د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1447/1/3 الموافق 28 يونيو
كالعادة في الأجواء السياسية المشحونة يميل البعض للتشاؤم المبالغ فيه وتوقع الأسوأ (لدى علماء النفس مطلح لهذه الظاهرة: الانحياز التشاؤمي pessimism bias) ولهذا ارتفعت الأصوات قبل سنوات بأن الصراع الروسي الأوكراني لا شك بأنه سوف يشعل أوار ونار الحرب العالمية الثالثة. وكذلك الأمر مع الصراع الصهيوني الفارسي هذه الأيام تشاءم البعض إلى أن المنطقة العربية سوف تحترق من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، ولكن الله سلّم ومرّت الأمور مؤقتا لمرحلة فك الاشتباك.
ومع ذلك الراصد لحركة التاريخ ومسارات الحروب البشرية الكبرى يجد تناقضات هائلة فأحيانا أحداث سياسية وقلاقل حربيه كبرى تتلاشى وكأن لم تكن وفي المقابل قد يكون الحال في بعض الحالات كما في المثل الدارج (معظم النار من مستصغر الشرر). وفي زمننا المعاصر تعتبر الحروب العالمية الأولى والثانية أهم أحداث سياسية على الإطلاق ومن المصادفات أنني وفي سفريات سياحية بحته عاصرت ذكرى نهاية الحرب العلمية الثانية وذكرى انطلاقة الحرب العالمية الأولى. العالم الماضي وبتخطيط مسبق رتبت جدول سفري لكي أكون في مدينة هيروشيما اليابانية في تمام الساعة الثامنة والنصف من صباح السادس من أغسطس بحيث أقف أمام (القبة الذرية) لكي أعيش أجواء إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما والنهاية الحاسمة للحرب العالمية الثانية.
وفي المقابل وبدون ترتيب مسبق حصل في عالم 2018م أن وصلت إلى مدينة سراييفو في تاريخ لم انتبه في بداية الأمر أنه على درجة عالية من الأهمية حيث كان يتوافق مع اليوم الذي انطلقت فيه شرارة الحرب العالمية الأولى أو ما كانت في حينه تسمى بكل بساطة وبكل دلالة في نفس الوقت (الحرب العظمى Great War). يا سادة يا كرام اليوم السبت الموافق 28 من شهر يونيو يتزامن مع الذكرى 115 لحادث اغتيال الأرشيدوق فرناز فرديناد ولي عهد الإمبراطورية النمساوية في أحد شوارع سراييفو وعلى يد متعصب صربي. في يوم 28 يونيو من عام 2018م وعندما سكنت في المنطقة التاريخية المذهلة في وسط سراييفو بالقرب من جامع الغازي خسرو بك ذهبت للتجول حول النهر وبالذات لمنطقة الجسر اللاتيني لمعرفتي المسبقة أنه الموضع الذي وقعت حوله حادثة اغتيال ولي عهد النمسا. وإذا بي أشاهد تجمهرا للسياح والمارة حول سيارة كلاسيكية سوداء مكشوفة السقف وإذا رجال ونساء يقفون بالصف لكي يصل دورهم في ركوب تلك السيارة الكلاسيكية السوداء ولبس بدلة زرقاء رجالية أو حمل شمسية نسائية ومن بعد ذلك تلتقط لهم الصور وهم يمثلون دور الأرشيدوق النمساوي عندما تم اغتياله هو وزوجته الأميرة صوفي.
لاحقا في مساء ذلك اليوم (الخميس 28 يونيو 2018م) وبعد أن تنبهت أن ذلك اليوم يتوافق مع موعد انطلاق شرارة الحرب العالمية الأولى ودور البوسنة والهرسك في هذا الشأن وبحكم أنني كنت قد أطلعت على تاريخ الصراع السياسي والتاريخي القديم في إقليم البلقان وشاهدت عبر السنين العديد من الأفلام الوثائقية عن حادثة اغتيال ولي عهد النمسا الغريبة جدا لهذا لم أنم تلك الليلة إلا بعد أن كتبت ونشرت المقال التالي:
( في السياسة .. معظم النار من مستصغر الشرر )
إذا أراد الله سبحانه أمراً هيأ أسبباه
التاريخ البشري حافل بأحداث القتال والمعارك، ولكنها في الغالب معارك معزولة بين دول وشعوب محدودة. هذه القاعدة الحربية تغيرت بشكل حاد بعد اندلاع الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى WWI) والتي انطلقت شرارتها في مثل هذا اليوم أي ( يوم 28 يونيو ) قبل حوالي قرن من الزمان وذلك من جراء حدث ليس بالجلل تم في شارع عادي في مدينة منسية (في ذلك الوقت) تدعى سراييفو. في ذلك اليوم من عام ١٩١٤م تمت الحادثة الغريبة لاغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية فرانز فرديناد في مدينة سراييفو ولحكمة شائها المولى عز وجل كُتب على البشرية أن تندلع أشرس حرب عسكرية وأخطر زلزال سياسي سوف يعيد تشكيل خارطة دول وشعوب وإمبراطوريات وكل ذلك من جريرة حادثة كل الظروف الاعتيادية تحتم ألا تقع.
كانت الإمبراطورية النمساوية المجرية تحكم بلاد البلقان حيث كانت الأقلية الصربية مغالية جدا في تعصبها الديني ومعارضتها السياسية وعليه كانت زيارة الأرشيدوق وريث عرش النمسا لمدينة سراييفو خطأ فادحا ما كان ينبغي أن يقع. وفي حال تمت تلك الزيارة كان من الخطأ كذلك أن تتم في توقيت عيد القديس فيتوس الذي يتوافق مع معركة حربية خسراها الصرب وبالتالي كان من الحماقة استفزاز مشاعرهم بمثل تلك الزيارة في ذلك التوقيت. الغريب في الأمر أن المحاولة الأصلية للاغتيال الأرشيدوق تمت من خلال الشروع في تفجير سيارته عن طريق رمي قنبلة يدوية عليها وهو ما تم بالفعل، ولكن شاء الله أن تتدحرج القنبلة ولا تنفجر إلا في السيارة التي خلفها وبهذا نجى الأرشيدوق وزوجته من موت محتوم. وكان من المفترض بعد ذلك أن يتم التشديد في حماية الأرشيدوق لأن شكوك الاستخبارات المسبقة قبل زيارته كانت في محلها، ولكن تدخل قدر الله فبعد أن غادر الموكب مكان الحدث طلب الأرشيدوق أن يزور المستشفى الذي به الجرحى الذين أصيبوا من حادث التفجير الذي تم صباح ذلك اليوم وهنا تحدث المفاجأة الكبرى.
في الواقع كان أحد المتعصبين الصرب الذين شاركوا في محاولة التفجير قد غادر الموقع قبل أن ينتبه له رجال الأمن وبحكم أنه أعتقد أن محاولة الاغتيال قد كتب لها الفشل لذا حاول أن يبعد عن نفسه الشبهات فتوجه وكأنه زبون عادي لاحتساء القهوة في شارع فرانز جوزيف قرب الجسر اللاتيني على نهر سراييفو. وهنا ساق الله الأرشيدوق ليذهب بنفسه إلى حتفه وليقع بين يدي قاتله وذلك أنه حصل خلاف بين قائد شرطة سراييفو والقائد العسكري للمنطقة حول خطة تأمين شوارع المدينة وبالتالي كان شارع فرانز جوزيف غير مأمن بشكل جيد. ولسبب غير معروف توقف موكب سيارات الأرشيدوق أمام ذلك المقهى وهنا وبكل بساطة أخرج الشاب الصربي المدعو غافريلو (عضو جماعة القبضة السوداء المتعصبة) مسدسه وأطلق النار على الأرشدوق وزوجته فأرداهم قتلى. وما تلا ذلك أصبح من التاريخ كما يقال:
أعلنت النمسا الحرب علي صربيا
تدخلت روسيا لمساندة الصرب
أعلنت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا دعمهم لروسيا
أعلنت ألمانيا تحالفها ومساندتها للإمبراطورية النمساوية وتم جر رجل الدولة العثمانية معهم
وبهذا حصلت كارثة الحرب العالمية الأولى
البوسنة والهرسك أرض البؤس والهرس
ما حصل بين دول وشعوب وإمبراطوريات ذلك الزمان معقد وإن أمكن تبريره وتفسيره بشكل مختزل فربما يتم إرجاعه لعوامل: (الاحتقان العرقي) و (التنافس السياسي) و (استرجاع التاريخ). ما تم في بلاد البلقان في مطلع القرن العشرين تكرر مرة أخرى بمأساوية مفجعة في نهاية ذلك القرن، فبسبب الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واسترجاع التاريخ تم مرة ثانية إشعال حرب عرقية سياسية في أرض يوغوسلافيا التي تشكلت من مزيج عرقي وديني متنافر من الصرب والكروات والبوسنويين وغيرهم من الأعراق الأرثوذكسية والكاثوليكية والاسلامية.
ولهذا ليس من الغرابة بمكان أنه لم تندلع حرب في القارة الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلا في يوغوسلافيا بالذات فهي أرض خصبة دائما للتشرذم والصراع. وهكذا تحولت فجأة (أرض عدم الانحياز) زمن الزعيم البارز جوزيف تيتو إلى بلاد التشظي والانحياز السياسي والديني والعرقي وذلك بعد سنوات قليلة من وفاة تيتو في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين. ونتيجة للاستحضار والاستجرار الصارخ للتاريخ حصلت الكارثة البقعاء في أرض البلقان فكما تسببت زيارة الأرشيدوق سابقا زمن ذكرى هزيمة الصرب في اندلاع الحرب العالمية الأولى تسببت ذكرى هزيمة أشنع وأقدم للصرب في اندلاع الحرب الأهلية اليوغوسلافية. إرهاصات زلزال هذا الانقسام حصلت في عام ١٩٨٩م عندما أحتفل التيار المتطرف من القومية الصربية بمرور ستة قرون على (معركة كوسوفو) عام ١٣٨٩م والتي أنتصر فيها الجيش العثماني وتم فتح بلاد البلقان ودخلها الإسلام.
ولهذا بدأت الأحزاب المتطرفة الصربية من عام ١٩٨٩م في التصريح بكل صفاقة بطلب (تطهير) الأراضي الصربية من المسلمين وإعادة تهجيرهم إلى تركيا وأرض البشناق ومن هنا اندلعت لاحقا حرب البلقان. ولهذا كان الصراع داميا وجرائم الإبادة الإنسانية أبشع في حرب الصرب للمسلمين في البوسنة وحصارهم الرهيب والطويل لمدينة سراييفو وما حصل في هذه الحرب أشنع بما لا يقاس بما حصل من حرب بين الكروات الكاثوليك والصرب الأرثودوكس.
للأسف لا أحد يتعلم من التاريخ الذي ما برح يكرر نفسه حيث إن أسباب وعوامل (الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واستجرار التاريخ) هي نفسها التي تسببت في حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا وحرب الثلاثين عام بين فرنسا والإمبراطورية الألمانية القديمة فضلا عن كوارث الحربين العالميتين وما بعدها. وخط التاريخ الاستطرادي المستقبلي ما زال في عنفوان صعوده وللأسف تاريخ البشرية في القديم والحديث (سلسلة متواصلة من الأخطاء) التي تبدأ أحيانا بمسببات تافهة هي مستصغر الشرر والذي سرعان ما يشعل مستعظم الضرر.
اليوم الخميس الثامن والعشرين من شهر يونيو من عام ٢٠١٨م أقف في (بؤرة الحدث) الذي تم في نفس هذا اليوم قبل حوالي قرن من الزمن وأسترجع كيف تسبب (تراكم الأخطاء) البسيطة في قصة اغتيال ولي عهد النمسا في تغيير واقع التاريخ البشري بصورة غير مسبوقة. مخاض قاسي عانته البشرية جمعاء جراء الحروب العالمية وظهور الشيوعية ومع ذلك يمكن استشراف الخير من خضم الشر. فها هي ذا سراييفو ذاتها والبوسنة من خلفها قد (تعافت وصحٓت) بعد بؤس ولهذا ليس لي إلا أن أترنم بقول طيب الذكر المتنبي عندما فلسف حكمة احتمالية وقوع البلاء :
لعل عتبك محمودٌ عواقبهُ
وربما صحٓت الأجسام بالعللِ
يوم 28 يونيو وذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى
الفقرات السابقة كانت إعادة نشر للمقال الذي كتبته بشكل مستعجل في يوم 28 يونيو من عام 2018م عندما تنبهت بأنه يتوافق مع (ذكرى انطلاق شرارة) الحرب العالمية الثانية والغريب في الأمر أنني في الفترة الأخيرة تنبهت مرة أخرى أنه ربما يتوافق كذلك مع (اللحظة الرسمية) لإعلان نهاية الحرب العالمية الأولى. منذ سنوات وأنا أعلم أن نهاية (القتال) والعمليات العسكرية في الحرب العالمية الأولى تمت في توقيت مميز جدا حيث حصل وقف إطلاق النار في تمام: الساعة الحادية عشرة صباحا من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر من عام 1918م (1918/11/11: 11:00 am). ومع ذلك ظل الاحتقان السياسي سائد بين الدول الأوروبية المتنافسة والمتصارعة حتى تم في نهاية المطاف الإعلان بشكل رسمي عن نهاية الحرب العالمية الثانية وذلك في لحظة توقيع (معاهدة فرساي). هذه المعاهدة المشهورة التي اجتمعت وفود دول العالم الكبرى لمناقشتها وتوقيعها في ضواحي مدينة باريس حصلت في توقيت مميز كما كان موعد هدنة وقف إطلاق النار في موعد مميز. في يوم 28 يونيو من عام 2018م عندما وصلت لمدينة سراييفو لم أنتبه إلا لاحقا بأنني وصلت في توقيت ذكرى اندلاع الحرب العالمية الأولى واليوم أعلم أنن في نفس تلك اللحظة كنت في الواقع تقريبا في توقيت الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى والتي تمت بشكل رسمي في يوم 28 يونيو من عام 1919م.
ولهذا كلمتي الأخيرة للسياح السعوديين والعرب الموجودين اليوم (28 يونيو) في مدينة سراييفو سوف أسدي لهم نصيحة سياحية وثقافية بأن يتوجهوا اليوم إلى مبنى (Riverside Residence) المقابل للجسر اللاتيني على نهر سراييفو وهنالك غالبا سوف يجدون سيارة كلاسيكية سوداء يتزاحم حولها السياح وعشاق التاريخ لكي يعيشوا تجربة استشعار أجواء بداية الحرب العالمية الأولى وكذلك ذكرى نهايتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق