الجمعة، 1 أبريل 2022

( القطيعة مع وسائل التواصل الاجتماعي )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الإدمان كلمة سيئة السمعة، ومع الأسف قد يكون لها حالات وأصناف متعددة قد نقع في حبال بعضها دون أن نشعر فالإدمان ليس فقط مرتبط بتعاطي المخدرات. من الحالات المشهورة لبعض صور الإدمان صعوبة الإقلاع عن التدخين ومن الطرائف في هذا الشأن مقولة الأديب الأمريكي مارك توين (الإقلاع عن التدخين أمر سهل .. لقد قمت بذلك مئة مرة !!). وهنا تكمن مشكلة الإدمان على شيء ما تظن بأنك قادر على هجرة أو التقليل من استخدامه أو تعاطيه بينما في الواقع أنت لا تملك (الإرادة) الجازمة لذلك ولهذا ينقل عن الزعيم الروحي الهندي مهاتما غاندي (القوة لا تأتي من القدرة البدنية وإنما من الإرادة التي لا تقهر).

من صور الإدمان الحديثة شدة التعلق والتواصل المستمر مع أجهزة الهواتف الذكية أو الدخول على مواقع التواصل الاجتماعي لدرجة أن بعض الأشخاص مصابون بما يعرف في مجال علم النفس بمرض (النوموفوبيا Nomophobia) وهو رهاب فقدان الهاتف المحمول. للأسف الشديد تتزايد بيننا مع الزمن شدة التعلق بالهاتف الجوال لدرجة أن البعض قد يصاب بالهلع الشديد لمجرد توهمه أنه أضاع جواله أو أنه نسيه في المنزل أو يفزع بمجرد وجوده في منطقة هي خارج نطاق بث شبكة الإنترنت لهاتفة الذكي. وهذا ينعكس على التصرفات السلوكية الغربية مثل الحرص دائما على حمل شاحن الجوال أو تكرار تفقد رسائل الجوال و مواقع التواصل الاجتماعي أو الأغرب من ذلك تكرار لمس الجوال لمجرد الشعور بالطمأنينة بقرب الحبيب القريب من الكف والقريب من العين والقلب.

وفقا لأحدث الإحصائيات من الولايات المتحدة عن مدة استخدام الهواتف الذكية يعتقد بأن الغالبية من الأشخاص يستخدمون الهواتف المحمولة لمدة تزيد عن خمس ساعات يوميا أغلبها في استخدام تطبيقات الهاتف الجوال والمصيبة الكبرى أن الإحصائيات تشير أن بعض شرائح المراهقين قد يقضون على جولاتهم أكثر من 12 ساعة باليوم. من الشائع تسمية جهاز الهاتف (بالهاتف المحمول) وهذا توصيف حرفي لواقع حالنا مع الجوال فهو تقريبا دائم في أيدينا فوفق تقديرات شركة أبل للهواتف الذكية يقوم مستخدمو الهاتف المحمولة بتكرار تفقد والتحقق (التشييك) من رسائل جوالاتهم مرة كل حوالي 11 دقيقة بمعنى أننا ننظر لشاشة الجوال حوالي ثمانين مرة في اليوم الواحد. ووفق دراسة لشركة بحثية متخصصة في الاستبانات والاستقراءات يتوقع بأن الشخص العادي يقوم بلمس أو النقر على شاشة الجوال للكتابة أو التصفح حوالي 2617 مرة في اليوم وهذا العدد الضخم في النقر على شاشة الهاتف راجع لاستخدام الجوال في تبادل المحادثة بالرسائل النصية بل وحتى إرسال الإيميلات. من الطرائف والغرائب أن للبعض توصيف الهاتف (بالمحمول) ينطبق حتى في النوم ففي دراسة استقرائية أخرى تشير الأرقام إلى أن حوالي 80% من جيل الشباب ينام والهاتف الجوال بالقرب من مخدته أو على فراشة وأن النصف منهم قد يقوم بتفقد والتشييك على جهاز الهاتف في منتصف الليل.

ما سبق ذكره من أرقام وإحصائيات مفزعة هو في الواقع جزء من الكارثة وكما في المثل الشعبي (ما شفت من البعير إلا أذنه) فلا بد من أن نأخذ في عين الاعتبار أن هذه الساعات الطوال الضائعة في رفقة (شاشة الجوال) يجب أن ينضاف لها كم يقضي الطفل أو الشاب اليافع أو حتى الرجل البالغ من وقت إضافي يوميا وهو ينظر في شاشة الأيباد أو الكمبيوتر أو شاشة التلفزيون.  من هذا وذاك نفهم قلق الآباء والمربين والمهتمين بصحة عيون وعقول ونفسية الكبار والصغار نتيجة لوقوعهم في مشكلة (إدمان الجولات الذكية).

القارئ العزيز عنوان المقال الحالي هو (القطيعة) والانفصال بدل الاتصال مع وسائل التواصل الاجتماعي وهذا ولا شك أمر دونه خرط القتاد كما يقال فحالة الإدمان متجذرة في الروح والبدن. ولهذا بدلا من ذلك سوف نميل للواقعية أكثر ليس فقط لصعوبة الفطام من التعلق بالهاتف الذكي ولكن لأنه بالفعل يصعب الاستغناء عنه فالكثير من مهامنا الإدارية والتعليمية والمالية والمعرفية تتم من خلال جهاز الهاتف المحمول. وعليه سوف يكون من الحكمة أن نحاول التقليل والترشيد في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وحسب استراتيجية مواجهة الصعوبات المبثوثة في كتاب (فن الحرب) للفيلسوف والجنرال الصيني القديم سون تزو سوف نستخدم استراتيجية (الأعمال الكبيرة تتكون من أفعال صغيرة). بمعنى أن هدفا صعبا ومعقدا والمتمثل في التعافي من الإدمان المفرط في استخدام الهواتف الذكية يمكن التوصل له من خلال سلسلة من الخطوات والمراحل الصغيرة المتلاحقة. وعليه تم اقتراح خطة من (سبع نصائح) تساعد على ترشيد التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي وسوف يتم بمشيئة الله وبمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك تدشين حملة خاصة تحمل عنوان (ترشيد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي). هذه الحملة التوعوية والإرشادية من تنظيم لجنة التوعية والإرشاد بكلية العلوم بجامعة الملك سعود وبالتعاون مع الأندية الطلابية في كلية العلوم.

لاحقا بمشيئة الله سوف يتم تحميل الملف الإرشادي الخاص بالحملة على الموقع الإلكتروني لكلية العلوم بجامعة الملك سعود والذي سوف يحتوي على مزيد تعريف بالنصائح السبعة والتي هي:

·       تقوية العلاقات الاجتماعية الحقيقية بدل الصداقة مع الغرباء عبر الإنترنت

·       مارس هوايات وألعابا لا يوجد فيها شاشات

·       قلل من عدد التطبيقات على جهازك المحمول

·       الأوقات الفاضلة لا يليق شغلها بتوافه الأمور

·       دع هاتفك يمت أحيانا

·       أهجر الجوال في غرفة النوم

·       تحكم في الزمن مع الجوال

وبالجملة القاعدة الذهبية في التعامل مع وسائل التقنية هو التوسط والترشيد الفطن بين (التفريط) المتمثل في القطيعة المعرفية والردة التقنية بالهجر التام لهذه المخترعات التقنية وبين (الإفراط) من خلال الإدمان والاعتماد الكلي عليها والاندلاع التعلق الوجداني والجسدي بهذه المخترعات.

وفي الختام ومع إقبال الشهر الكريم نود أن نؤكد على النصيحة الرابعة بالأعلى (الأوقات الفاضلة لا يليق شغلها بتوافه الأمور) ويبدو أننا بحاجة إلى أخذ العهود والمواثيق ألا نتجاوز الحد في استخدام تقنية الجولات الذكية. كلنا نعلم ما يسمى (قسم أبوقراط) والمقصود منه الالتزام الأخلاقي الأول من قبل الأطباء: ألا يتسببون في أي ضرر للمريض (First, do no harm). وفي العصر الحديث وبعد تعدد أنواع التقنية والمخترعات التي يمكن أن تسبب الضرر للبشرية أخذ بعد العلماء والمفكرين يطرحون فكرة (قسم أرخميدس Archimedes Oath) وهو أن يتعهد ويقسم العلماء ألا يساهمون في اختراع أي شي مؤذ وضار. وأكثر المجالات التقنية التي تشهد دعوات لتفعيل هذا اليمين و(القسم العلمي) هو مجال تقنية المعلومات ومجال الذكاء الصناعي. فكرة التعهد والحلفان العلمي من قبل المخترعين والباحثين ألا يضرون الغير في مجال الإنترنت وتقنية المعلومات ويمكن أن نوسع هذا المفهوم بأن نقسم ونتعهد ألا نضر أنفسنا في هذا الشهر الكريم. وعليه دعوتنا للجميع أن يكون (قسم رمضان): أحلف وأتعهد ألا استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لأكثر من ساعة في شهر رمضان وفقط لما فيه الفائدة وبعيدا عن الإثم والسفه.


( زيارة المتاحف .. فرض عين على كل سائح !! )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في تصريح عجيب للرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف قال (إذا كان الناس لا يحبون الماركسية، فعليهم إلقاء اللوم على المتحف البريطاني) وهذا يعكس الأثر الفكري الذي تلعبه المتاحف في تشكيل الحس الحضاري والوعي الفكري لأفراد والمجتمعات على حد سواء. والأهم من ذلك أن عددا كبيرا من المتاحف العالمية المشهورة نجد أن تأثيرها الساحر ذاك ليس فقط على شعب نفس البلد الذي توجد فيه، ولكن على كل من يمر ويطوف بها من سياح وزوار شعوب العالم وكثيرٌ ما هم، فهذا متحف اللوفر في باريس يدخله سنويا أكثر من تسعة ملايين شخص بينما المتحف البريطاني يمر به سنويا حوالي سبعة ملايين زائر.

بالمناسبة إذا كان المتحف البريطاني اللندني ينفر ويمنع من قبول الماركسية فإن متحف اللوفر الباريسي قد يغري بالشيوعية بمعنى (شيوع المشاركة) فهذا المتحف بالذات هو أول متحف في التاريخ يفتح أبوابه للعامة من الناس وحصل ذلك بعد اندلاع الثورة الفرنسية ذات الشعار البراق (حرية، إخاء، مساواة). وقد كان من باب المساواة ألا تحتفظ الطبقة المخملية من المجتمع بالحق الحصري من دون الشعب بدخول (قصر اللوفر) الذي كان يقيم فيه الإمبراطور لويس الرابع عشر قبل أن ينتقل للإقامة في قصر فرساي ويحول قصره القديم لمتحف (خاص) يعرض فيه على عليه القوم ونبلاء المجتمع مجموعته الملكية من التحف واللوحات والقطع الفنية الباذخة. في عام 1793م أي بعد حوالي أربع سنوات من اندلاع الثورة الفرنسية مُنح الجمهور الفرنسي إمكانية الدخول المجاني إلى متحف اللوفر كعلامة على السيادة الشعبية وربما ترددت بشكل أو آخر في جنبات هذ المتحف مقولة آخر وزير مالية فرنسي في العهد الملكي السيد رينية دي فوير: دعه يعمل (دعه يمر) وهي عين المقولة التي سوف تصبح لاحقا شعارا للرأسمالية.

يقال إن في مدينة باريس حوالي 136 متحفا ذات مشارب مختلفة من ناحية المقتنيات وفلسفة ورسالة تلك المعارض وتشير التقديرات أن عدد مجموع زوار هذه المتاحف الباريسية يزيد عن ثلاثين مليون زائر سنويا. إذا علمنا أن باريس مدينة الأنوار وبؤرة الرومانسية وعاصمة العطور والموضة يتردد على معالمها السياحية المختلفة المفتوحة والمجانية حوالي سبعين مليون سائح سنويا بهذا نعلم أن شريحة كبيرة من زوار تلك المدينة لديهم الاستعداد لدفع تذاكر الدخول الباهظة والانتظار ربما لحوالي الساعة في طابور الانتظار قبل التمكن من الدخول لمتحف اللوفر مثلا. وبهذا نعلم أن (سياحة المتاحف) هي مظهر يدل على الرقي الفكري والوعي الحضاري يمارسه مئات الملايين على مستوى العالم ومن جميع الشعوب البشرية.

للأسف واقع (سياحة المتاحف) في عالمنا العربي في جانب منه غامض وفي جانب آخر محبط ومخيب للآمال. سبب الغموض أن تلك المتاحف العربية التي قد تشهد إقبالا كبيرا من الزوار هي في الحقيقة تقع في بلدان تحظى بكثافة عالية من السياح الأجانب ولهذا في الغالب من يتردد على هذه المتاحف هو السائح الأجنبي وليس السائح العربي. على سبيل المثال تحتوي مدينة القاهرة على حوالي 24 متحفا نصيبها جميعا من الزوار حوالي خمسة ملايين زائر حصة المتحف المصري (الفرعوني) منها حوالي مليون زائر. المحرج في الأمر (المتحف المصري) في مدينة تورينو الصغيرة نسبيا في إيطاليا ربما يستطيع أن يحقق تقريبا نصف عدد السياح والزوار المتيمين بالحضارة الفرعونية الذين يزورنها في متحفها الأصلي الشهير في ميدان التحرير بقلب مدينة القاهرة.

في العام الأول لافتتاح المتحف المدهش (متحف اللوفر أبو ظبي) بلغ عدد الزوار له أكثر من مليون زائر، ولكن إذا استثنينا العدد الهائل من مجاميع رحلات المدارس فإن عدد الزوار العرب لهذا المتحف تعتبر منخفضة بشكل ملحوظ مقارنة بالزوار من الجنسيات الأجنبية. حال كتابتي لهذا المقال كنت في زيارة قبل يوم واحد فقط لمتحف اللوفر أبو ظبي العالمي وللأسف عدد الزوار الخليجين والعرب الذين شاهدتهم كان قليلا جدا وربما ينطبق هنا المثل العربي القديم: أزهد الناس بالعالم (وفي رواية بالمتحف) أهلة وذووه. ونفس الأمر تكرر بعد ذلك بيومين في مدينة الشارقة ففي الوقت الذي زرت فيه متحف الحضارة الإسلامية بالشارقة لم أجد مهتما بزيارته إلا عدد من السوّاح الأوروبيين وبالفعل كنت أنا وأسرتي بين أفراد ذلك الوفد السياحي الأجنبي كما قال المتنبي: غريب الوجه واليد واللسانِ. وقد حصل وأن ترددت كثيرا على المتحف الوطني بالرياض وعدد زواره قليل جدا والغريب أنك تشاهد عددا لا بأس من الأجانب يترددون عليه لمحاولة اكتساب معرفة ثقافية عن البلد الذي يعملون به.

 

المتاحف من الذاكرة إلى الترفيه

بالجملة الأهداف الأساسية لأي متحف هي: توثيق الذاكرة الجمعية (حفظ التراث) ومن ثم التعليم وأخيرا الترفيه والتسلية ولا يخفى على أي زائر لأي متحف أن الهدف الأخير (التسلية والترفيه) هو الدافع الرئيسي لأغلب المتطوفين حاليا بالمتاحف. ولهذا على مستوى العالم تعتبر منافسة وسائل التسلية المتعددة هي من أكثر التحديات التي تواجهها المتاحف و(تسرق) منها زوارها وروادها ومن هذا المنطلق تغيرت استراتيجية القائمين على المتاحف بأن تصبح نقطة ترفيه وتسلية ومتعة جمالية وبصرية. حسب توصيف الدكتور عبد الله الغذامي نحن الآن في عصر الثقافة البصرية ولهذا يطغي الاتصال البصري على التواصل المعرفي وعليه لا ملامة على السائح أن يكتفي بالتقاط صورة خارج متحف مذهل مثل متحف المستقبل في دبي وإن لم يدخله كما يكتفي بالتقاط صورة له أمام برج دبي ولو لم يصعد إلى قمته فالصورة بحد ذاتها متعة وترفيه.

في العديد من المدن العالمية الكبرى توجد بها ظاهرة (مجمع المتاحف) وهو وجود حشد كبير للمتاحف المتقاربة في نفس الموقع الجغرافي وهذا ما شاهدته بشكل جلي في مجمع المتاحف في قلب العاصمة الماليزية كولالمبور (الحزام السياحي في بيردانا) أو مجمع المتاحف (متاحف كارتييه) في وسط مدينة فيينا النمساوية وبالتحديد في الحي السابع. نفس هذه الظاهرة الثقافية نجدها في مجمع المتاحف في وسط مدينة واشنطن وهي الناحية التي تسمى: المنتزه الوطني The National Mall وهي تلك المنطقة المستطيلة الواقعة ما بين مكتبة الكونجرس ونصب لنكولن التذكاري والمزدحمة بالمتاحف المحصورة بين طريق وجادة الاستقلال وجادة الدستور. هذه المنطقة الغنية بالمتاحف تعرف اختصارا (بالمول) وهنا تكمن المفارقة فعندنا لا نعرف من (المول) إلا أنه المجمع التجاري الضخم وعندما نسأل ونفتش عن (المجمعات) فنحن نسأل أين يقع (مجمع المطاعم) وفي الغالب للأسف لن يحصل أننا سوف نسأل يوما ما أين يقع (مجمع المتاحف).

في السابق كان إنشاء والعناية بقطاع المتاحف شبه منحصر في حقيقة أن عدد وتنوع وجودة المتاحف هي مرآة ومقياس لمدى التقدم الحضاري للشعوب والدول. وبحكم أن سياحة المتاحف والسياحة الثقافية بالمجمل أصبحت من الروافد المعتبرة في دعم الاقتصاد السياحي وهو سوق ضخم تشير التوقعات أنه على مستوى العالم قد يقترب دخل السياحة من رقم مهول جدا يبلغ الثمانية ترليون دولار. ولهذا أصبح التوسع في (سوق المتاحف) الدافع والمشجع للاستثمار فيه حقيقة أن السائح المثقف يصرف وينفق أكثر من 60% مقارنة بالسائح التقليدي. ومما سبق ندرك جزئيا دوافع حماس وتنافس الدول الخليجية في الفترة الأخيرة لافتتاح عدد من كبرى مشاريع المتاحف العالمية من الطراز الأول فقبل أسابيع قليلة تم في مدينة دبي افتتاح (متحف المستقبل) الذي يقال إنه أجمل مبنى في العالم. وبعد أن لفتت الأنظار مدينة أبو ظبي باستقطاب الفرع الوحيد لمتحف اللوفر العريق إذا بها اليوم تشرع في المنطقة المواجه لمتحف اللوفر في بناء أضخم وأكبر متحف في العالم وهو متحف جوجنهايم أبو ظبي الحديث وهو الفرع الثالث لسلسلة متاحف جوجنهابم البارزة في مجال الفنون الحديثة والمعاصرة والموجودة في مدينة نيويورك وفي مدينة بلباو الإسبانية. 

أما في واقعنا المحلي فقد أعلن قبل فترة من الزمن عن التصور الأولي لإنشاء أكبر متحف في العالم مخصص للحضارة الإسلامية كما تم قريبا تدشين هيئة خاصة للمتاحف من برامجها تطوير المتاحف الموجودة حاليا واستحداث عدد من المتاحف الجديدة في مختلف مناطق المملكة. ونسأل المولى عز وجل أن يتم قريبا تفعيل هذه الخطط التطويرية لقطاع المتاحف في مدننا المحلية وألا يطول الانتظار والترقب كما حصل معي في زيارة متحف الفن الإسلامي في القاهرة فقد ترددت عليه ثلاث مرات في سنوات مختلفة وكان دائما مغلق بهدف التطوير والصيانة إلى أن تمكنت من دخوله في المحاولة الرابعة. ونفس الأمر حصل مع متحف اللوفر في أبو ظبي فمروري محدود على هذه المدينة الواعدة وفي آخر زيارتين لمدينة أبو ظبي كنت أتابع هل تم الافتتاح له أو لا حتى حظيت بفرصة الدخل له قبل أيام.

 


( الغرب .. إذا خاصم فجر )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بعد قرون طويلة في دياجير العصور الوسطى المظلة خرج العالم الغربي والشعوب المسيحية من أغلال التخلف والجهل والطغيان وتدرج تقدمه من عصر النهضة في القرن الخامس عشر إلى عصر الأنوار في القرن الثامن عشر إلى عصر العقل في القرن التاسع عشر الميلادي. ومسلحين بالثورة العلمية والثورة الصناعية وحملات الاستكشاف الجغرافية شعر ملوك وفلاسفة وأدباء العالم الأوروبي أنهم أسياد العالم ومنقذوه وأن عليهم التصدي لمهمة (عبء الرجل الأبيض White Man Burden) بأن يستعمروا ويحتلوا بقية الشعوب والحضارات (الهمجية) والقيام بعد ذلك بدورهم الأخلاقي في نشر الحضارة والنظام في هذه الأمم المتخلفة.

ثم في بداية القرن العشرين أصبحت أخلاقيات الرجل الغربي الأبيض على المحك عندما بدأ التنازع والتنافس يتنامى بين الإمبراطوريات الأوروبية وعندما اندلعت (الحرب العظمى) انكشف زيف النهضة والتنوير والعقل لتلك الحضارة الغربية المادية والملحدة. ونتيجة للفظائع والجرائم المشينة التي قامت بها قوّات وحكومات العالم الغربي في أثناء تلك الحرب العالمية الأولى حاول العديد من المفكرين والعلماء والفلاسفة تفسير تلك (الهمجية) الخبيثة التي وقع فيها الرجل الأبيض.

ومن هنا ظهرت المحاورات المشهورة بين عالم النفس المشهور سيغموند فرويد والعالم الفيزيائي الأكثر شهرة ألبرت أينشتاين لمحاولة تفسير سيكولوجية العنف والتحليل النفسي والتحليل العلمي لسؤال (لماذا الحرب) ولماذا يتحول الرجل المسالم والمتحضر إلى قاتل ذو شخصية شريرة همجية. أما من الناحية الفلسفية لتفسير سلوك العنف والقتال فقد تصدى له الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند راسل الذي نشر في منتصف الحرب العالمية الأولى كتابه المهم في هذا المجال (لماذا يتقاتل الرجال .. طريقة لإلغاء الحروب الدولية). علما بأن برتراند وبالرغم من مكانته وشهرته العالمية في دنيا الفكر والعلم حيث كان من أهم علماء الرياضيات إلا أنه تعرض لمضايقة شديدة بسبب معارضته للحرب لدرجة أن تم سجنه لمدة ستة أشهر كما تم فصله من جامعة كامبريدج.

وعلى نفس النسق دخل عالم الأدب ودنيا الفنون مسار الاحتجاج الأدبي والاعتراض الفني لكارثة (انحطاط الغرب) التي كشفتها ويلات وجرائم الحرب (العظمي) الأوروبية ومنها كان شعار الحركة الثقافية المعرفة باسم (الدادائيةDada ) الذي أطلق أثناء الحرب العالمية الأولى (لقد فقدا الثقة في ثقافتنا .. سنبدأ من جديد بعد أن نمحي كل شيء). ومن تحت عباءة هذه الحركة الثقافية المتمردة خرجت منظومة التيارات العبثية مثل السريالية والتجريدية والحداثة والتفكيكية والبنيوية وغيرها.

هذا ما كان من محاولة التحليل النفسي والتفسير العلمي والنقد الفلسفي لسقوط الغرب أثناء الحرب الكبرى ولكن محاولة تصحيح المسار كانت خجولة بل ومتناقضة. فهذا أبو التحليل النفسي فرويد أشبه ما يكون مصاب بانفصام الشخصية فهو يداوي الناس وهو عليل لأنه مدمن على الكوكائين بينما أينشتاين الذي حاول أن يحد من تكرار العنف والهمجية الذي حصلت في الحرب العالمية الأولى (حرب الكيميائيين) إذا به هو نفسه يحث ويدفع لوصول الحرب العالمية الثانية (حرب الفيزيائيين) إلى أقصى مدى بشع لها بتصنيع القنبلة الذرية. أما عالم الرياضيات برتراند راسل فقد أخطأ في الحساب حيث نشر الإلحاد بكتابة (لماذا أنا لست مسيحيا) فلم يكن يعي ويفهم أن الدين وليس الإلحاد هو من يفعّل الضمير العالمي الحاث لعدم استخدام القنابل الذرية.

من كان منكم بلا خطيئة فليرم الروس بأول حجر

تتعالى هذه الأيام ومع الاجتياح الأثيم والإجرامي للجيش الروسي الأحمر للدولة المستقلة والمسالمة أوكرانيا، تتعالي صيحات الاستنكار والاستهجان الأوروبية والأمريكية بأن هذا الفعل الشنيع مضاد للقانون الدولي وخلاف الأعراف السياسية. ويتناسى قادة الغرب أنهم هم أول من شرّع وسنن الخروج على القانوني الدولي بجرائمهم المتواصلة. فالولايات المتحدة مثلا وفق ما يقرره المؤرخ الأمريكي كريستوفر كيلي في كتابه (غزوات أمريكا) فإنها اعتدت عسكريا وغزت حربيا على 84 دوله بينما لو تم حساب الدول التي شاركت القوات الأمريكية في قتال عسكري فيها (بموافقة تلك الدول) فإنها تصل إلى 191 دولة من دول العالم المعترف بها. بمعنى أن الدول التي لم تدخلها القوات الأمريكية هي ثلاث دول فقط لا يعرف مكانها على الخارطة ولم يسمع بها أحد: أندورا وبوتان وليختنشتاين. أما عدد الدول التي تورطت الولايات المتحدة في محالة تغيير أنظمتها السياسية والإطاحة بحكوماتها المسيطرة وذلك من خلال الاستخبارات الأمريكية التي تمويل الانقلابات العسكرية وتثير القلاقل السياسية والاقتصادية فقد بلغت حوالي خمسين دولة. والعديد من هذه الدول المنكوبة بالتدخل الأمريكي تورطت الاستخبارات والقوات الأميركية في محاولة تغير النظام فيها أكثر من مرة وفي حقب زمنية مختلفة فمثلا تدخلت أمريكا في إسقاط النظام الحاكم في دولة نيكاراجوا في العام 1909م وعام 1912م وعام 1981 ميلادي.  

وبما أن سيرة التدخل السافر للولايات المتحدة في نيكاراجوا انفتحت فهذا مجال مناسب لتوضيح (فجور أمريكا) عندما تخاصم وتعادي غيرها من الدول. في فترة الثمانينات من القرن العشرين أعلنت الولايات المتحدة عن شن حملة كبرى (للحرب على المخدرات) ومع ذلك وكما بينت بالتفصيل في مقال حمل عنوان (أمريكا .. أرض النفاق السياسي) فإن الحكومة الأمريكية تكذب في زعمها الحرب على المخدرات أو الحرب على النازية أو معاداة بؤرة محور الشر الثورة الإيرانية الخومينية. النفاق الأمريكي فيما يخص الحرب على المخدرات ليس فقط استخدامها (كما سوف يحصل لاحقا مع الحرب على الإرهاب) كذريعة وغطاء للتدخل في شؤون بعض الدول المستقلة، ولكن بلغت الوقاحة والفجور أن الولايات المتحدة كانت من جانب خفي تدعم وتنشر زراعة وتجارة المخدرات في بلدان أخرى كما حصل في نيكاراجوا. وكمحاولة من الاستخبارات الأمريكية CIA لإسقاط الحكومة الشيوعية في نيكاراجوا لهذا سمحت بزراعة وتجارة المخدرات في المناطق التي تحت سيطرة قوات الكونترا المدعومة من أمريكا. الفضيحة الكبرى أنه تم استخدام القواعد الجوية العسكرية الأمريكية وسلاح الجو الأمريكي في نقل وتهريب المخدرات إلى داخل أمريكا لبيعها وتحويل النقود القذرة للمخدرات إلى أسلحة ترسل لقوات الكونترا المعارضة.

في زمن الخصام والقتال لن يتردد الغرب وبالذات القوات الأمريكية عن اقتراف أي خطيئة بقتل البشر أو تدمير البنية التحتية بل وحتى (تجريف البيئة) وهذا ما حصل في الحرب الفيتنامية السيئة الذكر لسمعة أمريكا أمام العالم. بحكم أن جغرافية دولة فيتنام يغلب عليها الغابات الكثيفة ولهذا كان جنود المقاومة المسلحة الفيتنامية الفيتكونغ يتمتعون بحماية غطاء الأشجار ويستطيعون مفاجأة القوات الأمريكية. ولهذا كان الحل الأثيم من قبل جنرالات الجيش الأمريكي أن تتم عملية إزالة تلك الغابات deforestation إما باستخدام مواد كيميائية سامة ومبيدة مثل تلك المادة الشنيعة المسماة (العامل البرتقالي) أو استخدام نيران (النابالم) المريعة. وكما تضافرت جهود فرويد وأينشتاين لمحاولة تفسير جرائم وفظائع الحرب العالمية الأولى نجد أن الفيلسوف البريطاني برتراند راسل والمفكر الفرنسي جان بول سارتر اجتمعت جهودهما مع آخرين لتدشين (محكمة الضمير) للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في دولة فيتنام.

وبالرغم من أن أمريكا خرجت مدانة تلك المحكمة وكل مدان مصيره التوقيف والخضوع للقانون إلا أن السلوك المتعجرف للحكومة الأمريكية حولها من المجرم المدان إلى (رجل شرطة العالم) وهذا ما انعكس بوضوح في العقود القريبة الماضية عندما شنت الولايات المتحدة (الحرب على الإرهاب). وهنا توالت الاختراقات الفجة من قبل الأمريكان للقانون الدولي من بدعة (الحرب الاستباقية) والتكييف القانون المخادع وغير القانوني للمعتقلين في سجن غوانتنانامو السيئ الذكر.

هذه الأيام وأنا أتابع تطورات الحرب الروسية الأوكرانية صعقت عندما علمت بأن العديد من الحكومات الغربية وكمحاولة للتصدي وإضعاف روسيا الاتحادية بعد هجومها الغاشم والأثيم على ذلك البلد المنكوب، قامت تلك الدول بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا. قد يكون من المفهوم فرض عقوبات مالية على رجال الأعمال الروس المتعاملين مع الحكومة الروسية أما أن يصل الأمر لدرجة تجميد أرصدة بعض رجال الأعمال بل وحتى مصادرة أموالهم وممتلكاتهم بما فيها اليخوت الفاخرة والطائرات الخاصة والشقق والعقارات الفخمة فهذه بلطجة دولية غير مسبوقة. في بداية الأمر تشككت من احتمالية صحة هذه الأخبار لأنه يفترض ألا تتم المصادرة إلا بحكم قضائي كما هو المتوقع من (سيادة القانون) في تلك الدول المتقدمة والديمقراطية (زعموا) إلا أنني انتبهت أنه بعد كل ما سبق ذكره فأنه في زمن (الخصام) فإن الغرب بالفعل هو من النوع الذي (إذا خاصم فجر).


( السياحة وساحات المعارك )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الأحداث الأخيرة في دولة أوكرانيا تثير الغضب وتولد الحسرة، والشعور الأول ناتج من الرفض القاطع للاعتداء الروسي السافر على شعب مسالم أما إحساس الحسرة فبسبب فقدان وجهة سياحية مميزة أصبح من المحظور السفر لها بسبب الحرب. في صيف العام الماضي قامت صحيفة سبق الإلكترونية بإجراء استقراء لأكثر المناطق السياحية التي يسافر لها السائح السعودي وقد حصلت أوكرانيا على موقع متقدم في قائمة أكثر خمس وجهات سفر خارجية. وبالرغم من أن خيارات السفر (مفتوحة) أمام السائح السعودي حيث يمكن مثلا السفر إلى حوالي ستين دولة حول العالم بدون الحصول على تأشيرة فيزا مسبقة، إلا أن فقدان بعض الوجهات السياحية المميزة مثل أوكرانيا تعتبر خسارة مؤلمة لعشاق السياحة والسفر. الجدير بالذكر أن مرارة الحرمان من السفر لبعض الوجهات السياحية بسبب تحولها إلى ساحة قتال ومعركة حرب أمر قديم ومتكرر للأسف في تاريخ السائح السعودي. ظاهرة (السفر بهدف المتعة والسياحة) ظاهرة حديثة نسبيا في ثقافة المجتمع السعودي وتقريبا لم تظهر وتنتشر إلا بعد حصول طفرة النفط في بداية سنوات السبعينات من القرن الماضي. وصحيح أن التواصل بين أهل الحجاز وأم الدنيا في الديار المصرية قديم وعريق لكن ربما كان أول بلد عربي سافر له السائح السعودي بهدف السياحة المحضة هو بلد (سويسرا الشرق) وأقصد بذلك أرض لبنان.

في تاريخ الحركة الثقافية بالمملكة كان من أشهر رواد (أدب الرحلات) علاّمة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر وكذلك الأديب المعروف الشيخ عبد الله بن إدريس. وبالرغم أن كلا منهما قد حمل (عصا التسيار) حسب وصف ابن إدريس وطاف عشرات البلدان إلا أنهما كثيرا ما كان يجمعهما قضاء الصيف في لبنان حيث كانا يسافران بزوجاتهم وأبنائهم ويتزاورون في بيروت خصوصا بعد أن أقام فيها بشكل متواصل الشيخ حمد الجاسر لعدة سنوات. وطبعا الأمر تغير بشكل جذري بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية والتي اكتوى بنارها الشيخ حمد الجاسر. فقد تم نهب شقته المطلة على ساحة البرج وحرقت مكتبته بما فيها من مخطوطات نادرة بينما قتل ابنه الأكبر محمد رحمة الله الذي توفي في حادثة قصف الطائرة التي كانت تستعد للهبوط في مطار بيروت.

والمقصود أن السائح السعودي والخليجي ظل لسنوات طويلة يفضل السفر إلى لبنان حتى حصلت الكارثة المعروفة عندما اشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات وحرم العرب لسنوات طويلة من السفر إلى لبنان. وعلى ذكر السائح الخليجي فقد كان بحكم الجوار أحد أكثر المزارات السياحية لأهل الكويت وأهل المنطقة الشرقية السفر إلى المدن العراقية وخصوصا البصرة وبغداد والزبير. ثم حصلت مصيبة غزو الكويت فتم شطب المدن العراقية من قائمة الوجهات السياحية بعد أن تحولت أرض العراق إلى ميدان حرب وأرض حصار بعد حرب الخليج الثانية. وإذا كان العلامة حمد الجاسر كان أشهر أدباء المملكة المقيمين في لبنان فمن أشهر من أقام من أدباء الجزيرة العربية في العراق الروائي البارز عبد الرحمن منيف والذي وإن تعدد به المطاف والسفر بين الدول العربية في مطلع حياته إلا أنه استقر به المقام لسنوات طويلة في بغداد حيث عمل كرئيس تحرير لمجلة اقتصادية عراقية (بحكم حصوله على شهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد) حتى عام 1981ميلادي.

وبالعودة لموضوع حيرة وتحسر السائح السعودي من خسارته لوجهات سياحية تحولت إلى جبهات قتال وحروب من نافلة القول التذكير بانقطاع السفر إلى البلدان العربية الشقيقة التي عاشت ويلات الحرب مثل سوريا العروبة واليمن الحزين مهد العرب. ويكفي للإشارة لمدى الزخم السابق لسفر السعوديين إلى سوريا الطبيعة والتاريخ أنه وفقا لإحصاءات وزارة السياحة السورية أنه في شهر يوليو من صيف عام 2008م وصل حوالي سبعين ألف سائح سعودي إلى سوريا. وفي نفس تلك الفترة كان يتدفق عشرات الآلاف من السعوديين إلى المدن التاريخية في اليمن السعيد مثل صنعاء وعدن وتعز وإب. وحاليا بسبب الحرب لم يعد السائح العربي يستطيع السفر لمدينة تدمر السورية لأن آثارها الرومانية تم تدميرها كما لا يستطيع الوصول لسد مأرب لأن قوافل الجيوش تسد الطريق بينما لو حاول السائح العربي صيد الغزلان في محمية الردوم بمنطقة دارفور بالسودان الشقيق فربما يتم قنصه وصيده هو بدلا من الوعول.

وبما إن سيرة السياحة الإفريقية انفتحت فقد شهدت السنوات القليلة الماضية تزايد كبير في عدد السياح الخليجيين الذين يقصدون زيارة إثيوبيا إما بهدف زيارة براكين منطقة عفار أو مشاهدة الكنائس التاريخية المحفورة تحت الأرض أو حتى تفقد أحوال الجالية المسلمة الحبشية في إقليم عفر وكل هذه المناطق يصعب الوصول لها حاليا مع اندلاع الحرب الأهلية الأثيوبية العام الماضي. وبالانتقال جنوبا إلى دولة كينيا والتي تعتبر حاليا من أهم وأشهر المناطق في العالم لسياحة سفاري الحيوانات البرية إلا أن هذا البلد يشهد في السنوات الأخيرة أحداث شغب متكررة والعديد من التفجيرات التي تقول بها حركة الشباب الصومالية ولهذا لو انزلق هذا البلد في حرب أهلية هو الآخر فقطعا سوف يخسر محبي السفر أحد أهم الوجهات السياحية الساحرة.

سياحة الحروب في ثقافة الشعوب

الجدير بالذكر أن الحيلولة دون وصول السائح إلى جهة سفرة المفضلة بسبب الحرب أمر شائع ومتكرر في تاريخ العديد من الشعوب العالمية فمثلا في زمن الإمبراطورية البريطانية كانت منطقة وادي كشمير في شمال القارة الهندية يلقبها الإنجليزي بسويسرا الهند.  ومنذ القدم كانت توصف أرض كشمير بأنها جنة الله في الأرض أو الجنة الصغيرة ولهذا بعد اندلاع الحرب حول إقليم كشمير بين الهند وباكستان وتعذر الوصول لهذه الجنة التي أصبحت تلقب (بالفردوس المفقود). وكما فتنت جنة كشمير السائح البريطاني أغرت وفتنت السائح والمغامر الفرنسي بقعة سحرية عجيبة وسط الرمال والملح وهي مدينة تمبكتو الملقبة بجوهرة الصحراء والتي تقع في شمال دولة مالي. ومنذ سقوط دولة مالي تحت الاحتلال الفرنسي نهاية القرن التاسع عشر جذبت هذه المدينة العجيبة السياح والبحاثة والمستشرقين من مختلف الدول الغربية لاستكشاف كنوز مخطوطاتها الضخمة والإعجاب بجمال عمارة مساجدها الطينية المذهلة. وعلى نفس النسق من التصور الغربي لوادي كشمير أنه تمثيل للجنة كذلك نجد أن كلمة (تمبكتو) هي لدى التصور الغربي تجسيدا (للفردوس) أو المكان السحري التي تذهب له الأرواح في العالم الآخر وذلك ما وجدته في رواية (تمبيكتو) للروائي الأمريكي بول أوستر وإن كان صعقت عندما وجدت أن بطل الرواية كلب وأن أحداثها تقع في حي بروكلين.

وبما أننا وصلنا لسواحل الأراضي الأمريكية فمن الجدير الإشارة إلى أن السائح الأمريكي بدوره فقد هو الآخر وجهة سياحية مميزة تعذر عليه لفترة من الزمن السفر إليها بسبب الحرب. قبل اندلاع الحرب الأهلية في جمهورية السلفادور عام 1979م كان ذلك البلد الصغير في وسط أمريكا الوسطى هو إحدى أكثر الوجهات السياحية للأمريكان في القارة اللاتينية ولا ينافسها في ذلك إلا جزيرة كوبا قبل وقوعها في يد الشيوعيين بقيادة فيدل كاسترو. وقد ساعد انتعاش سوق السياحة الأمريكية في السلفادور وكوبا وغيرها من دول أمريكا اللاتينية في طغيان الثقافة الأمريكية على هذه المنتجعات السياحية وبهذا أصبحت وكأنها ملهى ليلي للكاوبوي الأمريكي. ومع ذلك وبسبب حالة الرهاب المبالغ فيها من قبل الأمريكيان من انتشار الشيوعية في الحديقة الخلفية لأمريكا (أي دول أمريكا الوسطى) لم تترد الحكومة الأمريكية في إطالة أمد الحرب الأهلية السلفادورية لمدة 12 سنة وبهذا ضحت الولايات المتحدة برفاهية السائح الأمريكي في جنة الغابات المطيرة تلك مقابل الطمأنينة السياسية للعم سام.

وفي الختام نقفل هذا المقال بذكر ملاحظتين على الهامش، الأولى أنه كما أن رأس المال جبان ينفر من مواقع القتال فكذلك السائح الفطن والعاقل ومع ذلك توجد نوعية خاصة من السوّاح الباحثين عن روح المغامرة وقد تجذبهم أكثر مخاطرة السفر السياحي لساحات القتال. الغريب أن مصطلح (سياحة الحرب war tourism) موجود ومتداول منذ عقود من الزمن ويصف الرغبة الفجة عند بعض البشر في التواجد (كسائح) ومشاهد في ساحات القتال وبالقرب من أرض المعارك. وطبعا الدافع لذلك هو الرغبة في الشعور بالإثارة وحب المغامرة وهو بهذا على نسق مفهوم (سياحة الكوارث) والذي يرتبط بالأشخاص المهووسين بزيارة الأماكن الخطرة مثل البراكين النشطة أو الغابات المحترقة أو مواقع الأعاصير والفيضانات.

ومن حماقات سياحة الحروب أن بعض شركات السياحة والسفر قد تساهم في توفير الحماية المسلحة لبعض السيّاح الراغبين في زيارة المواقع الخطرة مثل الصومال وأفغانستان وكولومبيا. وربما ما زلنا نذكر الضجة الكبرى عام 2004م في عز حالة القتال والفوضى في العراق عندما أعلن عن اختطاف وقتل بعض السياح اليابانيين المغامرين في أرض الرافدين. وصدق أو لا تصدق أيه القارئ العزيز أن الإحصاءات الرسمية الصادرة من الحكومة الأفغانية تشير إلى أن ذلك البلد المنكوب كان يصدر سنويا تأشيرة دخول لحوالي عشرين ألف سائح.

الأمر الآخر الذي أود أن أشير إليه في خاتمة موضوع (ثنائية السياحة والحرب) هو أن ما سبق ذكره كان يركز على ظاهرة أن بعض الوجهات السياحية قد تتحول إلى جبهات حربية بينما قد يحصل العكس من ذلك تماما. بحكم أن نشرات الأخبار كثيرا ما تذكر ساحات المعارك والحروب الأهلية ونتيجة للاستمرار هذه الصرعات لفترة طويلة من الزمن لذا تألف الأذن ذكر أسماء تلك المناطق المنكوبة. وبعد انتهاء موجة الحرب الدموية قد تتحول تلك الجبهات الحربية إلى وجهات سياحية ذات جاذبية ملموسة. وهذا ما نجده في حالة تدفق السياح إلى فيتنام وكمبوديا والبوسنة وروندا وبورما وسيرلنكا وغيرها كثير حيث نجد أن من التقليعات الجديدة لظاهرة (سياحة الحرب) أن يحرص السياح على زيارة مواقع القتال القديمة وأماكن حدوث المجازر البشرية والمقابر الجماعية ومراكز التعذيب وخنادق وملاجأ الحماية. قبل عدة سنوات وعندما زرت مدينة سراييفو وشاهدت وفد سياحي يزور موقع مجزرة بشرية في سوق الخضار بتلك المدينة المنكوبة وعندما وقفت أمام فندق هوليدي إن الذي كان له شهرة في نشرات الأخبار في زمن حرب البلقان لذا كتبت مقال خاص عن هذه الظاهرة حمل عنوان (فندق سياحي على خط النار).


( خطاب إلى وجع الأضراس !! )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في نهاية القرن الثامن عشر نشر الشاعر الإسكتلندي روبرت بيرنز في جريدة نشرة بلفاست الإخبارية قصيدة حملت عنون (خطاب لوجع الأضراس) صب فيها جام غضبه على ذلك الألم الرهيبة الذي عاناه من ذلك الضرس المنخور ولذا خاطبه منذ مطلع القصيدة بقوله: لعنتي على سُمك الواخز الذي يطلق النار على طول لثتي المعذبة ويمزق أعصابي مع ومضة الألم المرير. وفي مقابل هذه الأديب الإسكتلندي الصخّاب اللّعان نجد أن أديبنا الوديع والراقي الأستاذ حمد القاضي ينشر قبل عدة سنوات مقالا طريفا في جريدة الجزيرة حمل عنوان (مرثية ضرس) سطر فيها (رحلة فراق) عاشها مع أحد الأضراس المتورمة في فمه الذي ودعه بعدما خلعه بكل تبجيلٍ وامتنان وخاطبه في مقاله ذلك بوصفه (ضرسي العزيز).

خلال هذه الأسبوع تجددت علي كالعادة معاناة ومصاعب التعايش مع وجع الضرس وألم الأسنان الملتهبة وقد وشوش هذا الضرر الممض صفاء أفكاري فتعثر علي أن أجد موضوعا جديدا لمقالي الأسبوعي. وهنا تذكرت المقولة المشهورة لشاعر العربية الفحل الفرزدق وهو وإن كان يستطيع قول الشعر حتى ولو كأنه ينحته من صخر إلا أنه في بعض الأحيان قد يتعذر عليه تدبيج قصيدة جديدة ولهذا مذكور في كتاب العقد الفريد أن الفرزدق قال (أنا أشعر الناس عند اليأس، وقد يأتي علي الحِين ونزع ضرس عندي أهون من قول بيت شعر). ولكني خلافا للفرزدق ففي وقت اليأس والضيق سوف أجعل معاناتي مع وجع الضرس مجالا لتأكيد صحة مقولة (المعاناة توأم الكتابة) ولذا قد أوظّف الألم والأوجاع في إبداع أفكار مستحدثة وطرح تصورات مستنبطة كما حصل مع المقال المنشور العام الماضي وقت أن شعرت بوخزة إبرة تطعيم لقاح الكورونا فكتبت خاطرة مقـال (إبرة التطعيم وتنشيط الذاكرة).

في الأدب العربي ارتبط الفرزدق بوجع الضرس وفي الأدب الإنجليزي كثيرا ما يتم تداول مقولة ترتبط بالشاعر الإنجليزي البارز اللورد بايرون يرد فيها مقولة (يأتي ألم الأسنان الحقير ليذكرني بأنني بشر فاني). في العصور القديمة لم يكن من المستغرب ربط وجع الأضراس بالموت والفناء بل أنه حتى في العصر الفيكتوري (زمن نشوء الإمبراطورية البريطانية الكبرى قبل حوالي مائتين سنة) كانت عملية خلع الأضراس تعد خامس سبب من مسببات الوفاة. تشير الوثائق الطبية الإنجليزية القديمة أن المريض بألم الأسنان قد يتعرض للوفاة نتيجة للتسمم بكتيري جراء الخراج والورم في السن أو الفك كما إن المريض قد يتعرض للتلوث الجرثومي من أدوات طبيب الأسنان غير المعقمة.

في العادة إذا ذكر عصر الملكة الإنجليزية فيكتوريا ربما يذكر كذلك عصر الملكة الإنجليزية الأكثر شهرة (إليزابيث الأولى) والتي بالمناسبة كان لها قصة وأي قصة مع وجع الضرس. في شتاء عام 1578م عانت تلك الملكة العذراء لمدة أسبوعين من آلام شديدة من تسوس أحد أضراسها والذي منعها حتى من النوم. ونظرا لهلع وخوف الملكة إليزابيث من عملية خلع الأضراس تطوع أسقف مدينة لندن أن يتم أمامها خلع أحد أضراسه السليمة وذلك في محاولة منه لإقناعها أن عملية خلع الأضراس هي أمر يمكن استحماله. وبالمناسبة يقال إن الملكة إليزابيث كانت تعشق مشاهدة المسرحيات وقد انتعش هذا النوع من الأعمال الأدبية في زمن إليزابيث لدرجة أن مسرح عصر النهضة الإنجليزية يسمى أحيانا بالمسرح الإليزابيثي. والمقصود أنه من المحتمل أن تلك الملكة راعية الأدب قد شاهدت وهي عجوز بعض مسرحيات الشاب شكسبير والذي عاصرها وكان من رعاياها. ولهذا هل يمكن أن نخمن أن شكسبير كان يريد أن يجامل تلك الملكة الرعديدة من وجع الأضراس عندما أورد في مسرحيته الهزلية (جعجعة بلا طحن) على لسان أحد شخصيات المسرحية قوله: لأنه لم يكن هناك قط فيلسوف يمكنه بصبر تحمل وجع الأسنان.

يبدو أنه للتعامل مع حالة الهلع والنفور من عملية خلع الأضراس لن نسترشد بالفلاسفة كما لمّح شكسبير، ولكن الأفضل استشارة علماء النفس لمحاولة فهم إدارة الألم وتخطي الضغوط النفسية المرتبطة بوجع الأضراس. وهذا بالفعل ما يقوم بهم قسم علم النفس بالجامعة الأردنية بعمان من طرح مقرر أكاديمي مخصص لطلاب كلية طب الأسنان يحمل اسم (علم النفس لطب الأسنان).

أدب الإحساس بوجع الأضراس

ما سبق سوقه من المعاناة مع ألم الأسنان يقودنا للصورة النمطية المريعة (لطبيب الأسنان) وفزع غالبية البشر من تلك المهنة التي صورتها الذهنية (الكماشة) وصوتها الأزيز الحاد لمبرد الحفر ولهذا لا عجب أن النماذج التي وردت في الأدب عن أطباء الأسنان سيئة وسلبية. منذ المرحلة الجامعية وعندما قرأت لأول مرة قصة (عقرب أفندي) لملك القصة القصيرة العربية الأديب المصري المحبوب يحي حقي، منذ ذلك الوقت لم أجلس قط على كرسي طبيب الأسنان إلا وتذكرت تلك القصة القصيرة البديعة. المحور الأساسي لتلك القصة هي لمعلم اللغة العربية الصارم والعنيف الشيخ عبد الباسط والذي من بغض طلابه له يلمزونه بلقب (عقرب أفندي). وبعد تقاعد ذلك المعلم المرعب ذهب في شيخوخته إلى أحد تلاميذه القدامى الذي أصبح طبيب أسنان وكله رغبه أن يعالجه بالمجان أو يخفض له على الأقل فاتورة العلاج وبالرغم من أنه كان يشكو من مرض بسيط في اللثة إلا أن طبيب الأسنان استغل الفرصة للانتقام العاصف ولهذا هول من خطر وجع الأسنان وقال لمعلمه البائس: لا ينقذك إلا أن تخلع بقية أضراسك وإلا كان هلاكك بالبيوريا قريبا. وعندما استسلم الشيخ المتهالك من خوف الفناء من هذا المرض المزعوم قام طبيب الأسنان اللئيم بخلع جميع أسنانه بدون وضع مخدر كافي وكذلك تعمّد إحداث أكبر قدر من الألم ولهذا تقصّد (أن أقلقل أضراسه وأحركها داخل اللحم الحي قبل أن أقتلعها).

طبيب الأسنان في قصة يحي حقي خلع جميع أضراس مدرسة بسبب الغل والحقد أما طبيب الأسنان في قصة (برنيس) لملك القصة القصيرة الإنجليزية الأديب الأمريكي إدغار ألن بو فهو قد خلع جميع أسنان مريضه، ولكن بدافع الحب هذه المرة. كما هو معرف أغلب القصص القصيرة لإدغار ألن بو تصنف في فئة أدب الرعب ويبدو أن عالم طب الأسنان المفزع ألهم مثل هذه الأعمال الأدبية المرتبطة بخلع الأسنان. في تلك القصة القصيرة يقع طبيب الأسنان ليس فقط في عشق ابنه عمه برنيس التي يتقدم لخطبتها والزواج منها، ولكنه أيضا يقع في مرض وهوس الإعجاب بأسنانها بالذات. ولهذا بعد أن توفيت تلك الشابة فجأة نتيجة إصابتها بمرض غريب دفع وسواس وهوس التملك بطبيب الأسنان الممسوس بأن ينبش قبرها ويخرج جثتها ويقلع جميع أسنانها ويحتفظ بها في علبة صغيرة.

وفي الختام نعود لما بدأنا به فبعد هذه المزاوجة الثنائية بين الأدب العربي والأدب الغربي في علاقتهما بوجع الأضراس ومجال طب الأسنان وبعد أن ذكرنا شواهد من المعاناة مع وجع الضرس بمثال من الشعر الغربي والنثر العربي سوف نعكس السياق ونختم بمقاطع تصف وجع الأسنان مستله من النثر الغربي والشعر العربي.

في العمل الأدبي والفلسفي العميق الذي ألفه الروائي الروسي الكبير دوستويفسكي بعنوان (رسائل من تحت الأرض) يعرض لنا شخصية معقدة ناقش من خلالها أعماق الشخصية البشرية وما يهمنا هنا وصفه لشخصية بطل الرواية المتقلب الفكر والمتذبذب المشاعر. فهو في بداية الأمر عندما يصاب بوجع الضرس يصرح بشكل غريب بقوله (حسناً .. حتى في وجع الأسنان هناك متعة !!) ومع الاستمرار في سرد النص نصل إلى الموضع الذي يتحول فيه الألم إلى عذاب بعد أن يستمر لعدة شهور وهنا يخاطبه الوجع بقوله (أنا أقلقك، أنا أمزق قلبك، أنا أبقي كل من في المنزل مستيقظ. حسنا، ابق أنت أيضا مستيقظا تشعر كل دقيقة بوجع الأسنان).

وأما القصيدة العربية عن وجع الأضراس فهي بالفعل تثبت أنه من المحتمل أن يكون في (وجع الأسنان متعة) كما تفلسف دوستويفسكي وذلك أن شاعر النيل الأديب المصري محمود غنيم عندما عانى لفترة من الزمن مع وجع الأسنان ثم خلع ذلك الضرس كتب فيه قصيدة رثاء حملت عنوان (صاحب آويته) كان منها:

صاحبٌ آويتُهُ خمسين عاماً              ما له في كنفي ملَّ المُقاما

بين فكّي ولساني صُنته                   لم يَلُك إثماً ولم يمضغ حراما

أيها الخلُّ الذي خاصمني                غيرَ مُبقٍ، لستُ آلوك الخصاما

أيُّها الضرس الذي أرّقتني               بعد ما اعتادت جفوني أن تناما

أيها المُنبتُّ عن أقرانه                    بات من بعدك في ذُلِّ اليتامى

بعضةُ غاليةٌ من جسدي                  بيدي وسّدتها أمسِ الرّغاما

دُفنت دون احتفالٍ ومضت              لم يُرق في إثرها الدمعُ سِجاما


( أقاليم منكوبة يخيم عليها شبح الحرب )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 من ناحية سياحية تعتبر المواقع الجغرافية التي تسمى النقاط الحدودية الثلاثية tripoints مكاناً مميزا لأنها الموقع الذي تلتقي به الحدود السياحية لثلاثة دول مختلفة وبهذا يسهل التنقل الجغرافي والسياحي بين كيانات سياسية وحضارية مختلفة وهذا ما ناقشته سابقا في مقال بعنوان (إطلالة دولية من شرفة المنزل) وذلك وقت الزمن الكئيب فترة الحظر المنزلي بسبب وباء الكورونا. في زمن السلم تصبح هذه النقاط الحدودية الثلاثية مواقع ذات بريق لجذب السياح والأموال ولهذا ينعم سكان تلك المناطق برخاء اقتصادي مريح أما من منظور الجغرافيا السياسية وفي ضوء تاريخ صراع الدول والإمبراطوريات فتكون تلك البقاع مكان شؤم وبلاء على السكان المقيمين فيها.

خذ على ذلك مثالا النقطة الحدودية الثلاثية التي تعرف في كتب التاريخ باسم (ركن الإمبراطوريات الثلاثة) وهي تلك الزاوية الحدودية التي كانت قديما تلتقي عندها الإمبراطورية النمساوية والإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الروسية. وبسبب صراع الجبابرة بين تلك الإمبراطوريات المتناحرة لم يكتب الاستقرار والأمان لإقليم الركن الثلاثي وعاصمته الرئيسية مدينة ميسوفيتسه (تقع حاليا جنوب بولندا) حيث عبر التاريخ كثيرا ما تم انتقال ملكيتها لواحدة من تلك الممالك المتصارعة. في بداية الأمر وحتى منتصف القرن السابع عشر كانت أجزاء من تلك المنطقة تقع تحت نفوذ الإمبراطورية النمساوية ثم انتقلت إلى السيطرة الألمانية ومنها بعد سنين إلى حكم الدولة الروسية ثم استقلت لفترة قصيرة بعد الحرب العالمية الأولى لتنضم إلى بولندا ثم عادت مرة أخرى تحت حكم الألمان وأخيرا بعد الهزيمة الساحقة للنظام النازي الألماني رجعت تلك المنطقة للتمتع بمحيطها السياسي والحضاري الأساسي في ظل الدولة البولندية المستقلة.

وفي ضوء هذه القصة الشائكة للشعب البولندي وورطته التاريخية والسياسية بوقوعه في منطقة تنازع بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية الألمانية يمكن أن نستوعب حاليا ورطة الشعب والدولة الأوكرانية في وجودها في موقع نزاع وتنافس مستمر بين الدول الكبرى والكيانات السياسية العظمى. منذ قرون طويلة والأراضي الأوكرانية محل نزاع وتنافس بين القوى الدولية المسيطرة في تلك المنطقة وخصوصا الممالك الروسية والعثمانية والبولندية. في عام 2014م استطاعت روسيا أن تنتزع شبه جزيرة القرم (الإقليم الجنوبي من الأراضي الأوكرانية) بسهولة وبدون ضجة كبرى وهذا خلاف ما حصل قبل قرن ونصف من الزمن عندما حصلت (حرب القرم الأولى) والتي نشبت عام 1853م وكانت أشبه بحرب عالمية مصغرة إذا اشترك فيها الدول والممالك الكبرى في ذلك العصر ألا وهي الإمبراطورية الروسية من جهة وفي الجهة المقابلة كانت قوات الحلفاء مشكلة من الدولة العثمانية والممالك الأوروبية البريطانية والفرنسية والإيطالية. علما بأن شبه جزيرة القرم كانت لقرون طويلة تحت حكم الخلافة العثمانية حيث كان اسم عاصمة ذلك الإقليم المسلم (واق مسجد) أي المسجد الأبيض. ونظرا لأهميتها الجغرافية القصوى في السيطرة على البحر الأسود انتزعتها الإمبراطورية الروسية ثم بعد حرب القرم الأولى عادت تحت سيطرة الدولة العثمانية ثم انتزعها الروس مرة ثانية وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي انضمت شبه جزيرة القرم المستقلة للدولة الأوكرانية ثم أخيرا أعادت القوات الروسية احتلال ذلك الإقليم المنكوب.

ومن هذا المعترك التاريخي المتداخل للأراضي البولندية أو الأقاليم الأوكرانية نفهم حالة الشقاء التي تقع على الشعوب التي تستوطن مثل هذه الأقاليم التي تكون مطمع الدول والممالك المتطاحنة. وهذا ما يمكن مشاهدته في أقاليم منكوبة أخرى مثل أرض الشيشان أو دول البلقان أو أرض المقدس أو بلاد الأكراد أو إقليم الإسكندرون أو إقليم دارفور وهذه بعض المناطق الدامية داخل حضارتنا الإسلامية ولو ذهبنا نحاول استقصاء أمثال هذه المناطق والأقاليم الملتهبة بالصراعات الدولية في مختلف قارات العالم لطال بنا المقام والمقال.

وبالعودة إلى حالة الترقب التي تعم هذه الأيام من احتمالية تصاعد الصراع الدولي المتعلق بمؤشرات غزو القوات الروسية للأراضي الدولة الأوكرانية وما قد يجر ذلك من احتمال قتال وصراع دولي متعدد الأطراف. أنا لست خبيرا بدهاليز السياسة الدولية ومفاجآت الصراع الأممي ولكن أتوقع أن ميكانزيم توازن القوى الدولية سوف يحد كثيرا من حصول كارثة عالمية كبرى من مثل اندلاع الحرب العالمية الثالثة كما يهول البعض. ومع ذلك تبقى احتمالية اجتياح الروس للحدود الأوكرانية واردة، ولكن يغلب على الظن أن تدخل الحلفاء أو قوات الحلف الأطلسي سوف تكون محدودة ورمزية والعلم عند الله.

ومع ذلك وبما أننا ما زلنا في سياق الحديث عن الأقاليم الجغرافية المضطربة عند ملتقى الإمبراطوريات تجدر الإشارة إلى قصة الصراع بين الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الفرنسية حول أراضي وادي الراين (أقاليم الألزاس واللورين) والذي يعد الصراع حولها أحد أهم أسباب العداء المتأصل والحقد المتكرر بين الشعب الفرنسي والشعب الألماني. لعل القصة أصبحت مفهومة الآن في ضوء ما سبق ذكره في أول المقال، فأراضي وادي الراين تذبذبت ملكيتها وسيادتها عبر القرون بين الأمة الألمانية (وهذا السائد بدلالة أن لغة هذا الإقليم حتى الآن هي الألمانية) وبين الأمة الفرنسية. ونتيجةً لهزيمة الإمبراطورية الألمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى لم يكن من المستغرب أن تعود سيطرة فرنسا على هذه البقاع المتنازع عليها. وبحكم أن الشعب الألماني كان دوما يشعر بمرارة الخيانة (ومقتنع بأسطورة الطعن من الخلف) لذا لم يكن من المستغرب أن يختار الناخب الألماني الحزب النازي ويسلم قيادة البلد للمتطرف القومجي أدولف هتلر ليعيد للأمة الألمانية هيبتها ويجعل ألمانيا والعرق الآري فوق الجميع. كتب التاريخ تحدد بداية الحرب العالمية الثانية في نهاية عام 1939م عندما غزا هتلر الأراضي البولندية، ولكن في الواقع الإرهاصات الحقيقة لتلك الحرب الكونية الكبرى حصلت قبل ذلك بسنوات وبالتحديد في عام 1936م عندما أعاد هتلر انتزاع إقليم الألزاس واللورين. والمقصود من هذه السردية التاريخية أن التنازع بين القوى الكبرى إذا داخاله عوامل الكرامة والهيبة أو المصالح الاقتصادية والمكاسب السياسية يمكن بالفعل يؤدي ذلك النزاع إلى اندلاع أشنع وأطول الحروب الدولية.

 كلمة أخيرة قبل أن نغادر نسترجع فيها مقولة المفكر الأمريكي صاموئيل هنتنغتون في كتابه المعروف صراع الحضارات من أن العالم الإسلامي له (حدود دموية) لأن أغلب مواقع الصراع المسلح في العالم تمتد على خطوط التصدع الحضاري الفاصلة بين العالم الإسلامي وجيرانه. صحيح أن من ينظر الآن إلى خارطة مناطق القتال بين الدول والشعوب يجد أغلبها في العالم الإسلامي والقارة الإفريقية بالذات. إلا أن الظاهرة الجديدة التي لا تخطئها عين الراصد هو تزايد حالات الصراع وتنامي (بؤر الدم) في أطراف القارة الأوروبية نفسها كما هي حال مناوشات الحرب اليوم على حدود أوكرانيا والحرب المدمرة التي مرت بها دولة أرمينيا قبل حوالي سنة وتكرر الاحتجاجات الشعبية العنيفة في عدد من دول أوروبا الشرقية مثل جورجيا وبيلاروسيا وليتوانيا.

للأديب الألماني المعاصر إريك ريمارك رواية أدبية رائعة تحمل عنوان مخادع هو (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) وتلك الرواية هي تقريبا سيرة ذاتية وشهادة حية لويلات الحرب وحياة الخنادق أثناء الحرب العالمية الأولى. حتى فترة قصيرة مضت كان الجميع يعتقد أن (كل شيء هادي على الجبهة الأوروبية) ولكن المظاهر تخدع كما يقال وشبح الحرب يحوم في الأفق.