الجمعة، 1 أبريل 2022

( أحوال السلف الصالح مع الثلج )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بعض المواضيع الدينية والإرشادات الفقهية والتنويهات التربوية يكون لها مواسم ثابتة ومتكررة من مثل طرح مواضيع أحوال السلف في رمضان أو العشر الأواخر أو في عصر يوم الجمعة ومن ذلك أيضا أحوال السلف الصالح في الشتاء. وعند الكتابة في المواضيع الثقافية العامة قد يكون من الملائم طرح بعض الأفكار من زوايا مختلفة وتسليط الضوء على أركان مخفية وأبعاد مهملة. حال الصحابة والسلف الصالح في القديم والحديث مع موسم الشتاء معروف باستغلالهم لهذه (الغنيمة الباردة) في تكثيف العبادة والأعمال الصالحة ففصل الشتاء كما ورد في الأثر (الشتاء ربيع المؤمن .. طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه).

ومع ذلك ربما نحتاج للإلقاء الضوء على التوظيف التربوي والتوجيه الوعظي التزكية النفسية التي استخدم فيها السلف الصالح لبعض مظاهر الأجواء الشتوية من الصقيع والجليد وتساقط للثلوج. في كتاب التفسير الكبير لفخر الدين الرازي إشارة وعظيه وفائدة تربوية عندما ذكر خبر أحد السالف أنه قال: تعلمت معنى سورة العصر من بائع ثلج كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله. فقلت هذا معنى (إن الإنسان لفي خسر) يمر به العصر فيمضي عمرة ولا يكتسب فإذا هو خاسر. ومن القبسات التربوية المستلهمة من هشاشة وسرعة ذوبان رقائق الثلج أن بعض الحكماء الحريص على وقته من أن يضيع سداً كان يقول: الوقت كالثلج سريعا زواله وكأنه بذلك يشابه ذلك السلفي الآخر الذي قال له أحدهم: قف أكلمك فكان أن رد عليه بقوله (أوقف الشمس). ولهذا أخذ هذا المعنى زاهد السلف الإمام الغزالي وذكره في كتابه إحياء علوم الدين فقال: الدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له. وقريب من هذا المعنى سطره جلال الدين السيوطي في كتابه (تحذير أهل الآخرة من الدنيا الدائرة) وذكر فيه: الدنيا كقطعة الثلج رخيصة الثمن سريعة الذوبان والآخرة كالجوهرة غالية الثمن باقية.

جليد وصقيع الشتاء قد يساعد على تكثيف العبادة كما ذكرنا وأيضا قد تكون مظاهر الشتاء المناخية (تذكرة) وجدانية تهز الروح وتنبه الغافل ولذا الشتاء كما هو (غنيمة للمؤمن العابد) هو كذلك قد يكون (موعظة للمؤمن المتفكر). قال أحد الصالحين (ما رأيت الثلج يتساقط من السماء إلا تذكرت تطاير الصحف يوم الحشر والنشر). ومن الإضاءات المستلهمة من ندف الثلج المتطايرة أنه في بدايتها رقائق من جليد خفيفة المحمل سريعة الذوبان، ولكن إذا تجمعت وانضمت إلى بعضها البعض أصبحت كما يقال في التشبيه: كرة الثلج التي تكبر مع الوقت حتى يزداد ثقلها وأثرها. وهذا ربما حال صغائر الذنوب فهي خفيفة المحمل سهلة الزوال والذوبان بالاستغفار، ولكن تجمع الذنوب مع الوقت وتراكمها يولد (ثقل) الإحساس بالذنب وكذلك يولد (حرارة المعصية) المهلكة للحسنات. وقد ألتقط عالم السلف ابن حزم الأندلسي والخبير بعلم مداواة النفوس بعض الإرشادات السلوكية من عالم الثلج فقال: الثلج إذا ُأدمن حبسه في اليد فَعلَ فِعل النار.

وكما إن الزمهرير ضد الرمضاء فكذلك برد الطاعة ضد حر وجمر المعصية ولهذا لائم غسل إثم المعصية الساخنة بالثلج البارد. ومن الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في دعاء الاستفتاح (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد). وغسيل درن الذنوب كغسيل وسخ الثوب ولهذا من الناحية المبدئية قد يكون الماء الساخن أفضل من الماء البارد في عملية التنظيف. وهنا نسوق ذكر الخبر والحوار المشهور الذي حصل بين اثنين من كبار مشاهير وأعلام السالف الصالح وهما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه النجم ابن القيم. في كتاب (إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان) يذكر ابن قيم الجوزية أنه عندما استشكل هذا الأمر سأله عنه شيخه علامة السلف: سألتُ شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبي اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد والماء الحار أبلغ في الإنقاء؟. فقال: الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا، فيرتخي القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه، فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه. والماء يغسل الخبث ويطفئ النار، فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كــان أقوى في التبــريد وصـلابة الـجسم وشدته، فكـان أذهب لأثر الخطـايا.

وما زلنا في موضوع غسل إثم المعاصي والخطايا بالثلج والبرد، ولكن من منظور مختلف فبعض السلف حاول تفسير الحديث الشريف السابق الذكر من زاوية أن الثلج يشتهر كما هو معروف بالنقاء والصفاء والبياض. ومن الأمور التي تتفق عليها العقول والأذهان أنه عند تنظيف القماش من الأوساخ والأقذار يجب استخدام الماء النقي والنظيف وبحكم أن الثلج والبرد ينزل من السماء ولم ُيخالط بعد تراب الأرض أو لم يلمسه بعد لا إنسان ولا حيوان ولذا ناسب استخدام ماء الثلج الصافي في عملية الإنقاء من درن الخطايا. في كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري نجد عالم السلف ابن حجر العسقلاني يسرد ويقبل تفسير المحدث والعالم المتبحر في علم غريب الحديث أبو سليمان الخطابي عندما قال: ذكر الثلج والبرد تأكيدا أو لأنهما ماءان لا تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال.

والمقصود أن الشتاء والثلج والصقيع في الغالب كان يتم النظر لها في مقام العبادة من صيام أو قيام أو إحسان وعطف على الفقراء والمعدمين ومع ذلك زمن الثلج يمكن النظر له في مقام الوعظ ومن منظور التذكرة والتبصرة والتزكية ومداواة النفوس. قديما قيل كفى بالموت واعظا وهو قولٌ حق، ولكن الثلج بنقائه وبياض لونه يتشابه مع كفن الميت وقماش إحرام الحاج ولهذا عندما يكون الثلج واعظاً فلن نستغرب كثيرا قول الشاعر الفلسطيني المعاصر بكر زواهرة (الثلج واعظ مكفن بملابس الحجاج).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق