د. أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1447/6/22
في عام 2021م أطلقت وزارة الثقافة بالمملكة مبادرة اختيار ذلك العام لكي يصبح (عام الخط العربي 2021) ثم العالم الذي يليه حصل وأن سافرت إلى مدينة برشلونة وهنالك حصلت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي تجمع بين جمال فن الخط العربي وبين أشهر فنان ورسام في العصر الحديث: بيكاسو. في صيف عام 2022م حرصت على زيارة الحي القوطي في مدينة برشلونة ليس فقط لعراقته التاريخية وروعة فن العمارة وجمال منظر الأزقة بين المنازل الأثرية، ولكن لأمر أهم وهو زيارة (متحف بيكاسو). بالرغم من وجود حوالي خمسة متاحف مختلفة مخصصة بشكل كامل للرسام العالمي بيكاسو ثلاثة منها في إسبانيا وواحد في باريس وآخر في نيويورك إلا أن أكبرها على الإطلاق من حيث الحجم وكمية محتويات الأعمال الفنية التي أبدعها بيكاسو كان ذلك الذي المتحف في الحي القوطي بمدينة برشلونة والذي يحتوي على حوالي 4200 من الأعمال الفنية المتنوعة التي أنتجها بيكاسو خلال مسيرته الفنية الطويلة.
من ضمن هذه المجموعات الفنية المعروضة في متحف بيكاسو توجد عددا من المجلدات الضخمة والتي هي أشبه بالكتلوجات التي تجمع رسومات واسكتشات أولية رسمها بيكاسو وكأنه في فترة تدريب على الرسم أو فترة التجريب للمخططات الأولية لبعض اللوحات والرسومات الجديدة. وما لفت نظري بشكل كبير وجود شكلين بحجم صغير رسمهما بيكاسو هما أشبه بكلمة (الله) وكلمة ثانية ربما في جزء منها هي (محمد) عندما تكتب هذه الكلمات بالخط الكوفي وموجود أسفل هذه الأشكال بعض الملاحظات من ضمنها تاريخ إنتاجها في عام 1938 م وسوف أرفق مع هذا المقال صورة ملتقطة بكاميرا جوالي لهذه الأشكال وكذلك سجلت مقطع فيديو قصير عنها. وهنا أود أن أنبه القارئ الكريم أنه قبل رسم بيكاسو لتلك الكلمات العربية بعام واحد أي في سنة 1937م أنجز بيكاسو أحد أهم وأشهر أعماله الفنية والتي أعطته شهرة طاغية وأقصد بذلك اللوحة الجدارية الضخمة (غرنيكا) والتي تتعلق بالحرب الأهلية الإسبانية ومرة أخرى قمت بتصويرها هي الأخرى بجهاز جوالي ولكن هذه المرة خلسة وفي غفلة من موظفي المركز الوطني للفنون (متحف الملكة صوفيا) في مدينة مدريد.
الجدير بالذكر أنه أثناء المسيرة الفنية للرسام الإسباني بيكاسو مرّ بعدة مراحل فنية في بداية شبابه مثل: الفترة الزرقاء والفترة الوردية والمرحلة الأفريقية والمرحلة التكعيبية والمرحلة السريالية وهكذا وما يهمنا هنا أنه في عام 1937م وصل إلى قمة النضج الفني في اللوحة التعبيرية السياسية (غرينكا). وعليه في عام 1938م كان بيكاسو في سنة 57 من العمر ولهذا ربما بدأ يفكر في تجريب طرق وأساليب جديدة مختلفة كليا في أسلوب الرسم والفن التشكيلي ولهذا يبدو أنه حاول أن يقلد رسم بعض الكلمات العربية المكتوبة بالخط الكوفي الأنيق. وهذا يقودنا للعبارة العجيبة التي صدرت عن بيكاسو إذا يقول (لقد سعيت للوصول إلى أقصى مستويات الإتقان الفني، ولكني وجدت أن الخط العربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد). وهذه العبارة موجودة في كتاب (هالة حرف الألف Aura of Alif فن الكتابة في الإسلام) وهو كتاب من تأليف المؤرخ الألماني يورغن فريمبغن أستاذ التاريخ والثقافة الإسلامية بجامعة ميونخ. لسنوات طويلة كان للروائية وهاوية جمع التحف الفنية الأمريكية جيرترود شتاين صالون أدبي وفني في مدينة باريس كان بيكاسو دائما يواظب على حضوره مع عدد من أبرز الأدباء والرسامين التشكيليين. وفي عام 1938م قامت جيرترود شتاين بتأليف كتاب خاص عن بيكاسو وأشارت فيه بشكل واضح لعلاقة بيكاسو بفن الخط العربي وكان من ضمن ما قلته في ذلك الكتاب (إن هوية بيكاسو كإسباني سمحت له بتطبيق الخط العربي على فنه دون أن يصبح جزءا منه أو يفقد أي جزء من نفسه). وفيما يخص هوية بيكاسو الإسبانية وعلاقتها بالخط العربي ُيقصد من ذلك أن بيكاسو المولد في مدينة ملقة في إقليم الأندلس (أندلوسيا) في جنوب إسبانيا حتما ولا بد من أن يكون قد شاهد بعض الآثار الأندلسية العربية التي تحتوي على النصوص العربية المزخرفة.
ومع ذلك بالفعل لم ينغمس بيكاسو في تجربته الجديدة مع محاولة توظيف بعض كلمات الخط العربي لدرجة أن أن يصبح جزءا منه أو يفقد أي جزء من نفسه كما علقت ولاحظت صديقته جيرترود شتاين ولهذا لم يكن بيكاسو يرسم كلمات عربية حقيقة وإنما كان يستلهم بعض الكلمات العربية وكأنها نوع من (الزخارف motifs) وبهذا تحولت الكلمات العربية المكتوبة بالخطوط العربية الرائعة مثل الخط الكوفي أو خط الثلث إلى نوع من عناصر الفن والرسم التشكيلي. بعد أيام قليلة وبالتحديد في يوم الخميس القادم 18 ديسمبر سوف تحل مناسبة (اليوم العالم للغة العربية) ولهذا خطر في بالي أن أكتب مقالا خاصا يحمل عنوان (الكلمات العربية في الفن التشكيلي الأوروبي) ولكن عندما تبين لي أن الفنانين والرسامين الأوروبيين منذ زمن عهد النهضة وحتى بيكاسو لم يكون يستخدمون في رسوماتهم كلمات عربية حقيقة مفهومة وإنما (زخارف) بالخط العربي لهذا قمت بتغيير عنوان هذا المقال الحالي إلى (الخط العربي في الفن التشكيلي الأوروبي).
الخطوط العربية وفنانو عصر النهضة
عبر السنوات الماضية يحصل أحيانا أن تتداول وسائل الإعلام أو منصات التواصل الاجتماعي أخبارا غريبة مثل اكتشاف ملابس قديمة مدفونة في السويد قبل ألف عام منذ زمن الفايكنغ ومنقوش عليها كلمات عربية أشبه ما تكون بكلمة (الله) وقريب من ذلك اكتشاف خاتم لامرأة من الفايكنغ منقوشة عليه بالحروف العربية كلمة (الله). وهذا بالطبع يذكرنا بالضجة التي حصلت قبل عدة سنوات عندما أعيد التذكير بقصة اكتشاف قطعة نقود معدنية من زمن الملك الإنجليزي أوفا ركس المتوفي في نهاية القرن الثامن الميلادي والمعاصر للخلافة الأموية حيث وجد دينار ذهبي منقوش على أحد وجهيه كلمة الشهادة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) وعلى الوجهة الثاني منقوش (محمد رسول الله مع اسم الملك OFFA REX). وعلى سيرة ملوك الجزيرة البريطانية والحالات النادرة لارتباط بعضهم ببعض الكلمات والعبارات العربية يشتهر كذلك أن اللوحات والرسومات لبعض ملوك الإنجليز بها كلمات عربية مثل لوحة الملك ريتشارد الثاني التي يعود تاريخها إلى عام 1395م حيث يظهر على رداء وعباءة الملك زخرفة أشبه بنقوش عربية بالخط الكوفي.
وهذا يفتح المجال للحديث والإشارة إلى الدراسات التاريخية والأبحاث الفنية والتشكيلية التي ترصد وتحلل ظاهرة وجود الكلمات العربية والخطوط العربية في عدد كبير من اللوحات الفنية ورسومات البورترية الشخصية portrait لعدد من ملوك أوروبا حيث تظهر في أردية وملابس هؤلاء الملوك. ومن ذلك رسالة الدكتوراه من جامعة برلين التي أنجزتها في عام 2017م مؤرخة الفنون الألمانية إيزابيل دوليزاليك وكان عنوان رسالتها التي ظهرت في كتاب مطبوع (الكتابة العربية على الملوك المسيحيين .. نقوش على ملابس ملوك صقلية). ومن المشهور أن ملوك صقلية النورمانديين مثل روجر الثاني وحفيدة ويليام الثاني كان لهم إعجاب كبير بالحضارة الإسلامية لدرجة أن رجال البلاط وحاشية الملك العاملون في القصور الملكية كانوا يرتدون الملابس والعباءات العربية بل إن روجر الثاني كان لقبه الرسمي (رجار المعتز بالله) على طريقة أسماء وألقاب خلفاء الدولة العباسية.
وبمناسبة ذكر العباءة العربية والرداء والملابس الإسلامية التي أعجب بها ملوك الفرنجة في القديم تجدر الإشارة إلى أنه قبل عدة أيام تم الإعلان عن قيام اليونسكو بإدراج رداء (البشت) أو العباءة العربية ضمن قائمة التراث الإنساني وهذا اعتراف عالمي بجمال وفخامة الرداء العربي الأصيل. وهذا في الواقع امتداد للإعجاب القديم للشعوب الأوروبية بالعباءة العربية لدرجة أنه ليس فقط ملوك إيطاليا وصقلية هم من كانوا يرتدون ملابس قريبة في شكلها من العباءات العربية بل توجد رسومات جدارية من القرن الثاني عشر الميلادي في كنيسة القديسة مريم بمدينة روما تبين أنه حتى البابوات وكبار رجال الدين في ذلك العصر كان يلبسون رداء مشابه للعباءة العربية. ونتيجة لإعجاب ملوك صقلية وباباوات روما بالرداء العربي في القرن الثاني عشر الميلادي انعكس ذلك في تقبل علية القوم في المجتمعات الأوروبية لمبدأ تقليد العرب والحضارة الإسلامية في زخرفة العباءات الملكية وأردية وملابس القساوسة وكبار رجال الكنيسة بأشرطة مطرزة بزخارف ونقوش بعضها هي كلمات عربية.
ولهذا نجد أنه منذ القرن الرابع عشر الميلادي ومع بواكير وإرهاصات عصر النهضة الذي ظهر في إيطاليا بدأ الفنانون في البندقية وفلورنسا وروما عندما يريدون أن يرسموا لوحات فنية لشخصيات سياسية بارزة مثل الملوك أو الأمراء أو يبدعون رسومات دينية لشخصيات مقدسة مثل مريم العذراء أو المسيح المخلص أو القديسين كثيرا ما تحتوي تلك الأعمال الفنية شخصيات ترتدي العباءات robes أو تحيط برؤوسها هالات halos تحتوي على كلمات وعبارات بعضها قد تكون كلمات عربية. فعلى سبيل المثال نجد في لوحة (تتويج العذراء) لرسام عصر النهضة الإيطالي فرا أنجيليكو والتي رسمها في حدود عام 1423م نجد أن الطوق أو الياقة التي فوق صدر السيد المسح مرسوم عليها كتابات عربية مكررة أشبه ما تكون كلمة (الله) بالخط الكوفي. بينما في لوحة (العذراء والطفل مع القديسين) التي رسمها الفنان الإيطالي كيما دا كونجليانو في حدود عام 1504م نجد في تلك اللوحة أن أسفل الرداء الذي يلبسه القديس بطرس يوجد وشاح منقوش عليه كلمات عربية ذهبية اللون بالخط الكوفي هي شبيه لكلمات (الملك، العالي، الناصر، المولوي، المالكي).
وهنا يجب أن نقف وقفة سريعة أن تلك الكلمات العربية السالفة الذكر لا تشكل معنى أو عبارة مفهومة وهذا أمر متوقع تماما فجميع الفنانين والرسامين الإيطاليين في عصر النهضة بالقطع لم يكونوا يعرفون اللغة العربية ومن المحتمل أنهم لم يعرفوا معنى تلك الرسومات الشبيهة بالكلمات العربية وإنما هم كانوا (يقلدون) الشكل الظاهري الفني الجميل للكلمات العربية عندما تكتب بالخط الكوفي أو خط الثلث أو الخط الأندلسي. بمعنى أن الكلمات شبه العربية التي كان تظهر في الرسومات الدينية واللوحات الفنية في عصر النهضة هي كانت فقط تستخدم كوسيلة (لزخرفة) رسومات أطراف العباءات والأردية للشخصيات الدينية المقدسة (المسيح، العذراء، القديسون) أو الشخصيات السياسية المرموقة مثل الملوك والأباطرة.
ونظرا لأن عددا كبيرا من أشكال الرسومات الشبيه بالكلمات العربية التي أبدعها فنانو عصر النهضة لم تكن كلمات عربية حقيقة لهذا هذه الظاهرة الفنية كانت تسمى: النصوص العربية الزائفة (pseudo Arabic scripts) وأحينا تسمى بشكل أكثر تحديدا: الخط الكوفي الزائف (pseudo Kufic). والجدير بالذكر أنه في الفترة المبكرة من عصر النهضة وربما قل ذلك أي منذ القرن الثالث عشر الميلادي كانت موجة الزخرفة بالكلمات والخطوط العربية الزائفة واسعة الانتشار لدرجة أن تم تخصص رسائل جامعية أو تأليف كتب خاصة عن هذه الظاهرة من أهمها كتاب (النقوش العربية والنقوش الزائفة في الفن الإيطالي). وفي هذا الكتاب الذي كان في الأصل رسالة دكتوراه من جامعة أتو فردريك بامبريج الألمانية للباحث الإيطالي إنيو نابوليتانو والذي يعمل حاليا في العهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت والذي قد درس واستعرض المئات من اللوحات الفنية التي بها زخارف وكلمات عربية أبدعها بعض أشهر الفنانين الإيطاليين من الطراز الأول مثل رفائيل وبوتيتشيلي وجوفياني بيليني وفيليبو ليبي وفرا أنجيليكو. علما بأن تلك الأعمال الفنية الإيطالية من عصر النهضة التي بها الكلمات العربية تعرض حاليا في أكبر المتاحف العالمية ولهذا النصيحة لمن يزور متحف اللوفر في باريس أو متحف أوفيزي في فلورنسا أو متحف باردو في مدريد أو متحف الإرميتاج في سانت بطرسبرج أو متحف المعرض الوطني للفنون في لندن لمشاهدة اللوحات الفنية الكلاسيكية أبحث في تلك الرسومات نماذج الكلمات والخطوط العربية ففي هذه الحالة سوف تختلف تجربة زيارتك لتك المعارض الفنية عما سبق.

