السبت 1446/11/12 الموافق 10 مايو
اليوم السبت العاشر من شهر مايو سوف يتكرر معنا إعادة استكشاف أمريكا لأكثر من سبب من ضمنها أنه في يوم 10 مايو من عام 1497م بدأ المستكشف والبحار الإيطالي أميريجو فسبوتشي Amerigo أول رحلاته لاستكشاف ما سماه بالعالم الجديد وبالتالي سوف يخلد (اسمه) في التاريخ عندما سوف يطلق على القارات الجديدة المكتشفة اسم (أمريكا) وهو الاسم المحرف قليلا من اسم ذلك البحار الإيطالي (أميريجو). وبغض النظر عن جنسية هذا البحار الإيطالية فإن رحلاته الاستكشافية للعالم الجديد تمت بواسطة السفن الإسبانية ولمصلحة مملكة قشتالة الإسبانية كما حصل قبل ذلك بسنوات قليلة مع البحار والمستكشف (الإيطالي) الأشهر كريستوفر كولومبوس. ولذا من خلال ارتباط الكشوفات الإسبانية بأمريكا بدأ العرب بطريقة غير متوقعة يتعرفون على أمريكا وذلك بعدما احتاجت الأساطيل البحرية الإسبانية لحشد أكبر عدد من الجنود والبحارة والمغامرين لغزو العالم الجديد. ويقال إن الشاب المغربي مصطفى الزموري قد اختطفه الإسبان مع العشرات من أبناء المسلمين في نهاية القرن الخامس عشر وشحنوهم وبعض مسلمي الأندلس إلى القارة الأمريكية في مهمة خطرة للمساهمة في استكشافها والاستيطان بها. ولهذا في عام 1527م قام الشاب مصطفى الزموري بعد أن اعتنق النصرانية وأصبح اسمه إستيفانكو المغربي بقيادة أول حملة استكشافية لجنوب أمريكا وبالتحديد في منطقة ولاية فلوريدا.
الجدير بالذكر أنه بعد ذلك بقرون سوف تصبح بلدان المغرب العربي هي البوابة التي سوف تنشأ من خلالها العلاقة السياسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين العالم العربي ليس فقط لأن المغرب كانت أول دولة اعترفت باستقلال الولايات المتحدة، بل لأمر أكثر أهمية وهي أن ليبيا كانت هي موقع أول حرب تشنها أمريكا في تاريخها خارج أرضها. الغريب في الأمر أن سبب الاعتراف المغربي بأمريكا كدولة مستقلة وسبب الحرب الأولى الخارجية لأمريكا والتي حصلت على الساحل الليبي يعودان لأسباب متقاربة هو السماح للسفن التجارية الأمريكية بدخول السواحل والموانئ العربية في شمال أفريقيا. كما هو معلوم أعلنت أمريكا الاستقلال عن التاج البريطاني في يوم 4 يوليو 1776م ومع ذلك ولمدة تجاوزت السنة لم تعترف بها كدولة مستقلة أي من دول العالم حتى أصدر السلطان المغربي محمد الثالث بن عبد الله العلوي منشورا تنظيميا في 20 ديسمبر 1777م يتعلق بالسماح بدخول السفن التجارية لعدد من الدول من ضمنها روسيا والولايات المتحدة مما أعتبر في حينة اعتراف رسمي باستقلال أمريكا عن الإمبراطورية البريطانية.
وبعد هذه البداية الإيجابية في العلاقات العربية الأمريكية يبدو أن الأمريكان تأخروا في إرسال سفير أو قنصل أمريكي إلى المغرب لمناقشة بنود المعاهدة والاتفاقية السياسية بين البلدين ربما لأنه اكتفوا بحماية الأسطول الفرنسي للسفن الأمريكية حسب معاهدة الصداقة والتجارة الموقعة بينهم وبين فرنسا. ولهذا بدأ المغرب في عام 1784م بمصادرة واحتجاز السفن التجارية الأميركية التي تدخل سواحل المغرب من دون دفع الرسوم والجزية المالية المطلوبة منها. وفي العام التالي أي في 1785م أعلنت الجزائر التي كانت تحت الحكم العثماني، أعلنت الحرب على الولايات المتحدة واستولت على سفينتين تجاريتين ونظرا لأن هذه الأحداث تزامنت مع عودة السفير الأمريكي في باريس بنجامين فرانكلين إلى أمريكا عبر البحر لهذا انتشرت في البداية شائعة تقول إنه قد وقع في الأسر وأعتقل من قبل الجزائريين.
إذا علمنا أن بنجامين فرانكلين كان أحد أبرز الآباء المؤسسين للأمة الأمريكية وهو كاتب مسودة نسخة إعلان الاستقلال وممن وقعوا على وثيقة الدستور الأمريكي ولهذا كان للإشاعة القبض عليه من قبل الجزائريين وقع الصدمة الكبيرة على الحكومة الأميركية. وكان من توابع ذلك بداية التفكير بشكل جاد في إنشاء أسطول من السفن القتالية (أصبح نواة أسطول البحرية الأمريكية) وكذلك في نفس الوقت استخدام سلاح الدبلوماسية في التعامل مع العرب. ولهذا أرسلت أمريكا قنصلها في فرنسا لمناقشة اتفاقية ومعاهدة الصداقة بين أمريكا والمغرب كما أرسلت مبعوثا أمريكيا آخر إلى الجزائر لكي يتفاوض معهم على إطلاق الأسرى الأمريكيان. وكذلك قام أول رئيس لأمريكي الجنرال جورج واشنطن في الأول من ديسمبر عام 1789م وبعد شهور قليلة من تسلمه منصبه الرئاسي ببعث رسالة يعتذر فيها إلى سلطان المغرب سيدي محمد ويعبر عن أسفه في تأخر أمريكا في توثيق العلاقات بينها وبين المغرب.
وبالعودة إلى قصة الأسرى الأمريكيان تجدر الإشارة إلى أن الجزائر طلبت فدية مالية تبلغ حوالي 60 ألف دولار (مبلغ هائل باقتصاد ذلك الزمن) في مقابل إطلاق سراح 21 بحارا أمريكيا اعتدوا على السيادة الجزائرية بالإبحار في السواحل الجزائرية بدون وجود اتفاقية تجارية مسبقة. وبحكم أن الولايات المتحدة كانت في بداية نشوئها ذات وضع اقتصادي واهن لهذا لم تستطع دفع تلك الفدية المالية وشعرت بالإهانة والضعف أمام الدول الأوروبية. ولهذا نجد أن الرئيس الثالث لأمريكا توماس جيفرسون يكتب في مذكراته الشخصية عن هذه الحادثة المهينة مع الجزائر (كنت رافضًا تمامًا أن نستسلم للإذلال الأوروبي المتمثل في دفع الجزية لهؤلاء القراصنة الخارجين عن القانون وسعيت إلى تشكيل جمعية من القوى المعارضة للانتهاكات المعتادة منهم). وهذه العبارات التي كتبها كاتب وثيقة الاستقلال الأمريكية وكاتب الدستور الأمريكي (أي توماس جيفرسون) تلخص لنا نظرة بعض كبار الساسة في أمريكان عن العرب بأنها (قراصنة pirates) وأن المبالغ المالية التي يفرضون على أمريكا أن تدفعها هي (جزية tribute).
أول أرض تحتلها أمريكا هي أرض عربية
في مستهل هذا المقال عن استكشاف بواكير وإرهاصات العلاقات الأمريكية/العربية ذكرنا أن من مسوغات استعراضها اليوم السبت أن تاريخ العاشر من شهر مايو يتوافق مع بداية انطلاق رحلة المستكشف والبحار الإيطالي أميريجو Amerigo والذي سوف يطلق اسمه على قارة (أميريجوا أو أميريكا). ومع ذلك أود أن ألفت نظر القارئ الكريم أن يوم العاشر من مايو يمثل تاريخا مهما في بواكير العلاقات الأمريكية والعربية حيث حصل في تاريخ 10 مايو من عام 1801م الإعلان عن حالة أول حرب بين أمريكا في خارج أرضها وبين ولاية ليبيا ولهذا تعرف هذه الحرب في تاريخنا باسم (حرب طرابلس) بينما يعرفها الأمريكان باسم (حرب الساحل البربري).
في ذلك العصر كانت أغلب دول ومدن شمال أفريقيا (دول المغرب العربي) تقع تحت الحكم العثماني وبسبب أن البحر الأبيض المتوسط ظل لعدة قرون مجال لهجمات القرصنة بين السفن الأوروبية والسفن العثمانية لهذا كانت نظرة الأوروبيين والأمريكان مشوهة عن عرب دول المغرب. فعرب شمال أفريقيا في نظر الغربيين إما قراصنة أو أتراك (كلمة الترك Turk كانت تستخدم في اللغة الإنجليزية بمعنى المسلمين) أو برابرة (من البربر). وعلى كل حال سبب تلك الحرب الأمريكية العربية العتيقة التي استمرت لمدة أربع سنوات (من عام 1801م وحتى 1805م) هو رفض الرئيس الأمريكي السالف الذكر أي توماس جيفرسون أن يدفع الجزية tribute للسلطات الحاكمة لولاية طرابلس الليبية. وفي الواقع مع الأيام الأولى لتنصيب inauguration الرئيس الأمريكي الثالث أي توماس جيفرسون أعتبر والي طرابلس يوسف باشا القره مانلي أن الحكومة الأمريكية الجديدة يجب أن تدفع مبالغ مالية جديدة للسماح لسفنها التجارية بالإبحار في السواحل الليبية.
ولهذا كانت هدية تنصيب الرئيس توماس جيفرسون أنه يجب عليه أن يدفع (جزية) مالية باهظة تبلغ 225 ألف دولار وهذا مبلغا يوفق نسبة 2% من إجمالي مبالغ تجارة أمريكا السنوية. ونظرا للموقف السابق المتشدد للرئيس توماس جيفرسون ضد دفع الجزية للقراصنة لهذا لا غرابة أنه لم يتجاوب مع المطالب الجديدة ليوسف باشا والي ليبيا. وكان من تداعيات رفض الولايات المتحدة دفع الجزية إلى طرابلس أن أعلن يوسف باشا حاكم طرابلس في يوم العاشر من شهر مايو من عام 1801م الحرب على أمريكا وذلك من خلال تمزيق العلم الأمريكي المرفوع فوق القنصلية الأمريكية في مدينة طرابلس الغرب. وبحكم أن إقليم طرابلس كان قبل ذلك بسنة قد دخل في حرب ضد البحرية السويدية ولهذا بعد إعلان الحرب على أمريكا تعاونت السفن الحربية الأمريكية مع الأسطول السيويدي في فرض حصار بحري على مدينة طرابلس. وكذلك قام فريدريك الرابع حاكم مملكة نابولي الإيطالية بتزويد السفن الحربية الأمريكية بالسلاح والذخائر والقطع البحرية كما سمح لهم باستخدام مواني الجزر الإيطالية لشن الهجوم البحري على طرابلس.
وبالرغم من هذا التجمع المسيحي والحلف العسكري الأوروبي استطاعت طرابلس أن تظل صامدة لمدة أربع سنوات استطاعت فيها تدمير والسيطرة على العشرات من السفن الأمريكية وأسر المئات من الجنود الأمريكيان وحتى الآن من الرسومات المشهورة المتعلقة بالحروب الأمريكية هي لوحة تدمير وحرق السفينة الحربية الأمريكية المسماة (USS Philadelphia) أمام ساحل طرابلس. وفي عام 1805م تمكنت كتيبة من مشاة البحرية الأمريكية وبساعدة المئات من المرتزقة من الاستيلاء على مدينة درنة الليبية وهنا حصل لأول مرة في تاريخ أمريكا أن تم رفع العلم الأمريكي في أرض أجنبية. وبما أن نصر الأسطول البحري الأمريكي في مدينة درنة على سواحل ليبيا كان هو أول نصر لأمريكا في خارج أرضها لهذا لا غرابة أن نجد أن نشيد البحرية الأمريكية يفتخر بأول نصر حققه جنود المارينز في تاريخهم. تقول كلمات نشيد المارينز الذي يفاخر بانتصاراتهم من تلال المكسيك إلى شواطئ طرابلس:
من قصور مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس
نخوض معارك وطننا في الجو ، والبر ، والبحر
أول من ناضل من أجل الحق والحرية وحافظ على شرفنا
نفخر بحمل لقب جنود مشاة البحرية الأمريكية.
وبعد هذا الانتصار الرمزي لأمريكا على التراب الليبي سارع طرفا القتال إلى عقد هدنة وإنهاء الحرب التي استمرت لمدة أربع سنوات ومع ذلك كان على الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون ومع عملية تبادل الأسرى أن يدفع مبلغ 60 ألف دولار على هيئة فدية مالية ransom لإطلاق سراح حوالي 300 جندي أمريكي وقعوا في أسر جيش طرابلس وبهذا حافظ في الظاهر الرئيس جيفرسون على مبادئه في عدم دفع الجزية tribute وإن كان في الواقع دفع المبلغ المطلوب على هيئة فدية مالية. وفي الواقع قصة بواكير العلاقات الأمريكية العربية لم تنته هنا فبعد أن كانت المغرب أول دولة تعترف بسيادة أمريكا بينما كانت ليبيا أول دولة تدخل أمريكا في حرب معها خارج أراضيها نجد أن تونس كانت أول دولة عربية أو مسلمة ترسل وفدا دبلوماسيا إلى أمريكا.
في أواخر سنوات (حرب طرابلس) أو حرب الساحل البربري وعندما كان الأسطول الأمريكي يفرض حصارا بحريا على مدينة طرابلس حصل في عام 1805م أن حاولت بعض السفن التجارية التونسية التسلل إلى ميناء طرابلس عندما قامت سفينة حربية أمريكية بالاستيلاء على تلك السفن وطواقمها وهذا ما دفع والي أو باي تونس (حمودة باشا) إلى التهديد بإعلان الحرب على أمريكا. وهنا طلبت الحكومة الأمريكية أن يتم إرسال وفد تونسي إلى العاصمة واشنطن للنقاش والتفاوض لحل هذه الأزمة السياسية وبالفعل أرسل وفدا تونسيا من 12 شخصا يقوده السفير التونسي سيدي سليمان مليملي الذين تم استقبالهم في حفل رسمي في البيت الأبيض في يوم 9 ديسمبر من عام 1805ميلادي. لقد كان من المفترض أن يتم حفل الغداء في الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر ذلك اليوم، ولكن بحكم أن زيارة الوفد التونسي كانت في شهر رمضان ولهذا قام الرئيس توماس جيفرسون (الذي كان يمتلك نسخة من القرآن الكريم في مكتبته الخاصة) بتأجيل بداية الحفل حتى وقت غروب الشمس وبهذا حصل (لأول مرة في تاريخ العلاقات العربية الأمريكية) أن أقيم حفل إفطار في البيت الأبيض للصائمين من المسلمين في شهر رمضان.
واشنطن .. مدينة خلابة في شهر مايو ولكن !!
يعتبر بداية شهر مايو الذي نحن الآن فيه هو أفضل توقيت لزيارة العاصمة الأمريكية واشنطن لأنه يتوافق مع منتصف مهرجان (أزهار الكرز) وذلك عندما تتفتح الزهور البيضاء الخلابة لأشجار الكرز وتصبح شوارع وحدائق واشنطن لوحة جمالية بالغة الروعة وهذا المشهد يتكرر حاليا في مهرجان أشجار الكرز في مدينة طوكيو أو مهرجان أشجار الجاكرندا البنفسجية في مدينة أبها. ومع ذلك فإن المظاهر قد تكون خادعة فواشنطن هذه الأيام مدينة بالغة الجمال ولا شك، ولكنها كذلك مدينة غامضة ومتقلبة الأجواء. والوضع المتقلب لأمريكا رصدناه هنا من خلال إعادة استكشاف بواكير العلاقات الأمريكية العربية قبل قرنين من الزمن فقد كانت العلاقة متذبذبة ومتناقضة حيث إن العرب كانوا أول من مد يده لأمريكا واعترفوا باستقلالها لكن في المقابل كانت أول حرب تخوضها أمريكا خارج بلادها وأول أرض تحتلها كانت أرضا عربية.
مع وصول الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب لسدة الحكم ومع سياساته المثيرة للمتاعب مع الأصدقاء قبل الأعداء كثيرا ما تم تداول مقولة هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق (أن تكون عدوا لأمريكا قد يكون أمرا خطيرا، ولكن أن تكون صديقا لها فهذا أمر قاتل). وفي ذات السياق أعاد البعض مقولة الرئيس المكسيكي السابق بورفيرو دياز (مسكينة هي المكسيك لبعدها عن الله ولقربها من أمريكا !!). وبالجملة البعد الجغرافي عن أمريكا قد يكون أمرا جيدا فبعد مضايقة الرئيس الأمريكي لجيرانه في الشمال والجنوب (كندا والمكسيك) أتوقع أن الأوروبيين يحمدون الله أن بينهم وبين أمريكا المحيط الأطلسي الشاسع. وعلى ذمة المؤرخ البريطاني المعاصر جيمس بار فقد ذكر في كتابه الضخم (ملوك الصحراء) أنه بعد التنافس بين الأمريكان والبريطانيين حول الحصول على امتياز التنقيب عن النفط من صحراء المملكة كان الملك عبد العزيز يستمتع أن يقول لأمريكان أنه منحهم الامتياز لأن بلادكم بعيدة جدا (you are very far away).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق