الاثنين، 7 يوليو 2025

( أفلاطون وترامب والديمقراطية !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1446/12/18

في يوم الثاني من نوفمبر من عام 1920م كان الرئيس الأمريكي وران هاردنينغ على موعد مع مناسبة سعيدة ليس فقط لأنه سوف يحتفل بيوم عيد ميلاده الخامس والخمسين، ولكن كذلك لأن تلك المناسبة الشخصية السعيدة تزامنت مع يوم الإعلان عن فوزه في الانتخابات بمنصب رئيس الولايات المتحدة. واليوم السبت 14 يونيو ومع احتفال الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب بيوم عيد ميلاده 79 أتوقع أنه قد يكون أحد أسوء أعياد الميلاد التي مرت عليه حيث تشير استطلاعات الرأي المتكررة أن شعبية الرئيس في تنازل مستمر. تراجع شعبية الرئيس الأمريكي في الداخل تتقاطع مع تراجع حاد في شعبية الدولة الأمريكية في العالم وهنا تكمن المفارقة فبالعودة للتواريخ مرة أخرى نجد أنه في أول يوم من السنة الجديدة لعام 1992م نشر الكاتب الأمريكي فرانسيس فوكوياما كتابه المثير للجدل (نهاية التاريخ والإنسان الأخير). بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية زعم فوكوياما في ذلك الكتاب بأن الديمقراطية الليبرالية تشكل مرحلة نهاية التطور السياسي للفكر الإنساني وأن الإنسان الأخير (في نموذجه الغربي) توصل للشكل النهائي لطبيعة الحكومة البشرية الناجعة والممثلة في مبادئ الليبرالية الاقتصادية.

الطريف في الأمر أن السذاجة الفكرية والاستعجال التحليلي لدى فوكوياما بطرحة نظرية أن الفكر السياسي للبشرية وصل للقمة ونهاية التاريخ بسيادة نموذج الديمقراطية الليبرالية الأمريكية سرعان ما انكشفت بعد سنوات قليلة من نشر ذلك الكتاب السطحي في أفكاره. في عام 2004م اكتشف فوكوياما أن التاريخ السياسي البشري بالفعل لم يصل لنهايته بعد وكانت الصدمة أن الديمقراطية في أمريكا ذاتها في خطر وهذا فحوى الكتاب التالي الذي نشره فوكوياما في ذلك العالم بعنوان (أمريكا على مفترق طرق: الديمقراطية والسلطة وأرث المحافظين الجدد). وما يهمنا من أفكار ذلك الكتاب الجديد أن فوكوياما حدد فيه ثلاثة مرتكزات اعتبرها أساسية لأي نظام ديمقراطي وهي: وجود دولة قوية تتمتع بالهيبة اللازمة وتكريس سلطة وسيادة القانون ومسؤولية الدولة أمام محكوميها. واليوم ومع احتفال السيد ترامب بيوم عيد ميلاده تظهر الولايات المتحدة وهي في أضعف مراحل تاريخها في هذه المرتكزات الثلاث فهيبة أمريكا الدولية تهتز وسلطة وسيادة القانون تختل بعد رفض الرئيس للعديد من أحكام القضاء المعطلة لعشرات من أوامره التنفيذية المثيرة للجدل كما أن الإدارة الأمريكية الجديدة يبدو أنها تضرب عرض الحائط بمبدأ المسؤولية أمام شعبها لأنها تتصرف بعنجهية واستبداد غير مسبوق.

عندما نشر فوكوياما كتابه نهاية التاريخ في عام 1992م كان يعتقد بأن الديمقراطية الأمريكية في قمة مجدها وتطورها وهو لا يزال اليوم على قيد الحياة بيننا يرصد مع غيرة من المصدومين مظاهر الانتكاس للديمقراطية المزعومة بالرغم من أنها كانت قبل ذلك مستمرة في التطور والتجذر. الجدير بالذكر أن للديمقراطية أنواع مختلفة (الديمقراطية الليبرالية أو النيابية أو التوافقية أو الشمولية) والأهم من ذلك أن الديمقراطية لها مراحل وتطور عبر الزمن كما هو الحال مثلا مع ديمقراطية مدينة أثينا اليونانية والديمقراطية البرجوازية والديمقراطية الجمهورية والديمقراطية الانتخابية (الديمقراطية الانتخابية). من الأقوال الشائعة التداول في دنيا السياسة بأن الديمقراطية (ليست مجرد انتخابات أو صندوق الاقتراع) وأنها منظومة شاملة ومن أهم أسسها ومقوماتها أنها (دولة المؤسسات) ونظام (فصل السلطات الثلاث). وفي العقود الأخيرة وفي الدول الغربية بالذات توقع أهل الفكر والسياسية أن مجتمعاتهم بلغت القمة و (نهاية التاريخ) في مجال الديمقراطية بظهور الحركة المتطورة الجديدة المسماة (الديمقراطية الرقابية Monitory Democracy). لقد اكتشفت شرائح واسعة من طبقات المجتمع الغربي بأن شعار (الديمقراطية هي الحل) هو شعار زائف لأن صندوق الانتخابات يمكن التلاعب بمخرجاته من خلال الإعلام والمال ولهذا بدل أن تكون البرلمانات مؤسسات رقابة على الحكومات أصبح بعض أعضائها من النواب شركاء في الفساد الحكومي. ولذا نجد في عام 2016م أي في السنة التي (انتخب) فيها الرئيس الأمريكي ترامب أصدر المؤرخ البلجيكي ديفيد ريببروك كتاب بعنوان صادم هو (ضد الانتخابات Against Elections). لأن ذلك الكاتب والمفكر البلجيكي والذي يعيش على مقربة في بروكسل من أكبر برلمان دولي أي البرلمان الأوروبي قد تسلل له اليأس من صلاح المنظومة الديمقراطية الحالية والتي وصفها بالمريضة وأن من مظاهر مرضها وصول القادة الشعبويين لسدة الحكم بالإضافة لكارثة عدم الثقة في المؤسسات الديمقراطية وفي القلب منها البرلمانات والمجالس النيابية.

ومن هذا وذاك بدأت في الدول الغربية مظاهر الطور الجديد للديمقراطية وهي (الديمقراطية الرقابية) بمعنى أنه مع تنامي فقدان الثقة في المجالس النيابية والمؤسسات الرقابية الرسمية لا بد من أن يكون البديل هو المنظمات والهيئات غير الحكومية وكذلك من الجماعات وأفراد الشعب. ومن هنا أصبح الرقيب على الحكومات ورؤساء الدول هو الهيئات (( غير المنتخبة )) مثل الصحافة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات التطوعية غير الربحية بالإضافة للنقابات المهنية ومنظمات حقوق الإنسان وجمعيات حماية البيئة وغير ذلك من تشكيلة المنظمات غير الحكومية (NGOs). وهنا لفته مهمة وهي أن تعدد أنواع الديمقراطيات وتطور أشكالها و (نماذجها) عبر الزمن يدل على أن الديمقراطية بشكل أو آخر تحاول أن تصحح من أخطائها وتضع الضوابط والآليات والتدابير لمنع استخدام السلطة وضمان استقرار النظام السياسي. وبهذا تكتمل صورة (الفشل) الذي تقع فيه الديمقراطية الغربية الليبرالية المعززة بالديمقراطية الرقابية فبعد كل هذه الخبرة المتراكمة تمكن الرئيس (الشعبوي) ترامب من الوصول لسدة الحكم وبدأ في تفكيك المنظومة الديمقراطية من داخلها وكانت وسيلة في الوصول للحكم عبر (الانتخابات). وبالعودة لكتاب (ضد الانتخابات) السالف الذكر تجدر الإشارة إلى أن وسيلة التسويق الفعالة للطبعة الأولى للكتاب أنه كان موضحا على الغلاف بأن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان هو من كتب مقدمة الكتاب بينما في الطبعة الثانية من ذلك الكتاب كانت وسيلة التسويق الناجعة أكثر بأن وضعت صورة الوجه العابس للرئيس ترامب على الغلاف. إمكانية (انتخاب) الشخصيات المثيرة للجدل مثل ترامب ومن قبل ذلك موسيليني الإيطالي وهتلر النازي وفرديناند ماركوس الفلبيني للوصول للسلطة أمر محير يحتاج لتحليل فلسفي.

فلسفة الديمقراطية والزعيم الشعبوي

 تشتهر أرض اليونان القديمة بأنها مهد الفلسفة وكذلك مهد الديمقراطية ومع ذلك من العجائب أن الديمقراطية والفلسفة لم تكن دائما على توافق أو تجانس تام. سبق أن أشرنا بأن الديمقراطية تطورت وتحسنت عبر الزمن وذلك بسبب وجود تيار (ناقد للديمقراطية) عبر العصور المتوالية وقد كان لمشاهير الفلاسفة مواقف ناقدة وأحيانا معارضة للديمقراطية. من الأقوال المشهورة والحكيمة لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل (تصنعون من الحمقى قادة .. ثم تسألون من أين يأتي الخراب) وبحكم أن وصول الحمقى لمنصب القيادة في الدول الغربية لا يتم إلا من خلال الانتخابات لذا يستخدم البعض من المفكرين مقولة تشرشل تلك في نقد (ديمقراطية الانتخابات). وبسبب الخوف من وصول (الحمقى) لسدة الحكم وكرسي السلطة نجد أن الفيلسوف الإغريقي أفلاطون في كتابة (الجمهورية) جعل من يدير شؤون المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) هم الحكماء أي بعبارة أخرى من يحكم هم الفلاسفة الملوك الذي يتبادلون السلطة بينهم ولا وجود للانتخابات في تحديد هذا المنصب الخطير. بحكم أن طبيعة ديمقراطية مدينة أثينا (الديمقراطية الأثينية) وهي أقدم أشكال الديمقراطية وفيها كان يشارك المواطنون بشكل مباشر في اتخاذ القرارات السياسية لذا نجد أنه وفق وجهة نظر أفلاطون فإن الديمقراطية في هذه الحال سوف تكون نظاما سياسيا يديره بعض الحمقى. وإذا تركت إدارة شؤون الحكم للشعب بشكل مباشر فذلك سيؤدي لخلل كبير في الدولة لأن الشعب لا يعرف ماذا يفعل على وجه الحقيقة ولهذا يستحضر البعض مرة أخرى مقولة مشهورة وحكيمة لتشرشل حيث قال (أفضل حجة ضد الديمقراطية هي محادثة مدتها خمس دقائق مع ناخب عادي).

وبالجملة مقصود أفلاطون وتشرشل من نقد الديمقراطية أن العديد من الناخبين تنقصهم الخبرة والفهم الصحيح بتعقيدات القضايا السياسية مما يؤثر في اتخاذهم لقرارات قد لا تتوافق في الحقيقة مع مصالحهم بسبب احتمالية التلاعب بمشاعرهم وأفكارهم من قبل رجال السياسية (الشعبويين). ومن هنا يقول البعض إن الديمقراطية بالنسبة لأفلاطون كانت اختراعا فاشلا دمر الحكم الصالح من خلال استرضاء الشعب وأن الديمقراطية قد تؤدي لتكوين حكومة مزيفة !!. وربما يستغرب البعض منا اليوم أفكار أفلاطون المعارضة للديمقراطية (وكذلك أفكاره ضد النساء) والتي بثها في كتاب يحمل اسم (الجمهورية) حيث صرح بأن الديمقراطية تشكل خطرا بسبب الحرية المفرطة والأغرب من ذلك أفلاطون كان مقتنعا بأن من أخطار الديمقراطية أنها تسهل للديكتاتوريين والطغاة و (الديماغوجيين) الوصول للسلطة.

وتلك الكلمة الغريبة التي استخدمها أفلاطون وهي (الديماغوجيين) أو الديماغوجي Demagogue هي كلمة إغريقية تعني حرفيا الزعيم الشعبي ولهذا يعربها البعض بكلمة الزعيم (الدهماوي) أي الذي يتلاعب بالدهماء والغوغاء من الشعب. وهذا يقودنا لمفهوم ومصطلح القائد السياسي الشعبوي populist وظاهرة الشعبوية (populism) وبهذا نحن ننتقل من الديمقراطية اليونانية (الأثينية) القديمة إلى الديمقراطية البرلمانية الانتخابية المعاصرة. والزعيم الغوغائي الشعبوي هو زعيم سياسي في نظام ديمقراطي يكتسب شعبيته من فن الخطابة (مثل هتلر وموسوليني) أو من خلال التركيز على التأثير العاطفي والمبالغة في الإثارة والتشهير بالخصوم ودغدغت المشاعر القومية (ترامب نموذجا). ومن هذا المزيج السام وهو اعتماد الديمقراطية البرلمانية على الناخبين الذين يكثر فيهم قلة الخبرة والحنكة وهشاشة التفكير مع وجود زعماء شعبويين يتلاعبون بعواطف وعقول (الجماهير) وعليه من هذا المزيج يمكن أن نجد شعوبا متحضرة تنقاد بكل سهولة وتخدع بكل سذاجة لانتخاب رؤساء دول غاية في السوء.

وكما ظهر في عام 2016م مع الانتخاب للمرة الأولى للرئيس ترامب كتاب (ضد الانتخاب) السالف الذكر فلا عجب أن تظهر كتب عديدة تربط بين ترامب وبين ظاهرة الشعبوية ولهذا صدر في عام 2017م للباحث الأمريكي ستيفن روزفيلد كتابا يحمل على غلافه صورة الظل للرئيس الأمريكي ترامب بينما كان عنوان ذلك الكتاب (أمريكا الشعوبية في عهد ترامب). ثم في نهاية الفترة الأولى لحكم ترامب أي في عام 2020م صدر كتاب (دونالد ترامب والشعوبية الأمريكية) من تأليف ريتشارد كونلي أستاذ العلوم السياسية بجامعة فلوريدا.

كلمة أخيرة قبل أن نغادر وهي أن العديد من الأشخاص وأنا منهم صدموا بتقهقر الديمقراطية في السياسة المعاصرة الأمريكية حيث إننا كنا نتوقع أن المنظومة الديمقراطية في الغرب راسخة ومتجذرة وإذا بها وبالذات في أمريكا هي بالفعل على مفترق الطرق كما هو عنوان كتاب فرانسيس فوكوياما الذي توقع قبل حوالي ثلاثة عقود فقط أن التاريخ السياسي وصل لنهايته بتسلم الرجل الأخير الأبيض زمام الهيمنة على العالم وإذا به في الواقع لا يحكم ولا يهيمن حتى على اللعبة السياسية المحلية في بيته الداخلي. وها نحن ذا نشاهد الرئيس الأمريكي وهو في يوم ميلاده يحاول لملمة القلاقل الأخيرة التي أفتعلها بالتصادم مع أكبر ولاية أمريكية من ناحية الاقتصاد (ولاية كاليفورنيا) وبالتهارش مع أكبر رجل أعمال ومستثمر في العالم (إيلون ماسك) وبالتضييق والتحرش بأعرق وأهم جامعة في العالم (جامعة هارفرد).




 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق