د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/11/26 الموافق 24 مايو
الأسبوع الماضي احتفلت روسيا وعدد من دول العالم بالذكرى الـ 80 لنهاية الحرب العالمية الثانية والانتصار على جيش ألمانيا النازية، ولكن هذا الأسبوع نحن على موعد مع ذكرى مرور حوالي 90 سنة على تدشين أحد أشهر وأجمل الجسور في التاريخ البشري. بشكل أو أخرى نجد أنه ربما المئات من الجسور شاركت في يوميات وأحداث القتال في الحرب العالمية الثانية فمثلا الجيش الألماني النازي بعد تقهقره من أراضي الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية قام بتدمير جميع الجسور على نهر الدانوب في مدينة بودابيست الهنغارية وفي حالة اليأس الأخيرة اضطر كذلك لأن يتلف عشرات الجسور على نهر الريان داخل ألمانيا نفسها. في بدايات سنوات الحرب العالمية الثانية بنشر الأديب الأمريكي البارز أرنست هيمنغواي روايته الرائعة (لمن تقرع الأجراس) ومن الغرائب في حبكتها السردية أن أحداثها الرئيسية تدور حول قيام محارب أمريكي شاب يدعى روبرت جوردن يكلفه جنرالا سوفيتيا بتدمير جسر في الجبال الإسبانية ليمنع تقدم أرتال وجنود جيش العدو المساندة للدكتاتور الأسباني فرانكو.
والمقصود من هذا المدخل لفت الأنظار إلى أهمية الجسور وتأثيرها الطاغي في مختلف مناحي حياتنا السياسية والعسكرية والاقتصادية، بل والاجتماعية والنفسية والجمالية. للجسور والقناطر دلالات رمزية قوية فهي وإن كانت ترمز للاتصال والتغلب على العقبات إلا أن لها توظيفا كثيفا في (بناء الجسور) للعلاقات الإنسانية والروابط المجتمعة ومد جسور المحبة بين العشاق. ومن هذه الرمزية الزاخرة للجسور كثيرا ما يتكرر تداول واستخدام تلك المقولة الحكيمة (أجمل وأروع هندسة في العالم أن تبني جسرا من الأمل فوق بحر من اليأس). وهذا يقودنا لاستعادة ذكرى تلك الحادثة الفريدة في تاريخ الجسور عندما تجمع حوالي مليون شخص لإبداء الإعجاب والتقدير لمعجزة معمارية مذهلة هي (جسر البوابة الذهبية) بمدينة سان فرانسيسكو.
في الواقع بعد فترة زمنية قصيرة نسبيا سوف نكون على مشارف الاحتفال بالذكرى 90 لبناء جسر البوابة الذهبية Golden Gate Bridge لكن ما يهمنا في توقيت تاريخ اليوم (24 مايو) هو الإشارة إلى تلك الحداثة الفريدة التي وقعت في هذا التاريخ من عام 1987م عندما تجمع حوالي 800 ألف شخص لكي يحتفلوا بمناسبة مرور نصف قرن على تدشين ذلك الجسر الجميل. من أهم الأبعاد الرمزية للجسور هو فعل (العبور) والانتقال فوقها ولهذا في ذلك اليوم أي 24 مايو 1987م يقدر أنه في لحظة ما من ذلك اليوم كان يتواجد حوالي 300 ألف إنسان كلهم قدموا لعبور هذا الجسر والمشي فوقه كنوع من الاحتفال به. وباستثناء المنشآت البشرية المخصصة لدور العبادة لا يوجد في كامل التاريخ البشري أي بناء أو معمار هندسي احتشد فيه 300 ألف شخص في وقت واحد حتى لو كان مطار أتلانتا الدولي بولاية جورجيا الأمريكية والذي يعتبر أزحم مطار في العالم.
ومن الأمور العجيبة والنادرة فيما يخص الإعجاب والافتتان بالجسور لعله من الملائم أن نذكر أن لمن يرغب من السياح أو حتى المؤرخون أن يشاهد جسر لندن (الأصلي) فإنه يتوجب عليه أن يذهب لمشاهدته في ولاية أيرزونا الأمريكية وليس في العاصمة البريطانية !!. والسبب في ذلك أن ذلك الجسر ذو الأهمية التاريخية الكبرى أُكتشف في فترة الستينيات من القرن الماضي بأنه غير مستقر وأن حاله كما في أنشودة الأطفال الشهيرة (جسر لندن يسقط، يسقط يا سيدتي الجميلة London Bridge is falling down, falling down, my fair lady). وبحكم أن هذا الجسر التاريخي العريق سوف يصبح مع الزمن غير آمن لعبور السيارات والشاحنات فوقه لهذا كان يجب (إسقاطه وهدمه) وبناء جسر جديد بدلا عنه. وهنا عرض المجلس المحلي لمدينة لندن أن يتم بيع جسر لندن العريق بدلا من أن مجرد هدمة ولهذا بالفعل تقدم رجل أعمال أمريكي واسع الثراء وعرض شراء حجارة الجسر وتقطيعها إلى عشرات الآلاف من القطع ثم نقلها وتجميعها مرة أخرى فوق بحيرة في ولاية أيرزونا وهذا ما حصل.
ما سبق ذكره عن التجمع الحاشد على جسر البوابة الذهبية أو شراء ونقل جسر لندم هي فقط أمثلة كاشفة على حالة العشق والإعجاب الكبير للبشر فيما يتعلق بالجسور وذلك عبر كل عصور التاريخ البشري ولذا نجد أن الفيلسوف الفرنسي ميشيل سيريس قام بتعميق العلاقة بين الإنسان والجسور لدرجة أنه اختزل الإنسان وكأنه ابن الجسور أو أنه الإنسان الجسري (Homo Pontifex). في كتابه (فن الجسور) الصادر عام 2006م جعل الفيلسوف الفرنسي ميشيل سيريس أحد أهم مميزات الإنسان أنه صانع للجسور ولهذا ناقش وربط من ناحية فلسفية وفكرية العلاقة بين الجسور والبشر. بينما نحن هنا سوف نحاول أن نبني الجسور ونربط بين الجسور والأدب من خلال استعراض سريع للتوصيف الأدبي والشعري والسردي لأبرز الجسور ذات الشهرة العالمية. ولكن قبل ذلك سوف نعرج على جسر مجهول ولكنه كان بالفعل هو البطل الحقيقي لرواية مشهورة حصل كاتبها على جائزة نوبل في الأدب لعام 1961 ميلادي. نحن هنا نتكلم عن الرواية التاريخية الشيقة والثرية رواية (جسر على نهر درينا) للكاتب الصربي إيفو أندريتش والتي تستعرض الأحداث التاريخية والدراما الإنسانية التي ارتبطت بجسر محمد باشا سوكولوفيتش والذي يقع في شرق البوسنة والهرسك. هذا الجسر التاريخي الرائع تم تدميره أثناء الحرب العالمية الأولى ثم أعيد بناؤه لاحقا وبالمناسبة في غرب البوسنة والهرسك يقع جسر موستار التاريخ الأنيق الذي تعرض هو الآخر للتدمير عام 1993م من قبل القوات الكرواتية الأثيمة وإن كان أعيد بنائه وأصبح قبله للسياح من جميع أنحاء العالم.
ولنعد الآن للحديث عن الأبعاد الأدبية للجسور العالمية المشهورة ولنبدأ بجسر البوابة الذهبية في سان فرانسيسكو فهذا الشاعر الهندي أشكوم أشويك المقيم في كاليفورنيا يكتب قصيدة طويلة (Golden Gate Bridgoetica) نشرت في كتاب من 88 صفحة مخصصة للإعجاب بهذا الجسر وبالمهندس المعماري جوزيف ستاروس الذي صممه وكافح حتى تم بنائه. وبحكم أن هذا الجسر أصبح رمزا للحب وكذلك رمز للموت بسبب كثرة حالات الانتحار بالقفز من فوقه ولهذا تم تأليف بعض الروايات الرومانسية (رواية: البوابة الذهبية) والتراجيدية (رواية: القفزة الأخيرة) التي محورها، بل وحتى عنوانها مرتبط بهذا الجسر البارز.
في بداية المقال عند الحديث عن جسر البوابة الذهبية جاءت الإشارة لقصة جسر لندن العريق الذي انتقل من بريطانيا إلى أمريكا ولهذا تجدر الإشارة إلى أن أهم شاعر في العصر الحديث وهو الأمريكي ت. س. إليوت الذي انتقل من أمريكا إلى بريطانيا وحصل على جنسيتها كان له اهتمام بعراقة جسر لندن. في المقاطع الأولية للقصيدة ذائعة الصيت لتوماس إليوت (الأرض اليباب The Waste Land) نجد إشارة لجسر لندن كما في المقطع التالي:
تحت الضباب البني لفجر الشتاء،
تدفق حشد من الناس على جسر لندن، كثيرون جدا
لم أكن أعتقد أن الموت قد قضى على الكثيرين
تنهدات قصيرة وغير متكررة، ثم الزفير
وكان كل رجل ينظر إلى قدميه
يجب أن ننبه القارئ الكريم أنه عندما كتب ت. س. إليوت قصيدة (الأرض اليباب) ونشرها عام 1922م كان ما زال تحت تأثير فواجع الحرب العالمية الأولى ولذلك كانت تلك القصيدة الحداثية كئيبة وسوداوية لأنها كانت تعبر عن خيبة شباب ذلك الجيل وصدمتهم من قسوة وشناعة الحضارة الغربية ولهذا الحشود التي كانت تعبر جسر لندن كانت خائفة وحزينة وكأنها ذاهبة للموت في الأرض الخراب. وبعد الإذن مرة من القارئ الكريم سوف ننتقل من شاعر إنجليزي متشائم إلى شاعر إنجليزي بهيج ومتفائل ومن جسر إنجليزي مفكك ومنقول لأرض جديدة إلى جسر إنجليزي آخر لا يقل عراقة وأهمية تاريخية. الشاعر الإنجليزي الكبير ويليام وردزورث له مكانة مرموقة في تاريخ الشعر لأنه هو ورفيقه الشاعر صاموئيل كولريدج هما من أطلق مدرسة الشعر الرومانسي في الأدب الإنجليزي. وبالرغم من الشهرة الطاغية لويليام وردزورث في عشق الطبيعة ولفت الأنظار إلى جمالها وروعتها (وهذا المقصود بالتيار الرومانسي وليس العشق والغرام) ومع ذلك نجده في عام 1802م يعبر على جسر وستمنستر بالقرب من مبنى البرلمان الإنجليزي وإذا به يكتب قصيدة فغير متوقعة ي تمجيد النهضة الصناعية والعمران المدني. بينما ت. س. إليوت المتشائم كان يصف الصباح الكئيب على جسر لندن نجد خلاف ذلك أن وردزوروث كان في قمة البهجة والتفاؤل عندما وصف جمال الصباح وروعة منظر مدينة لندن من فوق جسر وستمنستر ولهذا نجد هذا المقطع في القصيدة التي حملت عنوان (على جسر وستمنستر):
هذه المدينة الآن مثل ثوب، ترتدي جمال
الصباح؛ صامتة، جرداء
السفن والأبراج والقباب
والمسارح والمعابد تقع مفتوحة على الحقول والسماء
كلها
مشرقة ومتألقة في الهواء الخالي من الدخان
يا إلهي! تبدو المنازل نفسها نائمة؛ وكل ذلك القلب العظيم مستلقٍ في سكون
بقي أن نقول إن الشاعر وردزورث كان يصف لندن ونهر التايمز من فوق جسر وستمنستر (القديم) وبالرغم من أنه ظل لمدة ثلاثين سنة وهو شاعر البلاط الملكي لكنه توفي قبل سنوات قليلة من افتتاح جسر وستمنستر (الجديد). وبالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن افتتاح جسر وستمنستر الجديد حصل في عام 1862م وفي يوم (24 مايو) الذي يتوافق مع تاريخ مقال اليوم وكما سبق وأن ذكرنا هذا التاريخ (24 مايو) له ارتباط بجسر البوابة الذهبية وليس هذه وحسب، بل له ارتباط بجسر ثالث بالغ الشهرة وهو جسر بروكلين في مدينة نيويورك. في الواقع لبعض الجسور أهمية قصوى في تاريخ علم العمارة فبعد أن كانت غالبية الجسور تبنى من الحجارة وبعضها من الأخشاب كان بناء أول جسر (حديدي) حدثا بالغ الأهمية كما حصل مع (جسر أيرون The Iron Bridge) في شمال مدينة برمنجهام البريطانية وذلك في عام 1779 ميلادي. ولهذا عندما تم تدشين جسر بروكلين في يوم (24 مايو) من عام 1883م وبحكم أنه كان يمثل قمة التقدم والتطور في صناعة الجسور لأنه كان أول جسر (معلق) في التاريخ مشدود بأسلاك وكيابل الفولاذ ولهذا حضر حفل افتتاحه الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت تشيستر آرثر وكذلك عمدة نيويورك جروفر كليفلاند الذي سوف يصبح قريبا هو الآخر رئيسا للولايات المتحدة.
فن الجسور في الأدب العربي
في السنوات الماضية ربما تكون رواية (عناق عند جسر بروكلين) للأديب المصري عز الدين فشير من أفضل الروايات العربية الحديثة التي قرأتها وبحكم أنها تدور حول حياة المغتربين العرب المقيمين في أمريكا ولذا كانت رواية ثرية بالأحداث الدرامية والصراعات النفسية. وهذا يذكرنا بالرواية المصرية الأكثر جودة للروائي المعروف علاء الأسواني وهي رواية (شيكاغو) والتي تدور أحداثها عن الجالية المصرية في أمريكا وبالمناسبة مدينة شيكاغو حاليا تفخر بأنها تحتوي أحد أقدم الجسور المتحركة في العالم والذي يقع على نهر شيكاغو وتم افتتاحه عام 1902 ميلادي. وبذكر رواية (عناق عند جسر بروكلين) هذا يفتح لنا المجال لسرد سريع عن توظيف رمزية الجسور في الأدب العربي وخصوصا في الشعر حيث نجد العديد من القصائد العربية تحمل في عنوانها كلمة (الجسر) لما لها من مدلولات متعددة ومعاني ذات أبعاد عميقة. على سبيل المثال أهم قصيدة في ديوان الشاعر اللبناني المعاصر خليل الحاوي هي قصيدة (الجسر) وهي قصيدة ثورية بامتياز كحال القصيدة الشهيرة للشاعر الفلسطيني المناضل محمود درويش (قصيدة الجسر).
طبعا هذه القصائد الشعرية تستخدم الرمزية في توظيف مفردة (الجسر) ولهذا فيما تبقى من المقال لعلنا نعرج على الأبيات الشعرية التي تدور حول جسور حقيقة مشهورة مثل جسر نهر دجلة الذي خلده الشاعر العباسي الفحل علي بن الجهم في البيت الشعري ذائع الصيت:
عُيونُ المها بين الرُصافة والجسرِ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن سَلوتُ ولكن زدن جمراً على جمرِ
وارتباط الجسر والنهر بتأجيج مشاعر العشاق متوصل عبر العصور فكما عاد الشوق القديم للشاعر علي بن الجهم نجد أن منظر الجسر مع النهر قد هيج لوعة العشق لدى أمير الشعراء أحمد شوقي حيث قال في قصيدته الرقيقة:
بالله يا نسمات النيل في السَّحرِ هل عندكنّ عن الأحباب من خبرِ
ذكرت مصر ومن أهوى ومجلسنا على الجزيرة بين الجسر والنهرِ
والجسر الذي ذكره أحمد شوقي في القصيدة والذي يربط بين القاهرة وبين جزيرة الزمالك هو جسر أو كُبري (قصر النيل) وهو أهم وأشهر جسر في العالم العربي كله وتم إنشاؤه في زمن الخديوي إسماعيل. ونظرا لجمال وروعة ذلك الجسر العريق خصوصا بوجود تماثيل الأسود الأربعة على مداخل الجسر وهنا تكمن المفارقة بين روعة جسور مصر وبين جسور إسطنبول خصوصا ذلك الجسر التعيس المقام على مضيق البسفور. عندما زار أحمد شوقي تركيا تعجب من الحالة التعيسة لجسر البوسفور المشيد من الخشب المتهالك ولهذا كتب أحمد شوقي قصيدة وأرسلها إلى الخليفة العثماني يعترض فيها على أخذ جباية ورسوم مالية للعبور على ذلك الجسر الخطير:
أمير المؤمنين رأيت جسرا أمرُّ على الصراط ولا عليهِ
له خشبٌ يجوع السوس فيه وتمضي الفأرُ لا تاوي إليهِ
ومن عجبٍ هو الجسرُ المُعلّى على بالبُسفور يجمع شاطئيهِ
ونختم بذكر أهم جسر في واقعنا المحلي وهو جسر الملك فهد الذي يربط بين المملكة والبحرين ولهذا في مناسبة افتتاح جسر البحرين في عام 1407 هجري أبدع الشاعر غازي القصيبي قصيدته الفائقة العذوبة:
درب من العشق لا درب من الحجر هذا الذي طار بالواحات للجزر
ساق الخيام الى الشطآن فانزلقت عبر المياه شراع أبيض الخَفَر
ماذا أرى؟ زورق في الماء مندفع أم أنه جملٌ ما مل من سفر؟
نسيتُ أين أنا إن الرياض هنا مع المنامةِ مشغولانِ بالسمَرِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق