الجمعة، 1 أبريل 2022

( أقاليم منكوبة يخيم عليها شبح الحرب )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 من ناحية سياحية تعتبر المواقع الجغرافية التي تسمى النقاط الحدودية الثلاثية tripoints مكاناً مميزا لأنها الموقع الذي تلتقي به الحدود السياحية لثلاثة دول مختلفة وبهذا يسهل التنقل الجغرافي والسياحي بين كيانات سياسية وحضارية مختلفة وهذا ما ناقشته سابقا في مقال بعنوان (إطلالة دولية من شرفة المنزل) وذلك وقت الزمن الكئيب فترة الحظر المنزلي بسبب وباء الكورونا. في زمن السلم تصبح هذه النقاط الحدودية الثلاثية مواقع ذات بريق لجذب السياح والأموال ولهذا ينعم سكان تلك المناطق برخاء اقتصادي مريح أما من منظور الجغرافيا السياسية وفي ضوء تاريخ صراع الدول والإمبراطوريات فتكون تلك البقاع مكان شؤم وبلاء على السكان المقيمين فيها.

خذ على ذلك مثالا النقطة الحدودية الثلاثية التي تعرف في كتب التاريخ باسم (ركن الإمبراطوريات الثلاثة) وهي تلك الزاوية الحدودية التي كانت قديما تلتقي عندها الإمبراطورية النمساوية والإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الروسية. وبسبب صراع الجبابرة بين تلك الإمبراطوريات المتناحرة لم يكتب الاستقرار والأمان لإقليم الركن الثلاثي وعاصمته الرئيسية مدينة ميسوفيتسه (تقع حاليا جنوب بولندا) حيث عبر التاريخ كثيرا ما تم انتقال ملكيتها لواحدة من تلك الممالك المتصارعة. في بداية الأمر وحتى منتصف القرن السابع عشر كانت أجزاء من تلك المنطقة تقع تحت نفوذ الإمبراطورية النمساوية ثم انتقلت إلى السيطرة الألمانية ومنها بعد سنين إلى حكم الدولة الروسية ثم استقلت لفترة قصيرة بعد الحرب العالمية الأولى لتنضم إلى بولندا ثم عادت مرة أخرى تحت حكم الألمان وأخيرا بعد الهزيمة الساحقة للنظام النازي الألماني رجعت تلك المنطقة للتمتع بمحيطها السياسي والحضاري الأساسي في ظل الدولة البولندية المستقلة.

وفي ضوء هذه القصة الشائكة للشعب البولندي وورطته التاريخية والسياسية بوقوعه في منطقة تنازع بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية الألمانية يمكن أن نستوعب حاليا ورطة الشعب والدولة الأوكرانية في وجودها في موقع نزاع وتنافس مستمر بين الدول الكبرى والكيانات السياسية العظمى. منذ قرون طويلة والأراضي الأوكرانية محل نزاع وتنافس بين القوى الدولية المسيطرة في تلك المنطقة وخصوصا الممالك الروسية والعثمانية والبولندية. في عام 2014م استطاعت روسيا أن تنتزع شبه جزيرة القرم (الإقليم الجنوبي من الأراضي الأوكرانية) بسهولة وبدون ضجة كبرى وهذا خلاف ما حصل قبل قرن ونصف من الزمن عندما حصلت (حرب القرم الأولى) والتي نشبت عام 1853م وكانت أشبه بحرب عالمية مصغرة إذا اشترك فيها الدول والممالك الكبرى في ذلك العصر ألا وهي الإمبراطورية الروسية من جهة وفي الجهة المقابلة كانت قوات الحلفاء مشكلة من الدولة العثمانية والممالك الأوروبية البريطانية والفرنسية والإيطالية. علما بأن شبه جزيرة القرم كانت لقرون طويلة تحت حكم الخلافة العثمانية حيث كان اسم عاصمة ذلك الإقليم المسلم (واق مسجد) أي المسجد الأبيض. ونظرا لأهميتها الجغرافية القصوى في السيطرة على البحر الأسود انتزعتها الإمبراطورية الروسية ثم بعد حرب القرم الأولى عادت تحت سيطرة الدولة العثمانية ثم انتزعها الروس مرة ثانية وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي انضمت شبه جزيرة القرم المستقلة للدولة الأوكرانية ثم أخيرا أعادت القوات الروسية احتلال ذلك الإقليم المنكوب.

ومن هذا المعترك التاريخي المتداخل للأراضي البولندية أو الأقاليم الأوكرانية نفهم حالة الشقاء التي تقع على الشعوب التي تستوطن مثل هذه الأقاليم التي تكون مطمع الدول والممالك المتطاحنة. وهذا ما يمكن مشاهدته في أقاليم منكوبة أخرى مثل أرض الشيشان أو دول البلقان أو أرض المقدس أو بلاد الأكراد أو إقليم الإسكندرون أو إقليم دارفور وهذه بعض المناطق الدامية داخل حضارتنا الإسلامية ولو ذهبنا نحاول استقصاء أمثال هذه المناطق والأقاليم الملتهبة بالصراعات الدولية في مختلف قارات العالم لطال بنا المقام والمقال.

وبالعودة إلى حالة الترقب التي تعم هذه الأيام من احتمالية تصاعد الصراع الدولي المتعلق بمؤشرات غزو القوات الروسية للأراضي الدولة الأوكرانية وما قد يجر ذلك من احتمال قتال وصراع دولي متعدد الأطراف. أنا لست خبيرا بدهاليز السياسة الدولية ومفاجآت الصراع الأممي ولكن أتوقع أن ميكانزيم توازن القوى الدولية سوف يحد كثيرا من حصول كارثة عالمية كبرى من مثل اندلاع الحرب العالمية الثالثة كما يهول البعض. ومع ذلك تبقى احتمالية اجتياح الروس للحدود الأوكرانية واردة، ولكن يغلب على الظن أن تدخل الحلفاء أو قوات الحلف الأطلسي سوف تكون محدودة ورمزية والعلم عند الله.

ومع ذلك وبما أننا ما زلنا في سياق الحديث عن الأقاليم الجغرافية المضطربة عند ملتقى الإمبراطوريات تجدر الإشارة إلى قصة الصراع بين الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الفرنسية حول أراضي وادي الراين (أقاليم الألزاس واللورين) والذي يعد الصراع حولها أحد أهم أسباب العداء المتأصل والحقد المتكرر بين الشعب الفرنسي والشعب الألماني. لعل القصة أصبحت مفهومة الآن في ضوء ما سبق ذكره في أول المقال، فأراضي وادي الراين تذبذبت ملكيتها وسيادتها عبر القرون بين الأمة الألمانية (وهذا السائد بدلالة أن لغة هذا الإقليم حتى الآن هي الألمانية) وبين الأمة الفرنسية. ونتيجةً لهزيمة الإمبراطورية الألمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى لم يكن من المستغرب أن تعود سيطرة فرنسا على هذه البقاع المتنازع عليها. وبحكم أن الشعب الألماني كان دوما يشعر بمرارة الخيانة (ومقتنع بأسطورة الطعن من الخلف) لذا لم يكن من المستغرب أن يختار الناخب الألماني الحزب النازي ويسلم قيادة البلد للمتطرف القومجي أدولف هتلر ليعيد للأمة الألمانية هيبتها ويجعل ألمانيا والعرق الآري فوق الجميع. كتب التاريخ تحدد بداية الحرب العالمية الثانية في نهاية عام 1939م عندما غزا هتلر الأراضي البولندية، ولكن في الواقع الإرهاصات الحقيقة لتلك الحرب الكونية الكبرى حصلت قبل ذلك بسنوات وبالتحديد في عام 1936م عندما أعاد هتلر انتزاع إقليم الألزاس واللورين. والمقصود من هذه السردية التاريخية أن التنازع بين القوى الكبرى إذا داخاله عوامل الكرامة والهيبة أو المصالح الاقتصادية والمكاسب السياسية يمكن بالفعل يؤدي ذلك النزاع إلى اندلاع أشنع وأطول الحروب الدولية.

 كلمة أخيرة قبل أن نغادر نسترجع فيها مقولة المفكر الأمريكي صاموئيل هنتنغتون في كتابه المعروف صراع الحضارات من أن العالم الإسلامي له (حدود دموية) لأن أغلب مواقع الصراع المسلح في العالم تمتد على خطوط التصدع الحضاري الفاصلة بين العالم الإسلامي وجيرانه. صحيح أن من ينظر الآن إلى خارطة مناطق القتال بين الدول والشعوب يجد أغلبها في العالم الإسلامي والقارة الإفريقية بالذات. إلا أن الظاهرة الجديدة التي لا تخطئها عين الراصد هو تزايد حالات الصراع وتنامي (بؤر الدم) في أطراف القارة الأوروبية نفسها كما هي حال مناوشات الحرب اليوم على حدود أوكرانيا والحرب المدمرة التي مرت بها دولة أرمينيا قبل حوالي سنة وتكرر الاحتجاجات الشعبية العنيفة في عدد من دول أوروبا الشرقية مثل جورجيا وبيلاروسيا وليتوانيا.

للأديب الألماني المعاصر إريك ريمارك رواية أدبية رائعة تحمل عنوان مخادع هو (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) وتلك الرواية هي تقريبا سيرة ذاتية وشهادة حية لويلات الحرب وحياة الخنادق أثناء الحرب العالمية الأولى. حتى فترة قصيرة مضت كان الجميع يعتقد أن (كل شيء هادي على الجبهة الأوروبية) ولكن المظاهر تخدع كما يقال وشبح الحرب يحوم في الأفق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق