الدولارات التي أنفقت لتفادي هذا (الخلل في نظام الحواسيب) وكذلك القلق النفسي من (خذلان التقنية للبشرية) مع بداية عام ألفين. 

الخراب والهلاك في عالم الديجتال

بمناسبة الإشارة في الفقرة السابقة لسيناريو نهاية العالم يجدر التنويه أنه يوجد في الغرب العديد من مراكز الأبحاث المتخصصة في وضع التصورات والنظريات والحلول للأخطار الكبرى التي سوف تواجها البشرية في المستقبل القريب والبعيد . ومن ذلك معهد مستقبل الإنسانية الموجود بجامعة أكسفورد البريطانية والذي يديره العالم والفيلسوف السويدي نيك بوستروم والذي وضع فرضية (العالم المعرض للخطر) ويقصد بها أن الحضارة البشرية يمكن أن يحصل لها ضرر هائل بسبب أن تقنية ما قد تخرج عن السيطرة وتتسبب في تدمير العالم من حولنا. وقريبا ما ذلك ما توصلت له دراسات وأبحاث مركز المخاطر الوجودية الذي تحتضنه جامعة كامبريدج البريطانية والذي بدوره هو الآخر توصل لنظرية مشابهة لها عنوان غريب هو (البطاقات التقنية الجامحة .. المخاطر الوجودية والإنسانية المتغيرة). وعلى كل حال، ما تطرحه نظريات علم المستقبل أن بعض الأحداث نادرة الوقوع يمكن أن يكون لها تأثير هائل وما أستجد في السنوات الأخيرة أنه بعد ما كانت موجة التحذير عالية وصاخبة نحو خطورة الأسلحة النووية والمفاعلات الذرية أو انفلات السيطرة على الفيروسات المحورة وراثيا أو التداعيات الأخلاقية والقانونية لأبحاث الاستنساخ أو الجينوم أو حتى الأخطار المجلوبة من عالم الخيال العلمي مثل غزو الفضائيين أو سيطرة الروبوتات، بعد هذا كله أصبح القلق يتركز أكثر وأكثر على آثار خلل التقنية في مجال البرمجيات والخوارزميات وبالذات أخطار انفلات (الذكاء الاصطناعي).

في السابق كان الرهاب من التقنية (تيكنوفوبيا) بل وحتى القلق من التقنية أمرا نادرا وغير مبرر لدرجة أنه كان يعتبر (اضطراب نفسي) يحتاج للعلاج، ومع ذلك في الزمن الحديث تزايدت وتصاعدت (مسوغات) القلق من (فشل) التقنية وأنها بالفعل قد تسبب الضرر على البشر كأفراد ومجتمعات. ولهذا تحول مفهوم (القلق من التقنية الرقمية Digital Anxiety) من مجرد التوتر والانزعاج من الفشل من التعامل مع الأجهزة الحاسوبية أو شبكة الأنترنت إلى مفهوم أكثر تعقيدا وأشد خطورة وهو أن التقنية الرقمية يمكن أن ينجم عنها مخاطر جسدية ونفسية ومالية حادة. في نهاية التسعينيات من القرن العشرين وعندما بدأ أفراد جيل الطييبين يتعرفون على الهواتف المتنقلة وعلى كيفية الاتصال بشبكة الأنترنت كانت (قلاقل) التقنية محدودة نسبيا مقارنة بالسنوات الأخيرة عندما أصبح يتم تحذير ذلك الجيل أنه بسبب أميته الرقمية قد يقع في كارثة (الاحتيال الرقمي) الذي قد يسطو على رصيده المالي في البنك. في العام الماضي فقط أفصحت لجنة التجارة الفيدرالية أنه في الولايات المتحدة وحدها بلغت الخسائر والمسروقات المالية من جراء الاحتيال الرقمي عبر شبكة الأنترنت مبلغ مهولا يصل لحوالي عشرة بلايين دولار.

مخاطر ومخاوف ومآسي (عالم الديجتال) لا تقف عن سرقة المدخرات المالية للأفراد بل قد يتعدى خطرها مراحل أخطر من ذلك بكثير وهذا ما يشمل ما يسمى (الهجوم السيبراني Cyperattack). وفي الواقع هذا الهجوم الإلكتروني في أخطر مستوياته يهدف إلى تدمير وتخريب شبكات وأنظمة المعلومات الرقمية للجهات الحكومية أو الشركات التجارية والمالية ولهذا لا غرابة أن يطلق على هذا النوع من الجرائم العابرة للقارات مصطلح (الإرهاب الإلكتروني). وفي يوم الجمعة الماضي ومع الساعات الأولى من حادثة الخلل الفني للشبكات وأجهزة الكمبيوتر في العديد من الدول الغربية والذي وصف بأنه (أسوأ خللا تقنيا في التاريخ) اتجهت أصابع الاتهام مباشرة نحو دولة روسيا بأنها قامت بتنفيذ (حرب سيبرانية Cyperwarfare) ضد دول حلف الأطلسي كردة فعل للحرب الأوكرانية. وفي هذا السياق يجدر أن نشير إلى أنه في العام الماضي قامت مجموعة من الهاكر الروس بالتسلل إلى أنظمة شبكة الاتصالات الأوكرانية ومحاولة تعطيلها. وقبل عدة أشهر فقط نشر فريق بحثي من جامعة أكسفورد قائمة لأكثر الدول الخطرة التي تستخدم السلاح الرقمي في الهجوم السيبراني على الدول والشركات والأفراد ووفق (المؤشر الدولي للجرائم السيبرانية) فإن دولة روسيا الاتحادية هي على رأس القائمة في جرائم المعلوماتية وتليها أوكرانيا ثم الصين ثم أمريكا ثم نيجيريا والمفاجأة أن بريطانيا نفسها جاءت في المرتبة الثامنة من قائمة العار هذه !!.

وفي الختام صدق الله العظيم الذي قال في محكم التنزيل (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتها أمرنا ليلا أو نهار فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس) فسبحان الله بالفعل الحضارة البشرية هشة وضعيفة ومعرضة للزوال في لحظات سريعة كما هي فرضية (العالم المعرض للخطر The vulnerable world hypothesis) سالفة الذكر. في السابق كان عالم الهلاك والخراب (الديستوبيا) يفترض أنه قد ينتج بسبب الحروب النووية أو تدمير الحضارة البشرية بسبب الاصطدام بكويكب أو نيزك ضخم أو نتيجة تفشي أمراض قاتلة ومعدية. ومع ذلك تبين أنه حتى التقنية الناعمة (soft-tech) مثل التقنية الرقمية والبرمجيات والخوارزميات الإلكترونية قد تتسبب في حال أصابها العطل والخلل في حصول الخراب والهلاك الرقمي digital dystopia الذي يشل الحضارة البشرية بعد بتر الإشارات الإلكترونية عن عصب التقنية النابض.

( ثقافة دورات المياه والقراءة في الحمام !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 مع الأيام الأولى من مطلع كل عام هجري جديد أقوم بإكمال عملية حصر الكتب التي قرأتها في العام المنصرم فمثلا السنة الماضية قرأت ولله الحمد 37 كتابا باللغة العربية و12 كتابا باللغة الإنجليزية و26 رواية أدبية. وفي العادة أواجه صعوبة في اختيار (كتاب العام) لكل فئة من هذه الفئات، ولكن هذه المرة وفيما يخص اختيار (كتاب العام الإنجليزي) لم أتردد كثيرا في انتقاء كتاب (Uncle John`s Bathroom Reader). في الواقع ذلك الكتاب الذي قرأته كان أحد أجزاء سلسلة كتب (قارئ الحمام للعم جون) والكتاب الذي أطلعت عليه كان مخصصا عن التاريخ في حين أن بقية الأجزاء الـ 46 الأخرى من هذه السلسلة هي كتب منوعات أو كتب متخصصة في مجالات تاريخية أو جغرافية محددة. بقي أن أقول أو أن أعترف بمعنى أصح أن ذلك الكتاب الإنجليزي الضخم ذو الـ 484 صفحة قرأته بالكامل وأنا في الحمام وبشكل متدرج كل يوم تقريبا لمدة 11 شهرا.

منذ مطلع القرن التاسع عشر وبالتزامن مع موجة انتشار شراء وقراءة الصحف الورقية في المجتمع الأمريكي انتشرت عادة قبيحة وهي أن يقوم البعض من القراء بالاطلاع على جريدة الصباح وهو جالس على كرسي المرحاض ثم بعد أن يقضي حاجته المغلظة يستخدم ورق الجريدة لمسح مؤخرته. في تلك الفترة كان الأغنياء وميسوري الحال هم من يستطيع شراء لفافات المناديل الورقية لاستخدمها في الحمام ولهذا كان بعض العالمة من الشعب الأمريكي يستخدمون ورق الجرائد للنظافة الشخصية، بل توجد إشارات أن البعض ربما كان كل يوم يطالع في بعض صفحات الكتاب الضخم للقاموس اللغوي ثم ينزع تلك الصفحات ويتنظف بها !!. وهذا اللورد البريطاني فليب ستانهوب وهو أحد رجال الدولة والأدب والفكر في زمانه يكتب رسالة في عام 1747م إلى ولده ينصحه أن يقلد أحد الأدباء الذي قال عنه إنه كان يقتطع بعض الصفحات من كتاب فن الشعر للناقد والشاعر الروماني القديم هوراس، ثم بعد أن يقرئها في المرحاض وهو يقضي حاجته يستخدم تلك الأوراق في الشعر اللاتيني في نظافة جسمه ويلقى بها كتضحية وقربان لكلوسينا ربة المجاري عند الرومان.

على كل حال تلك العادة القبيحة كان لها جانب إيجابي وهي ربط شريحة من المجتمع بالكتاب والقراءة ولهذا منذ عقود وسنوات طويلة تم إنتاج وطباعة كتب متنوعة صممت لكي تقرأ والشخص جالس على كرسي المرحاض. ومن هذا الإرث القديم للترابط بين الحمام وقراءة الكتب قام العم جون جافنا السالف الذكر في عنوان الكتاب الإنجليزي (بالمناسبة الأمريكان في لغتهم الدارجة يكنون عن المرحاض بعبارة: السيد جون Mr. John) مع شقيقة جوردن في عام 1987م بتأسيس ما يسمى (معهد قراء الحمام) وهو معهد يهدف لنشر ظاهرة وثقافة قراءة الكتب في الحمام. وهذا ما أثمر في نهاية المطاف تعاون العشرات من الكتاب والمؤلفين الذين يساهم كل واحد منهم بكتابة موضوع أو مقالة مختصرة في مجالات منوعة في التاريخ والأدب والعلوم والسياسة والرياضة وغيرها يتم تجميعها في سلسلة من الكتب ينشر منها كتاب واحد كل عام. وكما ذكرنا عدد هذه الكتب من هذه السلسلة الآن حوالي 47 كتاب وبلغ عدد الكتب المباعة منها أكثر من عشرة ملايين كتاب وحسب صفحة الانترنت لمعهد قراء الحمام فإن عدد المسجلين لديهم يبلغ 40 ألف عضو موالي ومخلص لهذه الحركة الثقافية الفريدة.

الغريب في الأمر أن (ظاهرة) القراءة في الحمام منتشرة بشكل واسع في المجتمع الأمريكي حيث تشير بعض الإحصائيات أن حوالي 40% من الأمريكان يقرؤون في الحمام الجرائد أو الكتب أو المجلات لكي يزاوجوا بين تلبية نداء الطبيعة ونداء حب الفضول والثقافة وتزجيه الوقت. وبمناسبة ذكر الإحصائيات يقال أن الشخص العادي في المتوسط يقضي خلال حياته أكثر من ألفي ساعة وهو في الحمام وهذا زمن طويل جدا ولهذا ظهرت حملات في الغرب لمحاولة تشجيع ونشر ثقافة القراءة والاطلاع في دورات المياه. ومن ذلك مثلا أن شهر يونيو (أي الشهر الماضي وبداية الصيف) تختاره بعض الدول لكي يكون (شهر القراءة في الحمام) في حين نجد في الولايات المتحدة تم اختيار يوم 29 من شهر فبراير لكي يصبح (اليوم الوطني للقراءة في مغطس الحمام). وحتى يتم مساعدة القراء على اختيار الكتب المناسبة للاطلاع في الحمام ظهر تيار ثقافي يحمل اسم (أدب دورة المياه Lavatory literature) يشارك في انتاج الكتب المناسبة لهذا الغرض كما تقوم أندية القراء (مثل موقع Goodreads) وموقع أمازون للكتب وبعض الملاحق الثقافية للصحف الكبرى باقتراح قوائم مطولة لأفضل الكتب التي ينصح بقراءتها من فوق كرسي المرحاض.

والطريف في الأمر أن هذه الظاهرة أو العادة السلوكية انتقلت للشعوب الشرقية لدرجة أنه يوجد حاليا في الأسواق اليابانية (أوراق تواليت) المستخدمة في دوارة المياه له حجم صفحة الكتاب متوسط الحجم وكذلك هي كثيفة الطبقات ويبلغ الطول الإجمالي للفة الورق حوالي 30 متر، وبقي أن نقول إن ورق التواليت هذه مكتوب عليه ملخص لبعض الروايات الأدبية اليابانية والتي تقرأ بالتدريج كل يوم ورقة أو ورقتين.

 القراءة في الحمام .. شروط ومحاذير

ما سبق استعراضه في الفقرات الآنفة يشي بأن ظاهرة قراءة الكتب من فوق كرسي المرحاض ليست فقط شائعة في المجتمعات الغربية بل هي قديمة وشبه متزامنة مع ظهور الصحافة الورقية، أما في واقعنا العربي فلا أعتقد أن هذه الظاهرة أي إدخال الكتب إلى الحمام (وليس عادة القراءة في الحمام وهنا يوجد فرق سنوضحه لاحقا بمشيئة الله) هي في الغالب ظاهرة نادرة جدا. السبب في ندرة هذه العادة السلوكية هو ما تربينا عليه وتعلمناه من حرمة إدخال الأوراق أو الكتب التي يذكر فيها اسم الله عز وجل إلى دورات المياه والأماكن النجسة. ومع ذلك توجد إشارات في التراث الإسلامي العريق أنه قد تم استحداث مخرج شرعي لهذه القضية ومن ذلك ما ورد في بعض المصادر أن جد أبن تيمية الفقيه الحنبلي أبا البركات أبن تيمية كان يأمر أحد أحفاده إذا دخل الخلاء بأن يأخذ أحد الكتب ويقرأ بصوت عال حتى يسمعه وبهذا يستفيد من الاستزادة من العلم مع محاولة تنزيه الكتب الشرعية من أماكن القذر. وبالرغم من أنه قد مرّ على شذرات أخبار عن أشخاص ربما لديهم عادة قراءة الكتب في الحمام مثل الكاتب الشاب عبدالمجيد تمراز صاحب كتاب (جنوني مذهبي في القراءة) إلا أنه لم يتضح لي تماما هل هم يقرؤون مطبوعات مكتوبة باللغة العربية أو بلغة أجنبية. قناعتي الشخصية أن إدخال وقراءة كتاب عربي داخل الحمام ومن فوق كرسي المرحاض فعل قبيح لا يقبل بأي وجه من الوجيه ومع ذلك أنا أعترف كما سبق الإشارة إليه أنني قرأت أكثر من عشرة كتب باللغة الإنجليزية (أحدها وهو كتاب التاريخ السري للعالم يحتوي على 577 صفحة) وأنا في دورة المياه.

في الواقع قصتي مع هذه العادة الجديدة على أجواء قراءة الكتب بدأت قبل عدة سنوات عندما مرت علي مقولة الكاتب الأمريكي المشاغب هنري ميلر (كل قراءاتي الجيدة –  يمكن أن تقول – حصلت في دورة المياه) وهي مقولة وردت في رواية (ربيع أسود) والتي هي أشبه بالسيرة الذاتية له وخبايا تشرده في مدينة باريس ومنها أنه كان ينام في دورات المياه وليس فقط كان يقرأ فيها. ويضاف لذلك أن من يطلع على كتاب هنري ميلر الواسع الانتشار (الكتب في حياتي) وبالتحديد الفصل الثالث عشر والذي تم ترجمه عنوانه باللغة العربية ليصبح (القراءة في المرحاض) يجد هنري ميلر يناقش بأسلوب ساخر خلال صفحات طويلة هذه الظاهرة المتعلقة بأدب الحمامات. ومن طرائف ما ذكره هنري ميلر أنه سمع من أحاديث أصدقائه المقربين أن البعض يضع في دورة المياه أرففا للكتب (حيث تنتظرهم مادة القراءة .. كما يحدث في غرفة طبيب الأسنان). كما أنه أشار أنه شاهد في فرنسا نوع لمرحاض مشابه لفكرة كرسي الحمام العربي حيث إن هذا المرحاض ( فقط حفرة في الأرض .. فالمرء لا يجلس بل يقرفص) وهنا علّق هنري ميلر أن هذا النوع من المراحيض لا يلائم عملية القراءة لأنه (لا تخطر القراءة على البال أبداً، فالمرء يرغب في الانتهاء من العمل بأسرع ما يمكن).

في حين يشير هنري ميلر بوضوح أن المكان المفضل له للقراءة عندما تقدم به العمر هو في الغابة ولكنه مع ذلك يعترف بصراحة أكبر أنه في مرحلة أوائل الشباب قد قرأ الكتب الكلاسيكية في دورة المياه وهذا ما عناه بأن كل قراءاته الجيدة حصلت من فوق كرسي المرحاض. والغريب أن حتى عملية (الكتابة) العميقة والإبداعية و(الثورية) يمكن أن تتزامن مع لحظة الجلوس على كرسي المرحاض فمنذ عدة سنوات والألمان يفخرون ويسعدون أنهم وجدوا كرسي المرحاض الذي كتب وهو جالس عليه رجل الدين البارز مارتن لوثر احتجاجاته ورسائله الـ 95 التي أطلقت عصر الإصلاح الأوروبي وأثمرت ظهور البروتستانتية. والأغرب من ذلك أن الوقت الشخصي المستقطع في الحمام أثناء قضاء الحاجة يمكن أن يرد في سياق الإبداع الأدبي إذا صحت التسمية والوصف وهذا ما حصل لي عندما صدمت وأنا أقرأ صفحات مطولة من الرواية المفصلية في تاريخ الأدب الغربي الحديث. وأقصد هنا رواية (عوليس Ulysess) للكاتب الإيرلندي البارز والمشاكس أيضا جيمس جويس وفي هذه الرواية التي توصف بأنها الأكثر تأثيرا في أدب القرن العشرين نتابع خلال يوم واحد فقط الأحداث التي تمر ببطل الرواية ليوبولد بلووم. وما يهمنا هنا هو المقطع المطول عن استجابة بلووم لنداء الطبيعة ودخوله الحمام لقضاء الحاجة وكيف أنه اصطحب معه مجلة Titbits المنوعة والتي تحتوي على قصة أدبية قصيرة قرأها ثم قطّع تلك الأوراق من المجلة لكي يمسح بها مؤخرته !!.

وفي الحقيقة توجد تحقيقات مطولة بل كتب كاملة عن تاريخ الحمام وتأثير المرحاض في المسيرة البشرية (مثل كتاب: كيف غير المرحاض التاريخ للباحثة الأمريكية لورا بيردو)، ومن هذا وذلك مما سبق ذكره تسربت لي في السنوات الأخيرة فكرة القراءة في الحمام وفق شروط صارمة. أولا يحرم إدخال الكتب العربية للحمام ويقتصر فقط على الكتب المطبوعة باللغة الإنجليزية. ثانيا لا يسمح إلا بقراءة الكتب الإنجليزية المتعلقة بالمواضيع العلمية البحتة أو المجالات التاريخية والسياسية الصرفة لأن الكتاب الغربيين لا يربطون الله سبحانه وتعالى بهذه المجالات ولا يرد ذكر الله فيها. وبحكم أن القراءة شيقة في الغالب ولهذا الشرط الثالث ألا تزيد مدة القراءة في الحمام عن قراءة صفحة أو صفحة ونصف على الأكثر.

وفي الختام أستطيع أن استشعر حالة الاشمئزاز وربما السخط عند البعض من القراء الكرام على طرح هذا الموضوع (المسكوت عنه) ومع ذلك أرجو أن يتلطف القارئ الكريم أن أذكره مرة أخرى بعنوان هذا المقال (ثقافة دورات المياه .. والقراءة في الحمام). وربما لم ينتبه القارئ الكريم أنني تعمدت إسقاط كلمة (الكتب) من العنوان بمعنى أن العنوان لم يكن بالشكل التالي (ثقافة دورات المياه .. وقراءة الكتب في الحمام). وربما سوف أصدم القارئ الفاضل (المشمئز) أن ظاهرة (القراءة) في الحمام منتشرة جدا جدا وهنا بالطبع أنا أقصد أن الغالبية العظمى منا اكتسبت خلال السنوات الماضية العادة السلوكية الجديدة المتمثلة في إدخال (الجوالات والهواتف الذكية) إلى دورة المياه عند الجلوس على المرحاض. في استطلاع للرأي نشر قبل عدة سنوات وشمل 1200 شخص في الولايات المتحدة أعترف حوالي 73% منهم أنهم يستخدمون الهواتف النقالة داخل الحمام في حين أن الكارثة أن هذه النسبة ترتفع في فئة الشباب لتصل إلى حدود 93% ممن يتصفحون شاشة الجوال وهم على كرسي المرحاض. والجدير بالذكر أن دراسات واستطلاعات مشابهة حول ظاهرة استخدام الجوال في الحمام أجريت في العديد من الدول الأوروبية وأعطت نسب مئوية مقاربة لما تم رصده في أمريكا وعليه نتوقع أن نسبة مئوية مشابه من أفراد المجتمع العربي في حدود 70% لديها نفس هذا السلوك (إدخال الجوال إلى دورة المياه).

وفي استقراء إحصائي منشور في صيف عام 2023م على موقع Statista يشير إلى أن نسبة من يستخدمون الجوالات في إرسال رسائل إلكترونية تبلغ 71% بينما النسبة المئوية لاستخدام الجوال لقراءة الأخبار تبلغ 52 بالمائة. وعليه لو افترضنا أن نشاط استخدام الجوال من فوق كرسي المرحاض له نفس أنماط السلوك السابق في التعامل الاعتيادي مع الجوال فهذا يعني أن الغالبية العظمى ممن يأخذ الجوال معه إلى الحمام سوف يستخدمه لنشاط (قراءة) النصوص من على شاشة الجوال سواء كانت تلك النصوص تغريدات تويتر أو رسائل قروبات الواتساب أو حتى تفقد حساب الإيميل الالكتروني.

مما سبق لعله يتضح الآن أن الظاهرة الأعم فيما يتعلق بالقراءة في الحمام، هي في الواقع قراءة (النصوص) من على شاشة الجوال وليس فقط قراءة الكتب في الحمام، ومن المحتمل أن هذه الظاهرة والعادلة السلوكية واسعة الانتشار لدرجة أنني لا أستبعد أن أحد القراء الكرام هو حاليا في الحمام أثناء قراءته لسطور هذا المقال من جواله !!. وبحكم أن أغلب هذه المقاطع النصية التي تقرأ عبر الجوال داخل الحمام هي باللغة العربية وربما تتضمن محتوي دينيا لذا نحن جميعا بحاجة إلى تحديث الفقه الشرعي فيما يتعلق (بآداب قضاء الحاجة). في الفقه الحنبلي وفي كتاب المغني لابن قدامة وعند الحديث عما يخص آداب دخول الخلاء توجد إشارة لطيفة أن الشخص إذا كان يضع في أصبعه خاتم منقوش عليه اسم الله عز وجل فإن من الأدب عند دخول الخلاء أن يدير فص الخاتم إلى باطن كفه. ومع تفشي ظاهرة استخدام أجهزة الجوال الحديثة التي كثيرا ما نقرأ من خلالها الرسائل والنصوص العربية ونحن على كرسي المرحاض يجب علينا أن نعيد تعريف وتدريس (آداب قضاء الحاجة) بنسخة مزيدة ومنقحة لزمننا المعاصر.


 

( البحر الأحمر وتاريخ الحروب الاقتصادية )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

المطلع على التاريخ القديم يلحظ بسهولة بالغة دور البحر الأبيض المتوسط في تشكيل معالم السياسة والحضارة البشرية منذ ثلاثة آلاف سنة وحتى الآن وإلى حد ما للخليج العربي دور ملموس في تطور الحضارة في بلاد الرافدين لدرجة أن جزر البحرين وبحكم توسطها على طريق التجارة البحرية القديمة نجد أن العمق التاريخي لحضارة دلمون (الاسم القديم للبحرين) ربما يرجع لأكثر من خمسة آلاف سنة.

في المقابل لطالما تعجبت أن البحر الأحمر (بحر القلزم) مقزّم وغائب تماما عن سجلات الحضارة العربية القديمة لدرجة أن أشهر الأبيات الشعرية التي ذكرت في الأدب العربي القديم ووردت فيها الإشارة للسفن مثل السفن العدولية المذكورة في شعر طرفة بن العبد أو سفن عمرو بن كلثوم التي تملأ ظهر البحر هي كلها مرتبطة بالساحل العماني أو ساحل هجر على الخليج العربي. ويبدو أن البحّار العربي الكبير ابن ماجد ولأنه من ساحل عمان ومعتاد على سهولة الإبحار والرسو في موانئ طريق التجارة للهند والقرن الإفريقي واجه مشاكل في إبحاره عبر البحر الأحمر ولهذا تنقل المصادر التاريخية قوله الصادم (بحر القلزم أوسخ بحور الدنيا). وربما السبب في هذا الحكم القاسي هو كثرة الشعب المرجانية والصخور الحادة في شواطئ البحر الأحمر، ويعزز ذلك وصف الجغرافي الإدريسي لبحر القلزم بقولة (وهو بحر مظلم كرية الروائح وحش الجزائر، لا خير في ظاهرة ولا في باطنه). أمر آخر هو أن البحر الأحمر عبارة عن ممر مائي طويل وضيق وعميق جدا واجتماع هذه الأوصاف تجعل أمواج البحر عاتية ومرتفعة عند هبوب الرياح ولذا أمواج البحر الأحمر في المتوسط ارتفاعها ضعف أمواج الخليج العربي. ومن هنا ربما قد نفهم لماذا تجنب العرب قديما ركوب أمواج بحر القلزم ولماذا نهى الخليفة الفارق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ركوب البحر بعد أن سمع من عمرو بن العاص وصف حال السفينة في البحر ( .. وهم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق).

والغريب أن تاريخ مدينة جدة باهت في التاريخ الإسلامي القديم ولم ينتعش ذكرها إلا بعد أن تم تفعيل ميناء عيذاب في منطقة حلايب السودانية في القرن الخامس الهجري ومن بعد ذلك التوقيت بدأ الرحالة العرب من مثل ابن جبير وابن بطوطة يذكرون تفاصيل رحلة سفرهم للحج عبر البحر الأحمر باستخدام السفن بين ميناء عيذاب وثغر جدة. وهكذا وبتدرج بطيء تزايدت أهمية دور بحر القلزم في نقل الحجاج وتنشيط التجارة بين طرفي السواحل الشرقية والغربية لبحر (الحجاز) الذي أصبح بحيرة إسلامية يمنع دخول سفن غير المسلمين لها. وعلى كل حال من عام 579 هجري (1183م) سوف يتغير مستقبل البحر الأحمر ليصبح أحد أدوات الحرب الشاملة وحرب الاستنزاف التي يحاول العدو الصليبي والأوروبي غزو قلب العالم الإسلامي من خلالها. قبل استعادة صلاح الدين لمدينة القدس في عام 583هـ تطور الصراع مع الأمارات الصليبية في فلسطين لدرجة أن قام أمير الكرك الصليبي أرناط (رينالد دي شاتيون) باحتلال مدينة العقبة وبعد أن أصبح له موضع قدم على ساحل بحر القلزم سرعان ما أمر ببناء أسطول بحري حاول من خلاله إثارة القلاقل في الموانئ الإسلامية عن طريق حرق سفن الحجاج في ميناء عذيب سالف الذكر. وكمحاولة لإنهاك ومشاغبة صلاح الدين اقتصاديا توجهت السفن الصليبية لأسطول أرناط إلى باب المندب وكذلك إلى عدن في محاولة للسيطرة على حركة التجارة البحرية واستطاعت بالفعل القرصنة على عدد من السفن التجارية العربية. ولكن بحمد الله ومن ثم بحنكة صلاح الدين واستجابته السريعة لهذا الخطر والمسارعة بإنشاء أسطول حربي عربي تم إفشال محاولة الصليبيين السيطرة على البحر الأحمر من خلال مدينة العقبة شمالا ومحاولة احتلال مدينة عدن جنوبا.

بعد سقوط آخر المعاقل الإسلامية في الأندلس ممثلة في مدينة غرناطة عام 1492م وظهور الإمبراطورية الإسبانية التي سيطرت على النصف الغربي من الكرة الأرضية (بالخصوص أمريكا الوسطى واللاتينية) تزامن ذلك مع بزوغ الإمبراطورية البرتغالية والتي سيطرت حسب مرسوم بابا الفاتيكان ألكسندر السادس ومعاهدة توردسيلاس على نصف الشرقي للكرة الأرضية وهذا ما فتح لها المجال لمحاولة احتلال الهند. وما يهمنا هنا أن الأساطيل البرتغالية حاولت إضعاف العالم الإسلامي من خلال إغلاق طريق الحرير البحري وخنق التجارة بين دولة المماليك في مصر وبين الهند. ولضمان تحويل التجارة العالمية بين الهند أوروبا عبر مسار رأس الرجاء الصالح الملاحي، ليس فقط حاول البرتغاليون احتلال عدن والسيطرة على مضيق باب المندق بل بلغت بهم الجرأة الأثيمة لمحاولة احتلال ميناء جدة وتهديد البلد الحرام في مكة المكرمة.  في عام 1517م قام الأسطول البرتغالي بفرض حصار حول ميناء جدة لكن من لطف الله أن هبت عاصفة بحرية شتت شمل الأسطول الغازي، وقد تكررت محاولة البرتغاليين احتلال ميناء جدة عام 1541م عندما دحرت الحامية التركية وجنود الأشراف الأسطول البرتغالي الغازي. وكما تجدر الإشارة إلى أنه في نهاية القرن السادس عشر حاولت السفن الحربية البرتغالية مرة أخرى السيطرة على كامل البحر الحمر مع التركيز على احتلال عدن وجزيرة سُقطرة في الجنوب وصولا إلى ميناء السويس في الشمال.

 القنوات والمضائق البحرية .. نعمة أم نقمة

كمحاولة لتفسير أو استقراء مائلات صراع القوى العالمية، قام عشرات المفكرين بطرح نظريات متعددة في السياسية الخارجية والعلاقات الدولية من أغربها تلك النظريات المتعاكسة تماما. خذ على سبيل المثال نظرية الجغرافي البريطاني ماكندر (نظرية قلب العالم) أو العلاقة بين اليابسة والمياه وأن من يملك البر يملك البحار، بينما في المقابل نجد أن نظرية المؤرخ الأمريكي ماهان تقلب المعادلة بحيث تصبح القاعدة أن من يملك البحر يملك اليابسة. في الواقع الإمبراطورية الرومانية تمثل نظرية ماكندر فعندما سيطرت روما على جميع الأراضي حول البحر الأبيض المتوسط عرف ذلك المسطح المائي في كتب التاريخ بالبحيرة الرومانية، بينما الإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والبريطانية وحديثا الأمريكية وبحكم أنها تعتمد في هيمنتها على العالم من خلال أساطيلها البحرية لذا هي مثال واقعي على نظرية ماهان. لكن الخطورة في الأمر فيما يتعلق بموضوع مقالنا وهو الملاحة في البحر الأحمر أن من القواعد التفصيلية لنظرية ماهان قولهم (إذا أرادت القوى السياسية العظمى السيطرة على العالم فيجب عليها أولا السيطرة على الطرق البحرية التجارية الرئيسية في العالم).

في الواقع البحر الأحمر في أغلب التاريخ البشري لم يكن له دور كبير في التجارية العالمي لأنه بحر مغلق ولهذا منذ زمن الفراعنة تم التفكير في حفر قناة مائية تربط بين هذا البحر (البحر الفرعوني كما كان يعرف) وبين البحر الأبيض المتوسط. في عام 1832م عرضت بعثة هندسية فرنسية على والي مصر محمد علي باشا فكرة حفرة قناة السويس ولكنه عارض ذلك بشدة وقال (لا أريد بوسفوراً آخر في مصر) لأنه بفطرته السياسية السليمة رصد تدخل الدول الأوروبية في الشأن التركي. في الواقع كان محمد علي باشا يخشى أن حفر قناة السويس ربما يتسبب في طمع الدول الغربية في مصر ومن ثم احتلالها وهذا تقريبا ما حصل، فبعد أن عزلت بريطانيا وفرنسا الخديوي إسماعيل وهو من حفر قناة السويس احتلت بريطانيا أراضي مصر عام 1882م أي بعد 13 سنة فقط من افتتاح قناة السويس. وهذا ما حصل أيضا مع قناة بنما فهي في الأصل جزء من أراضي دولة كولومبيا ولكن نظرا لأطماع الولايات المتحدة فيها ساعدت على استقطاع أراضي القناة وتحويلها لدولة مستقلة تسمى بنما تقع تحت الهيمنة الأمريكية.

كما هو معلوم في أغلب التاريخ البشري كانت التجارة تتم من خلال طريق قوافل التوابل وطريق الحرير البري ولكن منذ عصر الكشوفات الجغرافية في القرن الخامس عشر أصبحت خطوط التجارية العالمية هي الممرات البحرية التي تتحكم فيها الأساطيل البرتغالية حول قارة إفريقيا ولهذا كما ذكرنا كانت محاولة الإمبراطورية البرتغالية حصار وتحييد دور البحر الأحمر في التجارة العالمية. لكن هذا الأمر تغير بشكل جذري بعد افتتاح قناة السويس عام 1869م حيث أصبح البحر الأحمر في قلب التجارة العالمية وشرينها الرئيسي وهذا سلاح ذو حدين.

نشهد هذه الأيام نزاع بحري خطير بين جماعة الحوثي في اليمن وبين البحرية وسلاح الطيران الأمريكي والبريطاني على خلفية محاولة هجمات الحوثيين ضد السفن التجارية المتجه نحو الكيان الصهيوني أو المرتبطة بالولايات المتحدة وبريطانيا. هذا الصراع العسكري المتشح بالعباءة الاقتصادية والهادف لاستخدام ممر التجارة العالمية ومسار الملاحة الدولية في البحر الأحمر كأداة نفوذ سياسي وسلاح عسكري له شواهد متعددة في التاريخ المعاصر. في الحقيقة وفي هذا الشأن بالفعل التاريخ يعيد نفسه حرفيا فتاريخ نشر هذا المقال في يوم السبت السادس من شهر يونيو يتوافق بالضبط مع ما حصل في هذا التاريخ (6 من يونيو) من عام 1904م عندما أرسلت روسيا القيصرية سفينتين بحريتين إلى مدخل البحر الأحمر لكي تمنع السفن التجارية البريطانية والألمانية من العبور إلى أوروبا من خلال قناة السويس. في بداية عام 1904م اندلعت الحرب الروسية اليابانية ونظرا لوجود تحالف عسكري سابق بين اليابان وإنجلترا لهذا أسهمت الاستخبارات الإنجليزية في دعم اليابان، وعلية كان رد الدب الروسي أن يعكر مسار التجارة العالمية الذي يمر عبر قناة السويس وتتحكم فيها بريطانيا المحتلة للسيادة المصرية.

الجدير بالذكر أن التنغيص على الهيمنة البريطانية على خط الملاحة التجارية في البحر الأحمر تكرر مرة أخرى في بدايات الحرب العالمية الثانية وذلك عندما شكل الأسطول البحري الإيطالي المتواجد في ميناء مصوع (في هذه الفترة كانت إرتيريا مستعمرة إيطالية) تهديدا خطيرا على السفن التجارية الأمريكية والبريطانية. ولهذا كما يحصل هذه الأيام كانت تلك السفن تتجنب المرور عبر قناة السويس وتأخذ الطريق الأطول والأكثر كلفة مالية عبر طريق رأس الرجاء الصالح وكان من نتائج ذلك قيام الأسطول البريطاني طرد الأسطول الإيطالي من ميناء مصوع.

وبمناسبة ذكر الاسطول الإيطالي المتواجد على مدخل البحر الأحمر في القواعد البحرية الإريترية لعل من الملائم التنويه إلى أن من مظاهر الصراع للسيطرة على البحر الأحمر نشوب معركة بحرية بين السفن الحربية الإيطالية وبين القطع الحربية البحرية التابعة للحامية التركية المتركزة في موانئ مدينة القنفذة ومدينة الحديدة. حصل ذلك في مطلع عام 1912 م وذلك أثناء نشوب الحرب العثمانية والإيطالية وكان من دواعيها قيام البحرية الإيطالية بتدمير وإغراق ست سفن حربية تركية أمام ساحل القنفذة وكذلك قصف ميناء ومدينة القنفذة وهذا يعيد للأذهان حادثة قصف مدينة جدة من قبل إحدى السفن الحربية البريطانية في صيف عام 1858 ميلادي. بالمناسبة يوجد العديد من حطام السفن العالقة على ساحل البحر الأحمر مثل سفينة جورجيوس جي الموجودة قرب مدينة حقل وسفينة الفهد في بحر الشعيبة جنوب جدة وكلا منها وغيرها تتنافس على لقب سفينة (تيتانيك السعودية). ولكن من وجهة نظري أن الأحق بهذه التسمية هي السفينة العثمانية الغارقة أمام القنفذة والتي تم انتشالها مؤخرا وتجهيز متحف خاص لها وسبب جدارتها بلقب (تيتانيك السعودية) أن تلك السفينة وسفينة التيتانيك الأصلية كلا منها غرقت في نفس السنة أي عام 1912 ميلادي.

بقي أن نقول قبل أن نغادر إن إغراق السفن الحربية في البحر الأحمر قد يكون بفعل العدو أثناء المعارك البحرية للسيطرة على البحر الأحمر كما حصل مثلا أثناء الغارات الجوية النازية على السفن البحرية البريطانية في بور سعيد أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد يكون إغراق السفن الحربية وحتى التجارية وسفن الصيد بشكل متعمد وكوسيلة للدفاع وليس الهجوم وهذا ما حصل أثناء حرب العدواني الثلاثي على مصر عام 1956م عندما وافق جمال عبد الناصر على قيام البحرية المصرية بإغراق حوالي 48 سفينة في المجرى الملاحي لقناة السويس كوسيلة لإعاقة وصول الغواصات والفرقاطات البحرية البريطانية والفرنسية إلى البحر الأحمر. قصة الصراع العسكري على ممرات التجارية الملاحية لم تنته فصولا بعد حيث إنه وبعد هزيمة حرب الأيام الستة عام 1967م وفي أجواء الاحتقان الحربي بدأت فترة حرب الاستنزاف بين مصر والكيان الصهيوني مما نتج عن ذلك إغلاق قناة السويس لمدة ثماني سنوات متواصلة وهو ما تسبب في أضرار اقتصادية هائلة على مصر وبقية بلدان العالم.

 كلمة أخيرة لا بد منها هي أن تاريخ منطقتنا العربية في العصور القديمة توجد فيه نقاط ومناطق مجهولة تماما ومن ذلك علاقة البحر الأحمر بالصراع بين القوى والممالك والإمبراطوريات القديمة حول من يهيمن على ممرات التجارة البحرية. نشهد هذه الأيام صدام بين الاسطول البحري الأمريكي وبين مسيرات وصواريخ جماعة الحوثي حول من له السيطرة على حركة السفن العابرة لمضيق باب المندب. الغريب في الأمر أنه قبل حوالي ألفي سنة وقع صراع مشابه بين الإمبراطورية الرومانية وبين مملكة سبأ اليمنية على ذات نفس الهدف وتبدأ القصة عام 30 قبل الميلاد عندما تمكن الإمبراطور الروماني أغسطس من ضم مصر كمقاطعة رومانية ثم سرعان ما فتح خط تجارة بحري بينها وبين الهند. وبحكم أن السفن التجارية الرومانية كان يجب عليها أن تتوقف في موانئ المخا وعدن لكي تدفع الضرائب والأتاوات أمر أغسطس بتجهيز جيش من 10 آلاف مقاتل وأسطول بحري من 120 سفينة لكي تتوجه إلى أرض (اليمن السعيد أرابيا فيليكس) إما لعقد صداقة تجارية معها أو احتلالها واخضاعها بقوة السلاح. وبحكم أن هذه الحملة العسكرية رافقها المؤرخ الرومانية البارز سترابو والذي نقل للرومان ولمن بعدهم تفاصيل حصار الرومان لمدينة مأرب واحتلالهم لمدينة عدن ودخولهم دون قتال لمدينة نجران. ومع هذه النتائج المبدئية إلا أن السيطرة على اليمن لم تستمر لأكثر من شهرين ومع مصرع أغلب الجيش الروماني بالأمراض أو بالقتال كانت خاتمة المطاف فشل الحملة العسكرية وهو ما تسبب في إقالة قائد الحملة أيليوس غالوس والذي هو في الأصل الحاكم الروماني لمصر.