د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/12/4
مرحلة الدراسة الثانوية من المراحل المفصلية في تكوين شخصية الشباب بالجملة وبالنسبة لي لست فقط انتقلت من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الرجولة، ولكن أيضا فيما يتعلق بهواية القراءة انتقلت في بداية المرحلة الثانوية للقراءة الجادة والمفيدة بعد بواكير القراءة السطحية للقصص والروايات. ومن أوائل وأكبر الكتب التراثية الدسمة التي قرأتها كان كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) للأمام السلفي الجليل ابن القيم الجوزية. في بداية قراءتي لكتاب ابن القيم أعجبت كثيرا بسلاسة أسلوب الكتابة لدية وكثرة المعلومات والفوائد التراثية وزاد من إعجابي بكتاب (الزاد) عندما علمت أن ابن القيم قام بتأليف هذا الكتاب عندما كان مسافر لأداء فريضة الحج ولهذا كان يكتب من الذاكرة لقلة الكتب التي معه ولانعدام من يتدارس معه من رفقاء العلم كما قال. وبسبب اشتهار خبر إن ابن القيم قام بتأليف كتاب زاد المعاد أثناء السفر للحج لذا في عدة مواقع من الكتاب كنت أجد أن محقق الكتاب الشيخ شعيب الأرنؤوط (أو الشيخ عبد القادر الأرنؤوط) يقدم الأعذار لابن القيم عندما يورد أحاديث نبوية ضعيفة أو يخلط في السرد الصحيح لمتن ونص بعض الأحاديث وكان العذر الذي يقال عند هذه الأخطاء النادرة والطفيفة أن ابن القيم كان في حال السفر ويكتب من الذاكرة.
ولكن قبل عدة أسابيع شاهدت مقطع لليوتيوبر الجزائري المبدع الشيخ عبد الحليم مدبر حمل عنوان (قصة كتاب زاد المعاد لابن القيم) وفيه يطرح ذلك الباحث التراثي الجزائري العميق الفهم والغزير الاطلاع رأي مختلف جدير بالتأمل. صحيح أن ابن القيم الجوزية رحمة الله صرّح في مقدمة الكتاب أنه ألّف كتابه الزاد في (حال السفر لا الإقامة) لكنه قبل تلك العبارة وبعد أن سرد عدة مظاهر من اصطفاء واختيار الله سبحانه وتعالى لرسوله محمد صلى الله علية وسلم كتب ابن القيم الجملة التالية: (وهذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى همة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهدية). وعليه يرجح الشيخ عبد الحليم المدبر أنه من المحتمل أنه بالفعل قد بدأ ابن القيم كتابة ذلك الكتاب الضخم وهو مسافر للحج، ولكن عبارة (هذه كلمات يسيرة) قد تعني أن ابن القيم قد يكون في بداية الأمر كانت مقصده أن يؤلف كتاب مختصر في السيرة النبوية ثم لما رجع من الحج ومع الشهور وربما السنوات أخذ يكمل كتابة ذلك الكتاب التراثي الزاخر والطويل والعلم عند الله.
وإذا كان تأليف ابن القيم لكتاب زاد المعاد أثناء سفر الحج فيها قولان كما يقال فهل يمكن أن توجد أقوال أخرى عن العلماء والفقهاء مذكورة في كتاب زاد المعاد ولها علاقة بالحج قد يكون فيها قولان. وبعد البحث وجدت أن القول المشهور بأن ابن القيم في كتابه زاد المعاد قد علل الخطأ الفاحش الذي وقع فيه الفقيه الظاهري ابن حزم الأندلسي بأن السعي بين الصفا والمروة عدد أشواطه 14 وليس 7 وأن سبب ذلك الغلط أن ابن حزم لم يؤد فريضة الحج وأنه لو فعل لعرف صعوبة جعل السعي 14 شوطا. ونظرا لأن هذه الخطأ العلمي منتشرة عن ابن حزام بأنه اعتبر شوط السعي الواحد يشمل المشي بين الصفا والمروة ذهابا وعودة وبحكم أن هذا الخطأ فقهي فاحش ولهذا كما أعتذر شعيب الأرنوؤط عن ابن القيم ولهذا نجد بعض طلبة العلم ينافحون عن ابن حزم وينصفونه بذكر حقيقة أنه لم يقع على الإطلاق في ذلك الوهم الفقهي الغريب. ويستدلون بأن ابن حزم قد ذكر بشكل واضح في كتابه الفقهي (المُحلّى) بأن السعي بين الصفا والمروة هو سبعة أشواط.
وبعد الرجوع لكتاب زاد المعاد تبين بالفعل أن ابن حزم لم يقع في ذلك الخطأ الشنيع، ولكنه غلط في أنه زعم بأن الرسول علية الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة وهو راكب على البعير وهنا قال ابن القيم عن كلام ابن حزم هذا بأنه (من أوهامه وغلطه رحمة الله). ثم قال ابن القيم إنه سأل شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية عن الوهم الذي وقع فيه ابن حزم عندما زعم أن الرسول عليه السلام سعى بين الصفا والمروة وهو راكب على البعير بينما حدث ذلك في الطواف وليس في السعي وهنا قال ابن تيمية (هذا من أغلاطه، وهو لم يحج رحمة الله تعالى).
والمقصود من هذا المدخل المطول لمقال هذا الأسبوع هو الإشارة أنه فيما يتعلق بالمسائل الفقهية المتعلقة بمناسك الحج نجد أن بعض مشاهير الفقهاء قد يقع منهم أخطاء في قضايا الحج بسبب أنهم لم يؤدوا فريضة الحج ولهذا ربما لم يستوعبوا بشكل دقيق بعض المسائل الفقهية المتعلقة بالحج. فمثلا هذا الفقيه المالكي البارز (القاضي عياض) أنفرد برأيه الفقهي بأنه في نهاية الحج يطوف الحاج طواف الوداع مرتين ولهذا نجد ان الإمام ابن حجر العسقلاني عندما ذكر هذا الرأي الفقهي الشاذ أعتذر للقاضي عياض كما أعتذر ابن تيمية لابن حزم بأنه لم يحج ولذا قال ابن حجر (والقاضي في هذا معذور لأنه لم يشاهد تلك الأماكن). وإذا كان القاضي عياض (المبصر) له عذره لأنه لم يسافر للحج ويشاهد مشاعر ومواقع الحج فكذلك الحافظ اللغوي البارز (ابن سيدة) معذور لأنه في الأصل أعمى ورجل ضرير ولأنه لم يحج هو الآخر فقد وقع في خطأ شنيع عندنا ذكر في معجمه اللغوي (المحكم والمحيط الأعظم) عند الحديث عن كلمة (الجمار) بأن موقع الجمرات في مشعر عرفة. كما هو معلوم أن موقع الجمار في مشعر منى وليس في عرفة ولهذا نجد في كتاب (الروض الأنف) تشنيعا على ابن سيدة حيث إن أبا القاسم السهيلي كتب في هذا الشأن ما نصه (وقال ابن سيده الجمار هي التي بعرفة وهذه هفوة لا تقال وعثرة لا لَعاً لها) أي سقطة شنيعة لا يقوم بعدها.
وبالرغم من أن القاضي عياض كان يقيم في المغرب العربي والحافظ اللغوي ابن سيده كان من أهل الأندلس وكذلك ابن حزم الظاهري ولهذا ربما لم تتاح لهم الفرصة لأداء منسك فريضة الحج لبعد ديارهم عن أرض الحجاز ومع ذلك توجد أسماء مشهورة في التراث الإسلامي من الفقهاء والعلماء وأهل الشريعة لم يحجوا بالرغم من عدم بعد ديارهم كثيرا. ومن هؤلاء مثلا يمكن أن نذكر أن الإمام البغوي صاحب التفسير لم يحج بالرغم من أنه عمّر حتى وصل لسن الثمانين وكذلك عالم الحديث البارز بدر الدين ابن جماعة بالرغم أنه عاش بين الشام ومصر. ومن علماء الشريعة الذين لم يتيسر له الحج شيخ الشافعية أبو إسحاق الشيرازي وشيخ المالكية ابن الحداد والفقيه الحنفي أبي الليث السمرقندي.
دعوة للحج عمن لم يحج
كما لا يخفى كان السفر للحج في العصور القديمة أمر محفوف بالمخاطر أحيانا بسبب كثرة قطاع الطرق أو لحصول الاضطرابات السياسية والحروب العسكرية بين الأقاليم والممالك والعربية أو بسبب الحر والجفاف أو حتى بسبب كثرة السيول وانتشار الأمراض والأوبئة. ولهذا كنوع من (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) من فضلاء أهل الشريعة والفقه الذين لم يؤدوا فريضة الحج نقول إنه في الغالب منعهم مانع قد نعرفه وقد لا نعرفه لأن خفايا ودقيق سيرهم الشخصية غالبا لا نعلمها. والجدير بالذكر أنه في التاريخ الإسلامي الطويل كثير ما تشير كتب التاريخ إلى سنوات بعينها أنه لم يستطع القدوم للحج عدد كبير من المسلمين من مختلف أقاليم الإسلام. فمثلا في كتاب (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة) لجلال الدين السيوطي نجد أنه يذكر عدة مواسم للحج خلال السنوات 430-445 هجري تفرد فيها بالحج أهل مصر فقط دول بقية الأقاليم الإسلامية وربما ذلك بسبب الصراع بين الخلافة العباسية والدولة الفاطمية. وفي كتاب (العبر في خبر من عبر) لمؤرخ الإسلامي الذهبي يشير إلى أنه في الأعوام 314-317 لم يحج أحد من العراق خوفا من القرامطة وفي ذات السياق يخبرنا المقريزي في كتاب (السلوك لمعرفة دول الملوك) أنه في عام 845 هـ لم يحج أحد من الشام وربما بسبب غزو المغول بقيادة تيمورلنك.
والمقصود أنه لأسباب متعددة قد نجد الجمّ الغفير من المسلمين من خرسان أو العراق أو المغرب أو اليمن في بعض الأوقات التاريخية العصيبة لا يستطيعون السفر للحج وهذا ما قد يفسر تعذر أداء فريضة الحج لبعض الفقهاء والعلماء. بينما في المقابل قد نجد بعض علماء الشريعة أشتهر عنهم تكرار الحج في سنوات متعددة وهذه ظاهرة ملموسة عند أهل الحديث بالذات لأن موسم الحج فرصة ذهبية للالتقاء بالمحدثين من أقطار العالم الإسلامي والسماع المباشر منهم وتحصيل مزية (علو الإسناد) وبهذا كثيرا ما تتقاطع وتتطابق الرحلة في طلب العلم مع الرحلة الحجازية لأداء مناسك الحج. فهذا الإمام علي بن المديني المحدث الحافظ (ويكفي أن نقول بأنه شيخ البخاري) ينقل عنه الترمذي في سننه أنه قال: حججت حجةً وليس لي همة إلا أن أسمع الحديث من سفيان بن عيينة. والإمام أبو جعفر الباقر يقول: إنه ليزيدني في الحج رغبة لقاء عمرو بن دينار (الإمام المكي الكبير) والغريب أن الإمام الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء أشار إلى أن ممن حدّث عن أبي جعفر الباقر مفتي مكة عمرو بن دينار وهكذا العلماء كان يتبادلون العلم بينهم.
وفي هذا المنظور لأهمية موسم الحج في نشر العلم ورواية الحديث النبوي الشريف نفهم لماذا كان كبار رجال أهل الحديث والفقه يكثرون من تكرار الحج فهذا إمام أهل السنة أحمد بن حنبل يقول: خرجت إلى سفيان بن عيينة في سنة 187 إلى مكة فقدمناها وقد مات الفضيل بن عياض وهي أول سنة حججت فيها، ثم قال الإمام أحمد وحججت خمس حجج منها ثلاث راجلاً. وهذا الخبر عن تكرار أداء مناسك الحج يقودنا للحديث عن المكثرين من سلفنا الصالح في السفر للحج فهذا طاووس بن كيسان من كبار فقهاء التابعين ليس فقط قد حجّ أربعين مرة، بل هو كذلك أدركته الوفاة وهو حاج بالمزدلفة أو منى. والأغرب من ذلك أن بعض مشاهير التابعين الأبرار تذكر كتب التاريخ أنهم حجوا حوالي سبعين مرة فابن كثير في كتاب البداية والنهاية يذكر أن عطاء بني أبي رباح حجّ سبعين مرة وكذلك سعيد بن المسيب حجّ سبعين مرة حسب ما ورد في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي. وسبق أن أشرنا أن التابعي الجليل عمرو بن دينار كان يقيم في مكة (وكذلك كان عطاء بن أبي رباح) ولهذا لا غرابة أن نعلم قد أنه أدى مناسك الحج حوالي سبعين مرة كما ورد ذلك في كتاب تاريخ الإسلام للذهبي.
وفي عصرنا الحديث قد يتيسر لبعض فضلاء المشايخ وأهل العلم أن يتكرر لهم أداء شعيرة الحج فسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حجّ 52 حجة منها 47 حجة في سنوات متتالية حسب ما ورد في كتاب (من أحوال الشيخ بن باز في الحج) للشيخ محمد الموسى مدير مكتب بيت سماحة الشيخ بن باز. وكذلك سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ كتب له أداء الحج مرات عديدة جدا ويكفي أن نقول إنه ولمدة 35 سنة متواصلة كان هو خطيب يوم عرفة. وبسبب هذه الإمكانية على تكرار الحج لمرات عديدة نجد أن هؤلاء العلماء الأجلاء ربما في بعض السنوات تكون نيتهم أنهم يؤدون فريضة الحج عن بعض مشاهير السلف الذين لم يحجوا وهو ما يعرف بحج البدل. وقد ذكر سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أنه قد حجّ عن مجموعة من أجلاء علماء الشريعة اعترافا بفضلهم عليه مثل الأمام النووي والمنذري صاحب كتاب الترغيب والترهيب وابن رجب الحنبلي ثم ذكر الشيخ أنه قد حجّ عن ابن حزم الأندلسي لأنه مات ولم يحجّ. وفي الواقع فيما يخصّ الفقيه الأندلسي ابن حزم الظاهري فقد تكونت عبر العصور مدرسة فقهية تنسب إليه (المذهب الظاهري) ولهذا عبر القرون قام العديد من أتباع ومريدي الإمام ابن حزم بالحج عنه وفي زمننا المعاصر حجّ عنه الشيخ أبو تراب الظاهري رحمة الله وكذلك الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري متعه الله بالصحة والعافية.
ونختم الحديث عن الفقهاء والحج بالإشارة إلى أن علامة الهند البارز الأمير صديق حسن خان كان له إعجاب بالغ بعلامة اليمن الشيخ الشوكاني ولهذا كان يكثر من النقل من كتبه بالصفحات الطوال ولذا كان دائما ما يصفه بأنه (شيخه) بالرغم من أنه لم يشاهده في حياته قط وهذا ما أدى في نهاية المطاف أن قام العلامة صديق حسن خان بأداء مناسك الحج بنية الثواب للعلامة الشوكاني. وعليه ومن شدة عشقي لابن القيم الجوزية وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أتمنى لو أن أحج بنية الثواب لهما فكلا منهما لم يحج إلا مرة واحدة فقط. وهنا أقترح أنه لو قامت الجامعات الإسلامية والمعاهد الدينية في بلادنا وهي ترسل سنويا مئات الطلاب من مختلف بلدان العالم لأداء فريضة الحج أن تكلف بعض منسوبي الجامعة بمن سبق له الحج وهو في معية حملات الحج الجامعية بأن يؤدي حج البدل بنية إهداء ثواب الحج كل سنة إلى واحد من الرعيل الأول من سلف الأمة الكبار. ونخص بالذكر من لهم دور ملموس في التراث الإسلامي مثل أئمة الفقه الأربعة وأصحاب الكتب الستة في الحديث النبوي الشريف وأصحاب التفاسير كالطبري والقرطبي وطبعا رموز السلفية من مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته ابن القيم وابن كثير والذهبي والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق