د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/12/25
بعد مرور حوالي سنتين من بداية الحرب العالمية الثانية أتخذ المجرم النازي هتلر أكبر خطأ عسكري في حياته عندما شن هجوم هائل على أراضي الاتحاد السوفيتي في العملية العسكرية المباغتة المسماة (عملية بربروسا) والتي توصف بحق بأنها أكبر معركة حربية على الإطلاق في التاريخ البشري. في صيف عام 1942م شارك في الجيش النازي الغازي حوالي أربعة ملايين مقاتل وأربعة آلاف دبابة في حين قام ستالين بصد هذا الهجوم بحشد جيش مكون من ثلاثة ملايين جندي وحوالي 11 ألف دبابة. وبالرغم من أن هذه المعركة الهائلة استمرت لمدة خمسة أشهر وراح ضحيتها حوالي مليون جندي ألماني وربما أربعة ملايين جندي روسي إلا أنها لم تكن المعركة التي سوف تحسم بشكل نهائي الحرب العالمية الثانية. السبب في ذلك أن تلك المعركة الضخمة كانت معركة برية (تقليدية) ولم تكن حرب (نوعية) تواكب التطور في المعارك الحربية الحديثة.
صحيح أن عدم انتصار (يمكن أن يقال هزيمة) هتلر في معركة بربروسا تسببت في إضعاف زخم قوة الجيش النازي إلا أن السبب الرئيس في القضاء على هتلر وجنوده هو هزيمته في معركة أخرى هي (معركة بريطانيا) أمام تشرشل وسلاح الجو الإنجليزي. في بداية تلك المعركة ألقى رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل خطابا شهيرا أمام مجلس العموم البريطاني ومذاع للعالم أجمع عبر الراديو قال فيه (يعرف هتلر بأنه سيكون عليه أن يهزمنا في هذه الجزيرة أو سوف يخسر الحرب). ولكن على خلاف معركة بربروسا البرية التقليدية التي امتدت خطوط التماس وجبهات القتال فيها على طول ثلاثة آلاف كيلومتر فوق الأراضي الروسية كانت معركة بريطاني تتم فوق أجواء الجزر الإنجليزية ولاحقا فوق سماء المدن الألمانية. باستثناء بعض المعارك الحربية المحدودة المواقع لم يحصل قتال مباشر على الأرض أو معارك برية كبيرة بين قوات الجيش البريطاني وجنود الجيش الألماني النازي. الحرب النوعية التي أثرت كثيرا على مجريات الحرب العالمية الثانية ومسار الحرب بين بريطانيا وألمانيا النازية هي (الحرب الجوية aerial warfare) والتي تم فيها استخدام حوالي 2000 طائرة حربية بريطانية و 2500 طائرة مقاتلة ألمانية. في بداية الأمر تسبب القصف الجوي النازي بدمار هائل لمدينة لندن نتج عنه تدمير أو إلحاق أضرار بحوالي مليون منزل بريطاني، ولكن مع تزيد خبرة الطيارين البريطانيين ومع استخدام الاختراع الجديد (الرادار) تناقصت حدة آثار قصف لندن (The blitz). وبالتالي نجت بريطانيا من الاحتلال النازي ولهذا أمتدح تشرشل سلاح الجو الإنجليزي بعباراته الأدبية البديعة والمشهورة: في النزاعات البشرية لم يحدث أن كان عدد كبير من الناس مدينا لهذا العدد القليل من الأشخاص (Never was so much owed by so many to so few). وسرعان ما قام هذا العدد القليل من الطيارين الإنجليز الذين أنقذوا الملايين من شعبهم بتنفيذ الجزء الثاني من الحرب الجوية عندما قاموا بالتعاون مع الطيارين الأمريكان بحملة (القصف الاستراتيجي) الجوي على المدن الألمانية المنكوبة مثل برلين وهامبورغ ودريسدن وبالتالي تسببوا في شقاء الملايين من الألمان. وهنا نقول إن (الحرب النوعية) الجديدة المتمثلة في القصف الجوي على المدن الألمانية بالذات أثناء الليل تسببت في تدمير أكثر من ثلاثة ملايين منزل ألماني وهذا ما أنتج هزيمة نفسية حادة للشعب الألماني مما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع القوات النازية لحماية التراب الوطني بعد أن كانت تحتل أغلب الدول الأوروبية وبهذا بدأنا نشهد الفصول الأخيرة للحرب العالمية الثانية.
ومن قصف المدن الأوروبية أثناء الحرب العالمية الثانية مثل العاصمة لندن والعاصمة برلين إلى أقصى الشرق حيث تعرضت مدينة طوكيو لقصف أثيم بالطائرات الأمريكية لدرجة أنه نتج عن الغارات الجوية التي حصلت في ليلة واحدة (10 مارس 1945م) مقتل حوالي مائة ألف ياباني من أهل طوكيو كما تم في تلك الليلة المريعة تدمير ربع مليون منزل. ومن باب المقارنة ولتوضيح خطورة القصف الجوي للمدن يكفي أن نشير أن مدينة هيروشيما اليابانية التي تعرضت لكارثة إسقاط القنبلة الذرية عليها تم من جراء تلك الجريمة تدمير حوالي 80 ألف منزل مقارنة بتلك التي دُمرت في طوكيو وبلغت حوالي 250 ألف منزل. بقي أن نقول إنه مرة أخرى لم يحصل قتال بري كبير بين جنود الجيش الأمريكي والجيش الياباني باستثناء المعركة الشهيرة للسيطرة على جزيرة إيو جيما أو السيطرة على جزيرة أوكيناوا. ومع ذلك أغلب المعارك بين الأمريكان واليابانيين كانت في الجو والبحر وذلك من خلال مشارك حاملات الطائرات والبوارج البحرية والغواصات وهذه كلها تعتمد وسيلة القصف عن بعد وليس القتال المباشر في ساحات المعارك البرية.
ألا إن القوة الرمي
سبق وأن أشرنا إلى أن طبيعة الحروب النوعية في الزمن المعاصر اختلفت بشكل كبير وهي بهذا من تحدد مستقبل الصراع الحربي والمسار السياسي بعد انتهاء المعارك القتالية. فكما أن أربعة ملايين جندي ألماني لم تضمن نجاح الغزو النازي على روسيا في حين أن قصف الطيران الليلي على المدن الألمانية سهام كثيرا في الهزيمة النهائية لهتلر ولجيش الرايخ الثالث. فكذلك مشاركة حوالي مليون ونصف مليون جندي أمريكي وبريطاني في معركة غزو سواحل النورماندي في غرب فرنسا (معركة D-Day) بالكاد نجحت في إخراج النازيين من شمال أوروبا وتحرير فرنسا. بينما كما قال تشرشل في مديح الطيارين (عدد كبير من الأشخاص مدين لعدد قليل من الأشخاص) نجد أن حوالي 17 ألف طيار أمريكي الذين قادوا سرب الطائرات المقاتلة الأمريكية وقصفوا المدن اليابانية هم من تمكن في حقيقة الأمر من تركيع الإمبراطورية اليابانية العظمى التي انتصرت على روسيا في حرب جزر الكوريل واحتلت أغالب أقاليم شرق الصين وبالذات في منشوريا وتمكنت من أسر وإذلال 80 ألف جندي بريطاني أسرتهم في يوم واحد فقط في معركة سنغافورة عام 1942 ميلادي.
والمقصود بأن ما نشهده هذه الأيام من حرب الوجود بين الكيان الصهيوني الغاشم وبين جمهورية الملالي الفارسية هي حرب ضروس على درجة عالية من الأهمية في تشكيل مستقبل منطقتنا العربية التي تكالب عليها الظالم الفارسي الأصغر مع الظالم الصهيوني الأكبر. الغريب في الأمر أن هذه الحرب الخطيرة والطاحنة ربما لا يحصل أن يتقابل فيها أي جندي صهيوني وجها لوجه مع أي جندي إيراني بينما المعركة سوف تحسم من خلال الحرب النوعية المتعلقة بالقصف الجوي الصاروخي الفارسي والغارات الجوية للطائرات الحربية الصهيونية. وكما لاحظنا وسردنا أمثلة المعارك المفصلية في الحرب العالمية الثانية كان للقصف الجوي الليلي على العواصم الكبرى مثل لندن وبرلين وطوكيو أثر كبير في تحديد مسار نهايات الحرب الكبرى وعلى نفس النسق ربما سوف يؤثر القصف الجوي الليلي على تل أبيب وطهران على مستقبل تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني والعلم عند الله. والدرس المستفاد مما سبق الإشارة إليه واضح وهو الأهمية القصوى بزيادة الترسانة العسكرية للدول العربية والإسلامية (مثل تركيا وباكستان) من الأسلحة النوعية مثل منظومة الصواريخ البالستية والفرط صوتية وصواريخ كروز بالإضافة لأسراب طائرات الدرون والمسيرات القتالية. والدرس الثاني المستفاد أن بعض الدول في دنيا السياسة قد تخسر الحرب ليس لأن جيشها المدجج قد خسر المعركة على أرض الميدان وقتل عشرات الآلاف من الجنود ولكن لأن مدنه الرئيسية تعرض فيها الآلاف من المدنيين وعامة الشعب للقصف الجوي المدمر.
وبهذه المناسبة نفهم المقصود من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحثّ على امتلاك قوة الرمي وإن كانت في زمن النبوة هي مجرد السهام والرماح فهي اليوم الصواريخ والطائرات والقاذفات. ورد في صحيح مسلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرّمي ألا إن القوة الرّمي ألا إن القوة الرّمي) وفي الحديث الصحيح الآخر الذي رواه نفس الصحابي (عقبه بن عامر) أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (من عُلّم الرّمي ثم تركه فليس منا) أو (من عُلّم الرّمي ثم تركه فقد عصى). وعنه رضي الله عنه حديث ثالث عن الرسول الكريم ورد فيه (إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعة يحتسب في صنعته الخير والرّامي به ومُنبله، وأرموا وأركبوا وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا).
الغريب في الأمر أن الحرب الأخيرة أثبتت أن الدول العربية في صراعها الوجودي مع العدو الصهيوني قد لا تحتاج فعليا للبرنامج النووي وللقنابل الذرية لكنها بالقطع تحتاج للإتقان فن الهجوم السيبراني وحروب التشويش والتعطيل الإلكترونية. وبالجملة يجب على دولنا العربية والإسلامية أن تركز على ما يسمى الحرب غير المتكافئة (والبعض يسميها الحرب غير المتماثلة asymmetric warfare) بحيث يتم استخدام تكتيكات قتالية غير تقليدية لتقليل فوارق القوة مع عدو شرس أقوى منا بكثير. فبالإضافة لاستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة يمكن توظيف حرب العصابات وحرب المعلومات وحرب الاستخبارات والحرب النفسية والحرب الاقتصادية والمقاطعة. والقائمة تطول وتطول من وسائل وأسلحة الصمود والتصدي للعدو والتي يمكن إجمالها في المفاهيم الجديدة في الفنون العسكرية مثل مفهوم (الحرب الشاملة) أو مفهوم (حروب الجيل الرابع).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق