الاثنين، 7 يوليو 2025

( لوحة الثالث من مايو وتمجيد المقاومة )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1446/11/6 الموافق 3 مايو 2025

في السياسة يعتبر يوم (الأول من مايو) حدثا مهما ليس فقط لأنه يتوافق مع (عيد العمال) ولكن لأنه فرصة سنوية للماركسيين والشيوعيين للخروج في مظاهرات حاشدة لإثبات أنهم ما زالوا في المشهد السياسي. بينما في الأدب يعتبر يوم (الرابع من مايو) حدثا ثقافيا بالغ الأهمية حيث يتم الإعلان سنويا في هذا التوقيت عن الفائزين بجوائز بوليتزر الأدبية في الرواية والمسرح والشعر وتلك الجائزة هي أهم حدث أدبي في الولايات المتحدة ولها صدى عالمي واسع. ومع ذلك أود في مقال اليوم السبت المتوافق مع (الثالث من مايو) أن آخذ الحديث في مساق دور الفن التشكيلي واللوحات الفنية في تمجيد المقاومة والنضال ضد المحتل والمعتدي.

من يزور متحف الفن ومعرض الفنون الوطني الإسباني (متحف برادو) سيجد أن شعار ذلك المتحف ذي الشهرة العالمية المدوية (متحف برادو .. مجموعة من العجائب) ومع ذلك سوف يسهل عليك أن تلاحظ أن غالبية الزوار يتوقفون عند لوحة ضخمة تغطي جدار بالكامل وهي (لوحة الثالث من مايو). في سنة 1814م ومع عزل نابليون بونابرت عن السلطة ونفيه إلى جزيرة ألبا أكتمل أخيرا استقلال إسبانيا عن الاحتلال الفرنسي وهنا أراد الرسام الأسباني البارز فرانشيسكو غويا أن يخلد هذا الحدث الوطني لبلادة برسم لوحة فنية تجسد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي. لوحة الثالث من مايو 1808 التي أبدعها غويا تسمى أحيانا لوحة (الإعدام رميا بالرصاص) وهي تجسد بطش وقسوة الاحتلال الفرنسي عندما حصل في ذلك التاريخ (3 من مايو 1808م) إخماد تمرد سكان مدريد عن طريق إعدام المئات منهم في الشوارع وفي الميادين.

عندما زرت مدينة مدريد لأول مرة حرصت أن أسكن في فندق يقع مباشرة أمام متحف برادو لكي يسهل على زيارته أو زيارة المتاحف الأخرى القريبة منه أو حتى الوصول لمحطة القطارات المركزية. وقد لاحظت كثرة طلاب المدارس وكذلك الأشخاص كبار السن من الإسبان الذين يزورن متحف برادو وبالتأكيد كان مشاهدة لوحة (3 من مايو 1808) واجب وطني لأغلبهم. البعض يصف تلك اللوحة بأنها أعظم لوحة عالمية مناهضة للحرب والعدوان، ولكن دون جدال لمشاهدة أهم وأشهر لوحة فنية ضد الحرب والعدوان الأجنبي تحتاج أن تجعل متحف برادو في خلفك وتتجه جنوبا مشيا على الأقدام باتجاه المركز الوطني الإسباني للفنون الحديثة (متحف الملكة صوفيا) حيث يمكنك مشاهدة أكبر وأهم لوحة رسمها الفنان العالمي بيكاسو. أثناء الحرب الأهلية الإسبانية قامت الطائرات الألمانية النازية والإيطالية الفاشية في عام 1937م بمساندة الدكتاتور الإسباني فرانسيسكو فرانكو وذلك من خلال قصف مدينة غرينكا في شمال إسبانيا مما تسبب في مقتل وإصابة الآلاف. ونظرا لهذا العدوان الخارجي والتدخل السافر في الشأن الإسباني طلبت الحكومة الرسمية من بيكاسو أن يرسم لوحة جدارية تبين وحشية ذلك القصف الجوي الدامي ومن هنا ظهرت لوحة (غرينكا) الشهيرة والتي ما زالت حتى اليوم أهم عملا فنيا ضد الحروب والقتال والصراع الدولي. ونظرا لأهمية لوحة غرينكا المناهضة للحرب تم ترتيب جولات لها في العديد من المدن الأوروبية والأمريكية (وحتى اليوم توجد نسخة مقلدة منها معروضة خارج صالة مجلس الأمن بمبنى الأمم المتحدة) ولم ترجع تلك اللوحة إلى إسبانيا إلى بعد وفاة بيكاسو وكذلك وفاة الدكتاتور فرانكو. وبعد سنوات من عرض لوحة غرينكا في متحف برادو تم نقلها أخيرا لمتحف الفن الحديث والذي عندما زرته للمرة الأولى استغربت من قلة وسائل الحماية لتلك اللوحة الجدارية الضخمة مقارنة مثلا بالحماية القصوى للوحة الموناليزا مثلا في متحف اللوفر في باريس.

العجيب في الأمر أنه في المرة الأولى تمكنت من الاقتراب من اللوحة الأشهر لبيكاسو والتصوير معها وكان ذلك في عام 2012م أما في الزيارة الثانية في عام 2022 تعجبت من التشديد الغريب من القائمين على المعرض من عدم السماح للزوار بالتصوير مع لوحة غرينكا ولذا كل ما استطعت أن أوثقه في المشاهدة الثانية هو القيام بتصوير لوحة غرينكا من موقع بعيد وبسرعة قبل أن يتم اكتشاف مخافتي لتلك الأنظمة الحمقاء التي تمنع التصور حتى ولو كان بدون فلاش. من الأمور الشاقة والمزعجة على السائح أن يحرم من توثيق بعض اللحظات المميزة في سفرياته بسبب منع التصوير كما حصل معي عندما تفاجأت بمنع تصوير المصحف الأثري المنسوب للأمير المؤمنين عثمان بن عفان والمحفوظ بدرجة عالية من التبجيل في مبنى خاص في مدينة طشقند وكذلك منع التصوير في مغارة جعيتا بالقرب من مدينة بيروت أو منع تصوير الموميات الفرعونية والقناع الذهبي للفرعون توت عنخ آمون في المتحف المصري بميدان التحرير. الزائر لمبنى الأرشيف والوثائق الوطنية الموجود في العاصمة الأمريكية يمكنه أن يشاهد إحدى أهم الوثائق المكتوبة في التاريخ الحديث إلا وهي وثيقة (إعلان الاستقلال الأمريكي) وكذلك وثيقة الدستور الأمريكي. وعندما لم يسمح لي ولا لغيري التصوير مع وثيقة الاستقلال الأمريكي المعروضة تحت حراسة مشددة وفي ضوء خافت لا يناسب أصلا للتصوير كان من حسن الحظ أنني كنت قبل ذلك بيوم قد التقطت الصور للوحة فنية شهيرة جدا مرتبطة (بلحظة توقيع) وثيقة الاستقلال الأمريكية.

وبحكم أن مقال اليوم عن دور الفن التشكيلي في تمجيد وتخليد المقاومة والاستقلال من الاحتلال فتجدر الإشارة إلى أن أهم اللوحات الفنية الأمريكية هي تلك الموجودة في القاعة المستديرة تحت قبة البرلمان الأمريكي (Capitol rotunda). في الواقع يوجد العديد من اللوحات التشكيلية والتماثيل البرونزية ذات الأهمية البالغة للتاريخ الأمريكي وربما أهمها دون جدال هي لوحة (وثيقة الاستقلال) التي نفذها رسام الثورة الأمريكي جون ترومبول عام 1817م وهي لوحة تمثل الآباء المؤسسين لأمريكا مثل توماس جيفرسون وبنجامين فراكلين وجون آدامز وهم يقدمون لبقية أعضاء الكونجرس مسودة وثيقة الاستقلال. ولقد قمت بالطبع بتصوير تلك اللوحة الشهيرة تحت قبة الكونغرس، ولكن بحكم أن أهم شخصية في حرب الاستقلال الأمريكية عن التاج البريطاني غير موجودة في لوحة وثيقة الاستقلال ألا وهو الجنرال والرئيس الأول لأمريكا جورج واشنطن لذا لكي نشاهد ونتصور مع لوحة تشكيلية تمثل دور جورج واشنطن في المقاومة ضد الوجود البريطاني يجب أن نسافر من مدينة دي سي واشنطن إلى مدينة نيويورك.

خلال حرب الاستقلال شارك الجنرال جورج واشنطن تقريبا في حوالي 17 معركة ضد القوات البريطانية ولهذا توجد العديد من اللوحات الفنية التي تبين بطولة جورج واشنطن في مقاومة العدو. وبالرغم من أن جورج واشنطن خسر العديد من تلك المعارك وأضطر للانسحاب مرارا إلا أشهر لوحة تبين بطولة ومقاومته للاحتلال البريطاني هي لوحة (عبور واشنطن لنهر ديلاوير) وهي تحكي قصة هجوم الأمريكان المفاجئ في ليلة عيد الميلاد من عام 1776م عندما لم تتوقع الحامية البريطانية أن تتعرض لهجوم من جهة نهر ديلاوير المتجمد. هذه اللوحة الجدارية الضخمة هي من إنتاج الرسام إيمانويل لوتز وبحكم أنها من أهم اللوحات الأمريكية في موضوع معارك حرب الاستقلال لذا تم وضعه داخل إطار مطلي بالذهب وهي موجودة حاليا في متحف المتروبوليتان للفنون في مدينة نيويورك. سبق لي وأن زرت هذا المتحف كأي زائر أو سائح يمر على جزيرة مانهاتن ولم أكن أعلم بوجود هذه اللوحة فيه ومع ذلك لا بد أن أعترف أنه لضخامة ذلك المتحف الذي يحتوي على أشهر التحف الفنية واللوحات التشكيلة بالغة الشهرة ما كنت لأترك تتبع لوحات فان جوخ وبيكاسو وسلفادور دالي ورامبرانت ومانيه وفرمير وسيزان ومونيه وغوغان ورينيه وروبنس وأمثالهم من عمالقة الفن الحديث لكي أبذل جهدا وزمنا لأبحث عن لوحة فنية حربية مشهورة فقط للشعب الأمريكي.

الفن التشكيلي وتجسيد النضال الفلسطيني

بالعودة للوحة الثالث من مايو السالفة الذكر والتي هي خير مثال لتوظيف الفن التشكيلي في دعم مقاومة المحتل حيث وقعت الأحداث التي جسدتها هذه اللوحة في سنة 1808م أي في ذروة الاحتلال الفرنسي لإسبانيا عندما نصّب نابليون بونابرت شقيقه الأكبر جوزيف ملكا على إسبانيا مما أدى إلى ثورة سكان مدريد. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أنه في تلك السنة أي سنة 1808م طلب نابليون من رسام البلاط الفرنسي جيرودي تريوسون أن يرسم له لوحة جدارية عن الحملة الفرنسية على مصر التي قادها نابليون عام 1798م ومن الغرائب أن تم الاختيار أن يكون موضوع تلك اللوحة هو مقاومة الشعب المصري للغزو الفرنسي فيما سمي ثورة القاهرة الأولى. في ذلك الصيف الساخن من عام 1798م ثار أهل القاهرة في وجهة الاحتلال الفرنسي وفي بداية الأمر تمكن المجاهدون من أهل مصر ومن جند المماليك من قتل حوالي 200 جندي وضابط فرنسي. وهنا أمر نابليون بقصف القاهرة بالمدافع من أعلى جبل المقطم مما تسبب في مقتل حوالي 5000 من المدنيين وتم حصار الثوار في الجامع الأزهر وهنا حدثت جريمة الفرنسيس الكبرى عندما (دخلت الخيل الأزهر) كما هو العنوان الشهير لكتاب محمد جلال كشك.

لمشاهدة هذه اللوحة الجدارية الضخمة (ثورة القاهرة The Revolt of Cairo) يمكن ذلك بالتوجه صوب غرب مدينة باريس وبالتحديد إلى قصر فيرساي والذي بالرغم من أنني قد زرته قبل عدة سنوات أنا وبعض الزملاء الأفاضل إلا أننا ركزنا أكثر على مشاهدة قاعة المرايا الشهيرة وحدائق ونوافير فيرساي وغرفة نوم الملكة المعروفة ماري أنطوانيت. للأسف لم أنتبه أنه يوجد في قصر فرساي متحف منفصل ومخصص عن تاريخ فرنسا يحتوي ما يسمى (قاعة المعارك). وهي قاعة على درجة عالية من الفخامة خصوصا قبة تلك القاعة التي تم تغطية جدرانها بالكامل بحوالي 20 لوحة جدارية ضخمة لأبرز المعارك الحربية في تاريخ فرنسا ما يهمنا منها هي لوحة معركة (بلاط الشهداء) وطبعا اللوحة السالفة الذكر (ثورة القاهرة).

في واقعنا العربي لا يوجد اهتمام لائق باللوحات الفنية التي تتعلق بالمعارك الحربية والأحداث السياسية المرتبطة بها وللأسف عندما زرت قبل سنوات طويلة معرض (المتحف الحربي المصري) في قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة لاحظت الضعف الفني لأغلب اللوحات الفنية والرسومات التشكيلة المعروضة. فمثلا فيما يخص معروضات تاريخ الحملة الفرنسية على مصر توجد لوحة بالأبيض والأسود عن ثورة القاهرة الأولى خالية من الجمال الفني (هي أشبه بالاسكتش) وإن كانت ذات فحوى رائع في تمجيد المقاومة المسلحة ضد المحتل الفرنسي حيث تبين ضابط فرنسي قام الأهالي بإسقاطه من فوق حصانه ثم تعاونوا على قتلة بالسيوف والفؤوس والحجارة. وكذلك توجد في المتحف الحربي المصري لوحة تشكيلية ضعيفة من الناحية الفنية، ولكنها مرة أخرى ذات أهمية كبرى في تمجيد المقاومة وهي اللوحة التي تجسد قيام المجاهد الكبير (سليمان الحلبي) بقتل واغتيال قائد الحملة الفرنسية على مصر الجنرال كليبر.

 بالجملة فيما يتعلق باللوحات الفنية الأيقونية البارزة والخالدة نجد أن العالم العربي يفتقر بشكل غريب لوجود أعمال تشكيلية تجسد المعارك الحربية الكبرى أو تمجد أعمال المقاومة والنضال ضد الأعداء. على سبيل المقارنة فإنه عند البحث عن صور معركة بلاط الشهداء باللغة الإنجليزية (Battle of Tours) أو باللغة الفرنسية (Bataille de Poitiers) سوف تظهر لك عشرات اللوحات الفنية البديعة التي رسمها فنانون مشهورون بينما قد لا تجد ولا لوحة فنية واحده رسمها فنان عربي معروف عن معركة بلاط الشهداء ولا غيرها من المعارك الخالدة للإسلام والعروبة. الاستثناء الوحيد في توظيف الفن التشكيلي في العالم العربي في الحرب مع العدو والنضال في مقاومة المحتل نجده بشكل بارز فيما يتعلق (بتمجيد المقاومة الفلسطينية) ضد العدو الصهيوني الغاشم.

ومع وجود حرفيا الآلاف من اللوحات التشكيلية التي موضوعها الأساسي (القضية الفلسطينية) وتجسيد المعاناة التي تقع على أهلنا من الشعب الفلسطيني تحت ظلم وعدوان العدو إلا أنه توجد فقط المئات من تلك اللوحة التي هدفها (تمجيد المقامة) المسلحة لذلك المحتل الأثيم. ومع ذلك ففي الواقع الغالبية العظمى من هذه اللوحات محورها الأساسي (الصمود) ولكن للأسف ينقصها تجسيد (التصدي) فهي كثيرا ما تمثل الرجل أو المرأة الفلسطينية وهو يقف شامخا بين الدمار والنيران وهو يحمل عاليا العلم الفلسطيني أو وهو يحمل المسجد الأقصى فوق ظهره أو مجرد رسمه لقبضة يد ممدودة عاليا وهي ملونة بألوان العلم الفلسطيني. الجدير بالذكر أن المئات من اللوحات الجدارية المرسومة بفن غرافيتي الشوارع والرسم على الجدران في العديد من المدن العربية وبعض المدن العالمية يكون موضوعها (القضية الفلسطينية) وتمجيد الانتفاضة ومقاومة المحتل. وبعد أحداث طوفان الأقصى أصبح من الأمور العادية مشاهدة رسومات على جدران بعض شوارع دبلن في إيرلندا تدعم القضية الفلسطينية ولقد شاهدت بنفسي عددا كبيرا من المنازل في حي بوكاب ذي الأغلبية المسلمة في مدينة كيب تاون بجنوب أفريقيا وقد أصبحت واجهات المنازل رسومات تدعم النضال الفلسطيني وتتعاطف مع مأساة أهل فلسطين.

وفي الختام أود أن أشير إلى أنه قبل حوالي ثلاثين سنة عندما اندلعت (انتفاضة الحجارة) انتشرت بشكل كبير الرسومات الفنية البسيطة التي تمثل (أطفال الحجارة) وهم يقذفون بالمقلاع أو بسواعدهم المجردة الأحجار الصغيرة أو وهم يحرقون إطارات السيارات ويتصدون للعدو بالدخان. وبلا شك مع تغير أساليب وقدرات المقاومة الفلسطينية في النضال أمام العدو والتمكن في الفترة الأخيرة من تفجير دبابات ومدرعات جيش العدو ومن قتل المئات من جنوده وجرح الآلاف وبعد التمكن من إلحاق الضرر بالعدو من خلال إطلاق الصواريخ نحوه. لذا من المتوقع أن ندخل مرحلة فنية جديدة من أطوار (الفن التشكيلي المقاوم) والذي يمجد المقاومة ويحث على استمرار مسيرة النضال.






 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق