السبت 1446/10/28
الشاعر والناقد الأدبي القديم ابن طباطبا صاحب كتاب (معيار الشعر) أشغل شعراء ونقاد الأدبي العربي على حد سواء عندما أطلق عبارته المشهورة (أعذب الشعر أكذبه). بينما الفيلسوف الألماني المتشائم أرثر شوبنهاور عندما ربط بين المعاناة والإبداع كأنه يقول (أجود الأدب ما ولد من رحم المعاناة). كما هو معلوم الكتابة قد تكون حيله نفسية ووسيلة فنية للتخفيف من المعاناة النفسية وتفريغ للشحن العاطفي والتوتر الفكري وهذا ما كشفته الروائية التشيلية البارزة إيزابيل الليندي عندما طرحت في مقالاتها مصطلح (الكتابة كعلاج). الطريف في أمر إيزابيل مؤلفة رواية (ابنة الحظ) أنها بدأت الكتابة الأدبية فجأة في لحظة (نبوغ) وهي في سن الأربعين وذلك بعد أن بلغها خبر احتضار جدها المحبوب وهي لا تستطيع السفر له لأنها كانت تقيم في المنفى الأرجنتيني. ولذا تقول عن نفسها أنها جلست على طاولة المطبخ وسطّرت بداية روايتها الأشهر (بيت الأرواح) فكتبت الجملة الأولى (أتانا باراباس عبر البحر) ثم علقت بقولها: من كان باراباس؟ ولماذا أتانا عبر البحر؟ لم أكن محيطة بهذه الفكرة الضبابية.
التكتيك النفسي والطبي المتعلق بالعلاج بالكتابة أمر معروف منذ زمن ويمكن من خلاله تخفيف أثر الصدمة النفسية والمعاناة الداخلية ولهذا يمكن وضع بلسم شافي أدبي رقيق للأشخاص الذين تعرضوا لويلات الحروب أو الأمراض الفتاكة أو عانوا من ألم مواجهة الكوارث والحوادث. وعلى ذكر الكوارث تجدر الإشارة إلى أن تاريخ نشر هذا المقال في يوم السبت 26 أبريل يتوافق مع الذكرى السنوية لكارثة انفجار محطة تشرنوبيل الروسية للطاقة النووية الذي حصل في يوم 26 أبريل من عام 1986ميلادي. ولخطورة مثل هذه الحادثة فيما يتعلق بالسلامة والأمن النووي أصدرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قرارا في عام 2016 يتعلق بتخصيص يوم 26 أبريل/نيسان من كل عام لكي يصبح (اليوم العالمي لإحياء ذكرى كارثة تشرنوبيل). ومع ذلك وبعد الأسابيع الأخيرة الحافلة بالشحن السياسي والمخاوف الاقتصادية من الأداء السيئ للرئيس الأمريكي ترامب في 100 اليوم الأولى من حكمه لعل من الحكمة ألا أثقل القارئ الكريم بذكر المزيد من المآسي والمعاناة في استعراض تفاصيل ذلك الحديث المروع وتداعياته البيئية والسياسية والنفسية.
وفي المقابل أود أن أتجول مع القارئ في دنيا الأدب وزاويا الفنون الروائية ومباهج الكتابة، ولكن بربطها بحادثة (كارثة تشرنوبيل) وذلك من خلال الإشارة إلى ان الكاتبة سفيتلانا ألكسيفيتش من روسيا البيضاء التي حصلت بدرجة كبيرة على جائزة نوبل في الأدب لعالم 2015م نظير تأليفها كتابها (أو روايتها) المشهورة التي حملت عنوان: (صلاة تشرنوبيل). من الناحية الأدبية ذلك العمل الفني التحريري أشبه بتحقيق صحفي وتوثيق تاريخي منه بالرواية الأدبية الرفيعة وهذا يذكرنا بأن الروائي الروسي المعروف ألكسندر سولجينيتسين الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1970م كان له تجربة مشابه مع عمله الأدبي الأكثر شهرة (أرخبيل غولاغ). وما يهمنا هنا أن رواية صلاة تشيرنوبيل والعمل الأدبي أرخبيل غولاغ لهما نفس التكتيك تقريبا فهما قائمين على توثيق المعاناة والمآسي التي حصلت بسبب كارثة تقنية أو طبيعية (مثل انفجار مفاعل نووي) أو بسبب كارثة وجريمة سياسية (مثل معسكرات الاعتقال في سيبيريا).
في سن 27 تم اعتقال سولجينيتسين بتهمة نشر دعاية مضادة لحكومة الاتحاد السوفيتي والقدح في ذات الرفيق الأكبر ستالين ولهذا تم سجنه لمدة ثماني سنوات في معسكرات الاعتقال في سيبيريا وهو بهذا سوف يسير على خطى سلفه البارز فيودور دوستويفسكي رائد الأدب الروسي. لقد اعتقل سولجينيتسين في منتصف القرن العشرين في حين أنه في منتصف القرن التاسع عشر اعتقل الشاب دوستويفسكي وهو في سن 28 بتهمة معارضة الدولة التآمر على إسقاط الحكم ولهذا حكم عليه مع آخرين بالإعدام. من المشهور تعرض دوستويفسكي للصدمة النفسية الكبرى عندما وقف معصوب العينين أما فرقة إعدام قبل أن يعفى عنه وبقية رفقائه في النضال السياسي ولهذا بعد تلك التجربة الرهيبة وبعد معاناة الاعتقال في معسكرات سيبيريا لعدة سنوات طور دوستويفسكي تقنية نفسية من أجل احتواء ويلات ما مر به ولهذا كان أسلوب (العلاج بالكتابة) خير ملاذ لروح وعقل ذلك الكاتب الكبير.
وهذا بصورة عامة ما قام به كذلك آخر نجوم الأدب الروسي أي ألكسندر سولجينيتسين الذي وظف الكتابة الأدبية كملاذ لتخفيف عذابات الروح من تعرضه لتهمة خطيرة مثل تأسيس تنظيم معادي لنظام الحكم وما تلا ذلك من الاعتقال لسنوات طويلة في تلك الأماكن المعزولة بين ثلوج سيبيريا. في كتابه (أرخبيل غولاغ) حاول سولجينيتسين بأسلوب صحفي جاف (سبق أن حاولت قراءة تلك الرواية المزعومة ولم أستطع) توثيق سياسية القمع والإقصاء التي شاعت في الاتحاد السوفيتي لعقود طويلة وذلك من خلال حشد شهادات ومقولات نحو حوالي 257 سجينا سابقا لمعسكرات الاعتقال السيبيرية (غولاغ). وهذا يقودنا للحديث عن الأسلوبي الكتابي التي اتبعته الروائية البيلاروسية سالفة الذكر سفيتلانا ألكسيفيتش فقد قامت تقريبا بتقليد سولجينيتسين الذي قام بتوصيل أصوات وشهادات سجناء الكارثة السياسية في الغولاغ بينما سيدتنا العجوز الكاتبة سفيتلانا عندما تم استضافتها في معرض الرياض الدولي للكتاب في عام 2022م استمعنا منها عن مشاعرها الشخصية حول كارثة انفجار مفاعل تشرنوبيل وكذلك تعرفنا لبعض نماذج شهادات 500 ناج من تلك الكارثة التي وثقت مشاهداتهم وقصصهم في كتابها الروائي (صلاة تشرنوبل).
وبحكم أن سفيتلانا مولده من أم أوكرانية ولهذا في عام 1986م وعندما كانت تعمل كصحفية حرصت على تغطية كارثة تشرنوبل لأنها وقعت في منطقة قريبة من مكان ولادتها في أوكرانيا. وبالجملة من خلال المعالجة بالكتابة أسهمت سفيتلانا في توصيل أصوات الضحايا والمنكوبين من تلك الكارثة الرهيبة. وقبل أن نغادر سرد العلاقة بين الأدب وتوثيق المعاناة البشرية أثناء الكوارث الكبرى لعله من الملائم الإشارة إلى كارثة (جزيرة الأميال الثلاثة) والتي حصلت عام 1979م وذلك عندما حصل عطل خطير (انصهار نووي) في محطة الطاقة النووية في ولاية بنسلفانيا الأمريكية. وكما حصل مع الصحفية سفيتلانا التي جمعت مشاهدات وقصص ضحايا كارثة تشرنوبيل قام المصور والصحفي الكندي روبرت تراديتشي في عام 1982م بتأليف كتاب وثائقي حمل عنوان (شعب جزيرة الأميال الثلاثة) نشر فيه المقابلات الصحفية والصور التي أخذها لضحايا تلك الكارثة النووية الأمريكية.
رمزية الزلازل في السياسة والأدب
في مطلع هذا المقال أشرنا للحقيقة في علم ومهنة صناعة الإنشاء أن أجمل وأجود الأدب ما ولد من رحم المأساة وأن الكتابة يمكن توظيفها لتخفيف المعاناة التي يصارعها الكتاب أو المجتمع. وهذا يقودنا لظاهرة شعبية الأعمال الأدبية التي تدور حول الكوارث الطبيعية والفواجع العامة والتي يمكن أن نطلق عليها اسم (أدب الكوارث). وفي منظور أن مفهوم أرسطو للشعر (والأدب إجمالا) يتمثل في المحاكاة والتطهير وهذا الأخير هو المسؤول عن إعادة التوازن الانفعالي والنفسي بعد المأساة لذا كانت الكوارث الطبيعية في القديم والحديث مادة غنية يستقي منها الأديب الحبكة الدرامية لأعماله الروائية أو المحور الوجداني لقصائده الشعرية. ولهذا يمكن اختزال الأدب بأنه تصوير للمشاعر الإنسانية حيال الأزمات النفسية ومآسي الكوارث الطبيعية وهذا يفسر وجود الكم الغفير من القصائد والأشعار ولروايات الأدبية التي تدور عن (أدب الكوارث).
وبالعودة لموضع (كارثة تشرنوبيل) وتأليف كتاب أدبي عنها حائز جائزة نوبل في الأدب نود الإشارة كذلك لوجود روايات أدبية أخرى محورها تعرض مفاعلات نووية لكوارث طبيعية مدمرة مثل الزلازل أو الحريق. في عام 2011م عانت اليابان من كارثة طبيعية بالغة الخطورة تمثلت في زلزال هائل بلغت شدته 9 درجات على مقياس رختر وتسبب في حصول موجات تسونامي تسببت في ضرر بالغ لمحطة الطاقة النووية فوكوشيما مما خلف تلوث إشعاعي خطير للهواء وماء البحر. الغريب في الأمر أن الروائي الياباني تيتسو تاكاشيما قام في عام 2005م بكتابة رواية أدبية حملت عنوان (تسونامي) أعطت تصورا مسبقا عن الطبيعة المحتملة لسيناريو دمار مفاعل نووي ياباني بسبب كوارث الزلازل المدمرة.
الحادثة الطريفة بقيام روائي بتأليف عمل أدبي عن كارثة الزلازل قبل أن تقع وتهز أرض الواقع التي حصلت مع الروائي الياباني تاكاشيما نجد لها صورة مشابهة مع الروائي التركي المعاصر فرقان قارادري والذي نشر في عام 2021م رواية أدبية تحمل عنوان (الحطام). تدور أحداث تلك الرواية حول معاناة سكان مدينة إلازيغ التركية بعد تعرضها لزلزل مدمر وهذا ما كان في عالم الخيال أم في عالم الواقع فالجميع شاهد المناظر المروعة للزلزال الهائل الذي أصاب تركيا وسوريا عام 2023م وخلف أكثر من 50 ألف قتيل رحمهم الله. ونظرا لكثرة الضحايا والمفجوعين بذلك الزلزال الشامل ليس من المستغرب أن نعلم بأن الروائي التريكي فرقان قارادري كان ممن عاشوا رعب ذلك الزلزال الذي دمر أجزاء من مدينة ملاطية التي كان يعيش فيها ومن حسن حظه أنه لم تنهار بالكامل العمارة السكنية التي يعيش بها بل فقط تعرضت شقته في الدور 12 لاهتزازات أدت فقط إلى سقوط نجفة الثريا على رقبته.
في منطقتنا العربية والإسلامية تعتبر الزلازل إحدى أكثر الكوارث الطبيعية انتشارا وخصوصا في تركيا وإيران والجزائر ولهذا لا غرابة في سياق سرد شواهد (أدب الكوارث) ولفت الأنظار لظاهرة العلاج بالكتابة أن نجد ارتباط عدد من الأدباء بكارثة الزلازل. بعد الروائي التركي أورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل حصل في السنوات الأخيرة تزايد كبير في شهرة الكاتبة التركية إليف شفاق صاحبة رواية (قواعد العشق الأربعون). وما يهمنا هنا أنه قبل أن تنتقل إليف شفاق للإقامة الدائمة في بريطانيا مرت في عام 1999م بتجربة معايشة زلزال إسطنبول والذي ترسخ في وجدانها لدرجة أنها في كتابها (حليب أسود) بدأت الحديث بذكرياتها عن زلزال إسطنبول وتوظيف هذا المدخل للحديث عن الوقائع المهمة في حياته خصوصا دورها كأم. ومن غرائب الصدف أننا اليوم وبالحديث عن أدب الكوارث نتذكر كارثة تشرنوبيل ونحن نستعيد مصيبة زلزال تركيا خصوصا عندما حصل قبل عدة أيام عدة هزات زلزالية في إسطنبول أثارت ذرع السكان بسبب الذكرى المريرة لزلزال عام 2023م.
نظرا لأن لكلمة (زلزال) ثقلها ورمزيتها المتعددة المعاني ولهذا استخدمها الأديب الجزائري الطاهر وطار في واحدة من أقدم وأشهر روايته على الإطلاق وهي تلك التي حملت عنوان (الزلزال) والتي نشرها عام 1974 ميلادي. بعد ذلك بحوالي ست سنوات وقع أشهر زلزل في التاريخ العربي الحديث وهو زلزال مدينة الأصنام الجزائرية الذي وقع في عام 1980م ونظرا لأهمية هذا الحدث نجد أن رواية (رائحة الكلب) للكاتب الجزائري جيلالي خلاّص شخصيتها الأساسية هو رجل عالق تحت أنقاض ذلك الزلزال. ومن الجزائر ننتقل إلى المغرب حي نجد أن رواية (أكادير) للأديب المغربي محمد خير الدين قد تكون خير مثال لروايات (أدب الكوارث) في نطاقها العربي حتى وإن كتبت تلك الرواية باللغة الفرنسية. من المشهور أنه حصل في عام 1960م زلزال مدمر في مدينة أغادير المغربية تسبب في مصرع ثلث سكان المدينة ومن هنا نجد أن رواية (أكادير) تدور عن موظف ترسله مؤسسة الضمان الاجتماعي إلى مدينة أغادير المدمرة لكي يجري مقابلات مع الناجين من ضحايا الزلزال ويجمع بياناتهم ويستمع لشكاواهم. كلمة (زلزال) لها رمزيتها التي يمكن توظف بمعنى الاضطراب والقلق السياسي أو الاجتماعي أو النفسي وكذلك فعل (التفقد والاطمئنان) على ضحايا الزلزال قد يكون لها معاني رمزية وبلاغية من باب الاستعارة والتشبيه. ولهذا الروائي المصري المبدع يوسف القعيد استغل حادثة زلزال القاهرة في عصر يوم 12 أكتوبر من عام 1992م لكي يؤلف رواية أدبية ذكية يوظفها لكي (يتفقد ويطمئن) على الأحوال السياسية والاجتماعية والنفسية للشعب المصري بأسلوب الرواية الرمزية التي تجنبه مشاكسات مقص الرقيب وتحميه من غضب السلطة. تدور فكرة رواية يوسف القعيد (أربع وعشرون ساعة فقط) بقيام سيدة مصرية اسمها محروسة الحلواني (طبعا مصر اسمها المحروسة وأهلها يقولون: الذي بنى مصر كان في الأصل حلواني) مباشرة بعد حصول زلزال القاهرة ذلك اليوم في تفقد أبنائها السبعة الذين يعيشون في القاهرة لكي تتأكد من سلامتهم وطبعا لكل ولد أو بنت من أبناء الست محروسة السبعة له قصته ومأساته الخاصة به والتي تعكس قضايا ومآسي الشعب المصري. وبذكر هذه الرواية الأدبية الرمزية لعل الصورة اتضحت فيما يتعلق باستخدام الكتابة والتأليف الأدبي كوسيلة علاج لأمراض المجتمع واضطراباته النفسية من خلال أنواع أدبية متنوعة من ضمنها (أدب الكوارث).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق