د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/10/7
لقد تعمدت ألا أشرع في كتابة هذا المقال الجديد إلا مساء يوم الأربعاء الماضي الموافق (الثاني من أبريل) وهو التاريخ الذي وصفه كثيرا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه (يوم التحرير Liberation Day) وكأنه بذلك يرغب أن يخلد اسمه في التاريخ الأمريكي بأنه محرر أمريكا من الاستغلال الاقتصادي وذلك على نسق (يوم الاستقلال Independence Day) في يوم الرابع من يوليو عندما استقلت الأمة الأمريكية من الاستغلال السياسي للتاج البريطاني. يزعم الرئيس الأمريكي أنه يقود شعبه إلى (العصر الذهبي) الجديد والرخاء الاقتصادي الأكيد وذلك بعد الإعلان عن فرض رسوم جمركية جديدة على جميع دول العالم بلا استثناء وإن كان بنسب متفاوتة. التصور الحالم وربما الساذج للرئيس الأمريكي أنه بهذه المغامرة والمقامرة سوف يدخل مئات المليارات من الدولارات إلى الخزانة الأمريكية كما إنه سوف ينعش قطاع الصناعية المحلي بعد وضع الحواجز الجمركية للسلع المستوردة.
ذاك حلم جميل وبراق .. ولكن
في زمن التجارة الدولية المعاصرة التي تهيمن عليها الشركات المتعددة الجنسيات (الشركات العابرة للقارات) حيث تشير تقارير الأمم المتحدة أن حوالي 80% من التجارة الدولية التي تبلغ 20 ترليون دولار سنويا تتم من خلال شبكة الشركات متعددة الجنسيات وهذه الأرقام تعكس مدى دور وقوة وتأثير هذه الشركات في منظومة الاقتصادي الدولي. وعليه هل سوف يكون الرئيس الأمريكي عندما يفرض رسوما جمركية جديدة على كافة دول العالم وعلى هذه الشركات العابرة للقارات ويستخدم الأسلحة الثقيلة في تلك الحرب التجارية الشرسة كمن يطلق النار على قدميه حيث قد تكون النتيجة عكسية backfired وتتسبب في ركود للاقتصاد الأمريكي على المدى البعيد وزيادة في التضخم وارتفاع الأسعار على المدى القريب.
ولفهم أسباب ذلك نود الإشارة إلى أن الرئيس ترامب أعلن في خطاب حرب التحرير بأنه سوف يرفع الرسوم الجمركية بنسبة 25% على قطاع السيارات المستوردة من خارج أمريكا وذلك بحجة حماية مصانع السيارات المحلية. ولكن يجب أن نعلم أن السيارة الواحدة في المتوسط تحتوي على حوالي ثلاثين ألف قطعة ووفق سياسات تقليل نفقات الإنتاج لا تصنع كل هذه القطع الهائلة العدد داخل الولايات المتحدة حيث تشير الإحصاءات أنه في المتوسط حوالي 40% من القطع المستخدمة في صناعة السيارات الأمريكية هي مستوردة من الخارج. وإذا علمنا أن قيمة هذه القطع المستوردة من الخارج قد تصل إلى حوالي 140 بليون دولار سنويا لذا ففي نهاية المطاف بالقطع أسعار السيارات الأمريكية نفسها سوف تتضرر من هذه الرسوم الجمركية الجديدة لأن القطع التي تدخل في تصنيعها زاد سعرها بسبب الرسوم الجمركية الترامبية.
في الوقت الحالي تعتبر شركة (آبل) الأمريكية أكبر شركة في العالم وربما في التاريخ ومع ذلك يجب أن نعلم أن قيمتها السوقية التي تبلغ حوالي 3.8 ترليون دولار هي في غالبها قائمة على شبكة مصانعها الضخمة التي تقع أغلبها في خارج الولايات المتحدة وفي الصين تحديدا. المفارقة الكبرى أن أجهزة جوال الأيفون Apple iPhone 16 التي تصنعها شركة آبل تتكون أجزائها الرئيسية من (34 قطعة) يتم تصنيعها في دول مختلفة عددها (41 دولة) أي أن عدد الدول المساهمة في تصنيع جهاز جوال واحد أعلى من عدد القطع الأساسية لذلك الجوال. وبالتالي لا تحتاج أن تكون خبيرا في الاقتصاد الدولي لكي تدرك أن فرض رسوم جمركية على الدول المساهمة في تصنيع جوال الأيفون بالقطع سوف يتسبب في (تضخم) سعر الجولات على المستهلك الأمريكي قبل غيرة نظرا لأن رعايا الدول الأخرى قد يفضلون شراء جوال السامسونج الكوري أو جوال هواوي الصيني.
في زمن الشركات والمصانع متعددة الجنسيات يحلم الرئيس ترامب أن يعيد مصانع السيارات والجولات والأدوية والإلكترونيات إلى الأراضي الأمريكية وهو بهذا بزعمه سوف يطلق العصر الذهبي الاقتصادي ويساهم في (تحرير أمريكا) مرة ثانية. ولكن بعض خبراء الاقتصاد يحذرون أن (يوم التحرير) الأمريكي هو في الواقع (يوم الكساد) وفجر زمن التضخم الاقتصادي ويجب ألا نغفل أن سوق الأسهم الأمريكية في اليوم التالي ليوم التحرير أي في يوم الثالث من أبريل انهار بشكل حدا وخسر خلال ساعات مبلغ 2.5 ترليون دولار (أي 2500 مليار دولار). بل وصل الأمر أن شركة آبل والتي قلنا إنها أكبر شركة في العالم خسرت 300 مليار دور خلال 90 دقيقة من افتتاح سوق الأسهم صباح يوم الخميس 4 أبريل وذلك بعد أن انخفضت قيمة سهم آبل بنسبة 9% في حين أن البنك الأمريكي جي بي مورغان أكبر بنك في العالم خسر حوالي 7% من قيمة أسهمه في البورصة الأمريكية. وهذا يعزز حصافة مجلة الإيكونوميست البريطانية (ربما هي أهم صحيفة اقتصادية في العالم) عندما جعلت عنوان غلاف عددها الأخير (يوم التخريب Ruination Day) كأسلوب مرير للسخرية من يوم التحرير المزعوم.
البسطاء من الشعب الأمريكي يعتقدون أن الرئيس الأمريكي بحكم أنه فيما يبدو رجل أعمال ناجح جدا لذا هو يعلم ما يفعل فيما يتعلق بالقرارات والسياسات الاقتصادية التي يورط فيها الشعب الأمريكي. في الواقع المسيرة التجارية للسيد دونالد ترامب قد تكون ناجحة في الظاهر بحكم أنه حاليا أحد أشهر الأثرياء في أمريكا، ولكن ينبغي ألا ننسى أنه في مسيرته المالية والتجارية أعلن إفلاس بعض شركاته واستثماراته المالية في ست حالات منفصلة ولهذا هو حاليا يغامر ويقامر بمستقبل الاقتصاد الأمريكي دون أي ضمانات حقيقة أنه سوف لن يخسر وبذا سيجر الأمة الأمريكية معه إلى المجهول.
بقية الشله وكوارثهم الاقتصادية الماحقة
خطاب الرئيس الأمريكي المطول مساء يوم الأربعاء الثاني من أبريل كان يستند إلى المحطات التاريخية البارزة في تاريخ أمريكا مثل يوم الاستقلال (الذي يقابل يوم التحرير) وحادثة إعلان الاستقلال في 4 من يوليو لعالم 1776م (الذي يقابله إعلان الاستقلال الاقتصادي). ولهذا كما أعتمد ترامب على الوقف في بعض محطات التاريخ لذا ربما من المسوغ أن نعود إلى التاريخ ونرصد بعض الأحداث الاقتصادية والسياسية الكبرى التي كانت تهدف في الأساس إلى إحداث إصلاح اقتصادي أ سياسي ثم انتهى بها الأمر إلى وقوع كوارث تاريخية هائلة.
الجميع يعلم أن الهدف الأساسي لسياسية فرض الرسوم الجمركية الجديدة هي تحجيم النمو الاقتصادي المتزايد للصين ومن هنا سوف نبدأ من أرض التنين الصيني وذلك عندما أعلن الرئيس الصيني البارز ماو تسي تونغ عن مشروع اقتصادي ضخم وطموح حمل اسما براقا وملهما (القفزة العظيمة إلى الأمام). في شهر نوفمبر من عام 1957م وبمناسبة الاحتفال بمرور 40 سنة على الثورة البلشفية (ثورة أكتوبر لعالم 1917م) اجتمع قادة الدول الشيوعية في موسكو واقترحوا وضع خطة عامة للحاق بأمريكا من الناحية الصناعية خلال مدة زمنية لا تزيد عن 15 سنة. ومن هنا ومن دون دراسات اقتصادية أو تقنية دقيقة أعلن الرئيس الصيني ماو تسي تونغ عن مشروعه لتحويل الصين من بلد زراعي إلى بلد صناعي متقدم في الصناعات الثقيلة وهو برنامج الخطة الخمسية التي بدأت عام 1958م الذي تحول من (القفزة العظيمة إلى المجهول) إلى (المجاعة الصينية العظيمة). لقد أجبر النظام الاستبدادي للحزب الشيوعي الصيني مئات الملايين من الفلاحين الصينيين لهجر مزارعهم والتجمع للعمل في مناطق عشوائية لصهر وتصنيع الفولاذ وهذا ما تسبب خلال سنتين فقط إلى حصول كارثة هائلة تمثلت في مجاعة شاملة نتج عنها وفاة ما بين 18 إلى 33 مليون صيني.
ومن الصين ننتقل عبر الجغرافيا والتاريخ لنصل إلى الاتحاد السوفيتي في عام 1987م عندما أعلن رئيس الحزب الشيوعي السوفيتي ميخائيل غورباتشوف عن برنامجه الطموح لإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية أطلق عليه اسم (البيريستوريكا) والتي تعني إعادة الهيكلة. وكما كان برنامج إعادة إصلاح الاقتصاد الصيني زمن ماو تسي تونغ يمشي على ساقين فكذلك برنامج غورباتشوف كان يرتكز على عكازتين أو ساقين هما برنامج البيريستوريكا وسياسة (الغلاسنوست) أي سياسة الانفتاح والشفافية. في الواقع كما حصل مع ماو تسي تونغ نجد أن غورباتشوف كما يقول المثل الدارج (جاء يكحلها عمها) فنجده هو الآخر خلال سنتين فقط يتسبب في هزة ضخمة للاقتصاد السوفيتي المتضعضع أصلا حيث تسبب برنامج البيريستوريكا في زيادة نفقات الدولة لدعم حزمة الإصلاحات والمشاريع الاقتصادية الجديدة. وبحلول عام 1990م كانت الحكومة السوفيتية قد خسرت السيطرة على المنظومة الاقتصادية ولهذا ظهر الرئيس غورباتشوف على التلفزيون السوفيتي في يوم 26 ديسمبر من عام 1991م لكي يعلن تفكيك وحل اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. وبهذا بدلا من أن تنجح مساعي غوربتشاوف المخلصة في إعادة هيكلة الاقتصاد تسبب في انهيار الإمبراطورية السوفيتية وفقر أغلب الشعب الروسي خلال فترة التسعينيات.
ولعلنا نختم بالتذكير مرة أخرى بأن بعض المراقبين يقولون بأن (يوم التحرير) الذي يتبجح به الرئيس ترامب قد يكون في الواقع هو (يوم الكساد) إشارة إلى أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ أمريكا وهي المعروفة (بالكساد الكبير). في يوم الرابع من مارس لعام 1929م دخل الرئيس الأمريكي هربرت هوفر إلى البيت الأبيض بوصفه الرئيس الحادي والثلاثين للولايات المتحدة. وفي الأسابيع الأولى من حكمه أعلن الرئيس هوفر عن طموحة لطرح سياسات اقتصادية ستأخذ لأمة الأمريكية إلى مراحل متقدمة وهو نفس الزعم والشعار الذي أطلقه الرئيس ترامب في يوم الثاني من أبريل بأن أمريكا سوف تعود دولة ثرية من جديد. وما حصل بعد ذلك أن الرئيس هربرت هوفر قام بالتوقيع لاعتماد قانون التعرفة الجمركية والذي من خلاله تم رفع الرسوم الجمركية لأكثر من 20 ألف سلعة مستوردة إلى أمريكا. يقولون التاريخ يعيد نفسه وهذا كثيرا ما يتكرر فبعد تفعيل قانون الرسوم الجمركية الذي فرضه الرئيس هربرت هوفر قبل حوالي مائة سنة تسبب ذلك القانون في حدوث ردة فعل عكسية لدى شركاء أمريكا التجاريين الذين بدورهم فرضوا رسوما جمركية على أمريكا. وهذا ساهم في تقليص الصادرات والواردات إلى أمريكا والذي بدوره تسبب في بداية الركود الاقتصادي العالمي الذي قاد في النهاية إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة لأمريكا أي (الكساد الكبير). ولذا ففي الغالب والله أعلم أن الرئيس دونالد ترامب يسير على خطى سلفه الرئيس هربرت هوفر في تحقيق المثل الشائع (جاء يكحلها عماها) أو بالإنجليزي الفصيح (add insult to injury).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق