الجمعة، 1 أبريل 2022

( في ذكرى 15 يناير )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 وها نحن ذا في نهاية موسم شتاء المربعانية ويحل علينا منتصف شهر يناير ومع ذلك أجواء طقس برد الشتاء كانت معتدلة كثيرا على خلاف لهيب حرارة المناخ في موسم الصيف الماضي فهل شمس الشتاء (كقلب المرأة) خادعة ولا تُأمن كما يقول أحد الحكماء. في التقويم الهجري توجد دورة من حوالي ثلاثة وثلاثين سنة تدور فيها الشهور القمرية دورتها بمعنى أن شهر جمادى الآخر قد يتوافق مع أشهر الشتاء كما هو الحال الآن، ولكن مع السنوات يتحرك هذا الشهر مع أغلب فصول السنة ليعود بعد 33 سنة لحالته الأولى. والمقصود أنه قبل حوالي ثلاث وثلاثين سنه توافقت الأجواء المناخية الباردة مع توتر الأجواء الدولية الساخنة مع تطابق إجازة منتصف العام الدراسي مع مرور منتصف شهر يناير. لقد دار الزمان دورته ومع حصول حالات إلغاء عشرات الآلاف من الرحلات الجوية في الفترة الأخيرة بسبب الخوف من انتشار فيروس كورونا المتحور الجديد لا زلت أتذكر القصيدة الجميلة وثاقبة الحكمة لشاعرنا الكبير عبدالرحمن العشماوي التي حملت عنوان (15 يناير) وكان مطلعها:

لا تُسافر .. لا تُقدّم درهماً تشتري به اليوم تذاكرْ

 في شهر يناير من عام 1991م كنت أقضي مطلع إجازة منتصف العام الأكاديمي مع زملاء الجامعة الأفاضل في زيارة للمدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وقد حجزت لسفر العودة تذكرة طيران من طيبة الطيبة إلى مدينة الطائف وكان التوقيت .. نعم في منتصف يناير. كان من تداعيات غزو العراق لدولة الكويت الشقيقة أن قامت الولايات المتحدة بتشكيل تحالف عسكري هائل وصدر تهديد حاسم ضد الرئيس العراقي صدام حسين بسحب قواته المعتدية من الكويت قبل تاريخ الخامس عشر من يناير. قبل التجهيز لتلك الرحلة الشبابية في (عطلة الربيع) استفسرتُ من أحد الأحباب عن ملائمة أن نسافر في ذلك التوقيت المشحون باحتمالية اندلاع حرب الخليج الثانية وكان جواب الزميل العزيز الاستبعاد التام لذلك الحدث وأن الأمر لا يعدو أن يكون مسرحية سياسية. وببساطة التفكير لشاب جامعي في العشرين لم أستجب للنصيحة الشعرية العشماوية وبالفعل اشتريت التذاكر وبالرغم من إن السفر بالطائرة تم بالفعل من المدينة المنورة إلا أن الرحلة تم تحويلها إلى مطار جده بسبب قرب مطار الطائف من القاعدة الجوية والتي عما قريب سوف تنطلق منها أسراب الطائرات المقاتلة بعد منتصف يناير.  بالنسبة لجيل الشباب الغر كنا نستبعد حصول الحرب على صدام بينما أهل البصيرة من مثل الدكتور العشماوي كان الأمر مكشوفا ولذا كان التحذير من قبل أبي أسامة واضحا وصريحا:

لا تُكابر .. أنت لا تفهم شيئاً في زمانٍ عُميت فيه البصائرْ

لا تُكابر .. أنت لا تفهمُ ما معنى اندلاع الحرب في نصف ينايرْ

في التاريخ السياسي لشهور السنة لا شيء مميز في شهر يناير ولذلك التحذير من مسرحية أو قل مؤامرة (منتصف يناير) لم تلق الاهتمام الجدير بها كما حصل قديما في التاريخ عندما حذّر أحد المنجمين الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر ونبه (احذر منتصف شهر مارس beware of the ides of Mars) وعندما لم يستجب الإمبراطور للتحذير العرّاف تسلل المتآمرون وأحاطوا بالقيصر وقتلوه داخل قاعة مجلس الشيوخ الروماني. وعلى نفس السياق تسلل الكاوبوي الأمريكي المدجج بالسلاح إلى المنطقة العربية منذ (منتصف يناير) متوشحا بالغيوم الكثيفة المناخية والسياسية في فصل الشتاء من ذلك العام والتي غطت وسترت تحركاته وأهدافه الحقيقة. التسلل المخادع تحت غطاء الأجواء المناخية الشاتية لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية موروث أصيل وقديم في التاريخ الأمريكي منذ زمن حرب الاستقلال عن التاج البريطاني.

وهذا ما قام به أول رئيس للولايات المتحدة الجنرال جورج واشنطن وذلك في شتاء عام 1776م عندما حقق نصر عسكري هام وحاسم على القوات البريطانية عندما غافل أعدائه بهجوم مفاجئ وغير متوقع في عشية عيد الميلاد. مستعينا ببرد الشتاء استطاع جورج واشنطن وكتائب جيشه العبور على نهر ديلاوير المتجمد ومباغتة القوات البريطانية الأمنه والمطمئنة من استحالة حصول هجوم في تلك الليلة الباردة وفي أجواء الاحتفال بالعيد المجيد الذي لا يليق فيه القتال.  هذا ما كان من حرب الاستقلال الأمريكية وهو ما سوف يتكرر في الحرب الأهلية الأمريكية عندما قرر الرئيس الأمريكي إبراهام لينكون أن تتسلل قواته تحت غطاء الشتاء الكثيف وبصورة مخادعه عشية عيد الميلاد من عام 1864م وتحاول احتلال حصن فيشر ذلك الميناء الهام لقوات جيش الولايات الكونفدرالية الجنوبية. ولاحقا بعد محاولة التسلل هذه بسنة واحدة وعندما سقط هذا الحصن بالذات انتهت الحرب الأهلية الأمريكية بعد ذلك بثلاثة شهور فقط. 

والمقصود أن محاولات التسلل الأمريكية المخادعة في زمن الشتاء في القديم والحديث ضمنت لها سيطرة هائلة على ساحة ومسرح السياسة الدولية. وفي فصل الشتاء الحالي وبعد أن دار الزمان دورته الثلاثينية نجد أن الولايات المتحدة تحاول التسلل تحت عباءة محاربة الطغاة، ولكنها انتقلت من حجة وذريعة إخراج صدام حسين من الكويت إلى ذريعة وحجة منع فلاديمير بوتين من دخول أوكرانيا. لله در ابن خلدون عندما نفذ إلى صلب الحقيقة العارية والمريعة بقوله (الطغاة يجلبون الغزاة) فهذا المستبد صدام حسين جلب السيطرة الأمريكية على منطقة الخليج العربي وذاك بشار الأسد استجلب الهيمنة الروسية على أرض الشام في حين تسبب (معمر) القذافي في (دمار) وخراب ليبيا. وكما كانت الأجواء الدولية قبل ثلاثين سنة مشحونة وفي حالة ترقب قصوى بسبب أزمة غزو الكويت نجد أن الأجواء العالمية اليوم ملتهبة ونحن في عز فصل الشتاء بسبب احتمالية غزو جديد ولكن المسرح المستحدث الذي تحاول الولايات المتحدة التسلل إليه هو وسط آسيا وذاك من خلال بوابات النار الأوكرانية والكازاخستانية.

همسة أخيرة قبل أن نغادر نحب أن نوشوش بها في أذن القيصر الروسي بوتين وهي أن فصول الشتاء كانت دوما هي خط الدفاع الرئيسي لحماية الأمة الروسية فالجنرال الثلجي هو من هزم نابليون بعد أن احتل مدينة موسكو الخالية والمحترقة والزمهرير القارص هو من جمد مخططات هتلر في جبهة القتال الشرقية عندما فشل أن يكمل احتلال لينينغراد وهي مدينة سانت بطرسبرج عاصمة الإمبراطورية الروسية. النصيحة التي يمكن توجيهها للقادة الروس أن القتال في زمن الشتاء خارج روسيا حتى ولو ضد دولة صغيرة مثل أوكرانيا الآن أو فنلندا قديما قد يكون كارثيا. بالرغم من أن للشتاء دور حاسم في العديد من المعارك الكبرى عبر التاريخ البشري إلا أن الحرب التي عرفت في كتب التاريخ باسم (حرب الشتاء) هي تلك التي نشبت بين الاتحاد السوفيتي وبين دولة فنلندا وذلك في مطلع الحرب العالمية الثانية. على خلاف ما يحصل اليوم من مناصرة حلف الناتو وأمريكا بالذات للحكومة الأوكرانية استطاعت قديما جمهورية فنلندا منفردة في دحر الهجوم السوفيتي الغاشم على أراضيها المتجمدة. وبهذا كان الجنرال الثلجي هذه المرة في صف فنلندا ومكنها مقارعة الجيش الأحمر الرهيب الذي يملك من الدبابات مائه ضعف ما تملك فنلندا في حين أن عدد طائراته الحربية يبلغ ثلاثين ضعف تلك التي في سلاح الجو الفنلندي.

ولذا نختم بما بدأنا به من ذكر قصيدة (15 يناير) لشاعرنا الكبير العشماوي ولكن سوف نحرف التنبيه عن سياقه ونحذر به القيصر الروسي بوتين:

لا تُكابر .. أنت لا تفهمُ ما معنى اندلاع الحرب في نصف ينايرْ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق