د/ أحمد بن حامد الغامدي
اليوم السبت الرابع من شهر رجب والمتوافق مع بدايات شهر فبراير ولذا بنهاية إجازة نهاية الأسبوع المطولة هذه تبدأ تقل كثيرا فرصة السفر لمشاهدة الثلج في أرض الصحراء في شمال المملكة سواءً في منطقة تبوك أو محافظة طريف. قديما كان السفر والترحال (وظيفة) بشرية أساسية لأسباب متعددة، ولكن منذ القرون الأخيرة أصبح (سفر الدهشة) يهدف إلى البهجة الذهنية أو المتعة البدنية أو الصفاء الروحي. ولذا ليس بمستغرب أن نجد المئات من مختلف مناطق المملكة يشدون الرحال إلى أرض الجليد المؤقت لإشباع نهمهم بمعايشة هذه التجربة الفريدة (الثلج والجليد في جزيرة العرب).
منذ فجر التاريخ العربي اشتهرت جزيرة العرب
بالجفاف والقيظ ولهذا يذكر الإمام القرطبي في تفسيره عند الإشارة لقوله تعالى
(وينزل من السماء من جبال فيها من برد) فقال إن الله سبحانه وتعالى خاطبهم بالبرد
لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم وسكت عن ذكر الثلج لأنه لم يكن في بلادهم.
ومما يذكر عن حبر هذه الأمة ابن عباس قوله عن الثلج: الثلج شيء أبيض ينزل من
السماء وما رأيته قط ومن هنا قد نفهم لماذا ارتبك بعض الصحابة وبعض الفقهاء عندما
انتشروا في الأمصار وشاهدوا الثلج. في إحدى الفتاوى الشرعية لمحدث العصر العلامة
الألباني أشار إلى خبر أحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه عندما حصل أن نزل الثلج
في شهر رمضان وأخذ ذلك الصحابي يأكل الثلج وعندما قيل له ألست صائما قال (هذا بركة
من السماء وليس بطعام) وكذلك تذكر كتب الفقه حيرة واختلاف بعض الفقهاء في التعامل
مع الثلج مثلا هل هو مثل التراب فيجوز التيمم به أو إذا تجمدت مياه الأنهار أو
البحيرات فهل تجوز الصلاة مباشرة على ذلك الجليد.
حال (الدهشة) من نزول الثلج في المدن العربية
الصحراوية المشهورة بالحر جعلت رجال التاريخ قديما يحرصون على توثيق تلك الحالات
المناخية العجيبة التي يصاحبها تساقط الثلج في تلك البيئات الحارة. فهذا المؤرخ
الكبير ابن كثير في كتاب البداية والنهاية يؤرخ لسقوط الثلج على مدينة بغداد في
مواقع متعددة من كتابه وسنوات مختلفة من تاريخه ومنذ ذلك مثلا قوله عن سنة 620 هـ
أنه سقط بها ثلج كثيف بالعراق في آخر الشتاء في شهر آذار (مارس) ثم ذكر تعجب
المؤرخ ابن الأثير الذي ذكر هذه الحداثة فقال: وهذا شيء لم يعهد مثله والعجب كل
العجب من العراق مع كثرة حره كيف وقع فيه مثل هذا. ومن بغداد إلى القاهرة ومن ابن
كثير إلى المقريزي وفي الأحداث التاريخية المسطرة في كتاب (السلوك لمعرفة دول الملوك)
نجد أن المقريزي يذكر خبر نزول الثلج الكثير على أرض مصر سنة 738هـجري. وعلى ذكر المؤرخ
المصري تقي الدين المقريزي واهتمامه العجيب بذكر التفاصيل التاريخية نجده في كتابه
(الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك) يذكر الخبر الفريد عن وجود الثلج
في مكة المكرمة وقت الحج. ولكن هذه المرة لم ينزل الثلج على الأراضي المقدسة، ولكن
حصل في عام 160هجري ولأول مرة في التاريخ أن تم جلب الثلج إلى مكة المكرمة وذلك عندما
حمل الثلج إلى الخليفة العباسي أبو عبد الله المهدي لتخفيف الحر عنه في حجه في تلك
السنه.
من هذا وذاك نعلم أن نزول الثلج في البيئة
العربية القديمة كان حدثاً غريباً ونادر الحصول ولهذا منذ القدم أهتم ابن الصحراء
بتتبع وتوثيق هذه الأحداث المناخية الفريدة والسعي قدر المستطاع لمشاهدتها عن كثب.
وباستثناء بلاد الشام وجبال الأطلس من أرض المغرب ومرتفعات المنطقة الكردية في
العراق لم تعرف أغلب المناطق والأقاليم العربية ظاهرة سقوط الثلج. ولاحقا عندما
توسعت الفتوحات الإسلامية إلى مناطق وسط آسيا وأرض الأندلس أصبح وجود الثلج منظر
طبيعي في التاريخ الإسلامي العام. ومنذ فترة مبكرة تقابل العرب خارج جزيرتهم مع
الثلج في الأقاليم الإسلامية الحدودية فتذكر كتب الفقه قبل كتب التاريخ أن الصحابة
رضوان الله عليهم كانوا مثلا يقصرون الصلاة لشهور طويلة بسبب الثلج كما حصل مع عبد
الله بن عمر رضي الله عليه الذي ظل يقصر الصلاة لمدة ستة أشهر في أذربيجان عندما
حال الثلج دون مقدرة الجيش الذي كان فيه من السفر والعودة. ومع ذلك يبقى التوثيق
التفصيلي لتجربة اللقاء بالثلج القارص خارج المناطق العربية محدود وعبارة فقط عن
شذرات عابرة ترد في كتب التاريخ المطولة. في مقال سابق حمل عنوان (الحج .. سيرة ذاتية)
نشر قبل عدة سنوات ناقشت الظاهرة الغريبة في التأخر الحضاري في موروثنا العربي
القديم في توثيق أدب الرحلات. فحتى بداية القرن الرابع الهجري لأول مرة يظهر كتاب
يوثق أخبار ومشاهدات الرحالة العرب ومن غرائب الموافقات أن إرهاصات هذا التوثيق
كانت تركز على مشاهدات العرب في أرض الثلج والجليد.
من المعلوم أن عصر الرحلات العربية تم
تدشينه بالرحلة المشهورة لأحمد بن فضلان إلى بلاد الصقالبة وأرض البلغار (دولة
تترستان حاليا في روسيا) زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله وبهذا كانت (رحلات
الشتاء) والمشاهدات الثلجية هي في صلب تفاصيل كتاب (رسالة ابن فضلان). وما يهمنا
هنا أنه في عام 309 هجري داهم فصل الشتاء ابن فضلان ورفاقه وهم في مدينة جرجانية
غرب أوزباكستان وهنا يصف ابن فضلان كيف أن نهر جيحون جمد من شدة البرد والصقيع لدرجة
أن الخيل والبغال أصبح بإمكانها المشي فوقه. ويصف ابن فضلان أنه من شدة البرد (..
كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى
كنت أدنيها من النار) وفي موضوع آخر يصف الملابس الثقيلة التي كانوا يحتاجونها
لاتقاء الزمهرير (.. كان كل رجل منا عليه قرطق وفوقه خفتان وفوقه بوستين وفوقه لبادة
وبرنس ولا تبدو منه إلا عيناه، وسراويل طاق وآخر مبطن وران وخف كيمخت وفوق الخف خف
آخر فكان الواحد منا إذا ركب الجمل لم يقدر أن يتحرك لما عليه من الثياب).
وأما أسطورة المسافرين العرب ابن بطوطة فقد
جاب الآفاق وكان على وشك أن تصل به أسفاره المتواصلة إلى سيبيريا فبعد أن وصل إلى
شبه جزيرة القرم (في أوكرانيا حاليا) ونهر الفولجا أراد أن يسافر إلى سيبيريا وهي
التي يسميها أرض الظلمة لكنه غير رأيه في الأخير وقال (.. أضربت عن ذلك لعظم
المؤونة وقلة الجدوى والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار فإن
تلك المفازة فيها الجليد ولا تثبت قدما الآدمي ولا حافر الدابة فيها). وبعد إخفاق
ابن بطوطة في الوصول إلى سيبيريا لا يعلم على وجهة الدقة من أول رحالة عربي حقق
هذا الإنجاز في الوصول إلى أطراف الدائرة القطبية الشمالية. ومع ذلك وبالانتقال من
سيبيريا إلى ألاسكا يبدو أن اكتشاف الذهب بها في نهاية القرن التاسع عشر تسبب
بموجة (حمى الذهب) جديدة كما حصل في كالفورنيا قبل ذلك بنصف قرن. وكان من ضمن المئات
من المغامرين والمنقبين عن الذهب شاب عربي يدعى علي أبو شادي وصل إلى ألاسكا في
عام 1905م وهو بهذا ربما يعتبر أول شخص من أصول عربية يصل إلى مناطق الدائرة القطبية
الشمالية. أما أول رحلة لشخصية عربية تصل إلى القطب المتجمد الجنوبي المنعزل ففي
الغالب هو العالم المصري سيد زكريا السيد الذي قام في أواخر السبعينيات من القرن
العشرين أثناء عمله بجامعة تكساس بالمشاركة في رحلة علمية لقارة أنتاركتيكا
المتجمدة. ونظيراً للإسهامات العلمية المميزة للدكتور سيد زكريا حيث كان المؤسس
لبرنامج البحثي للنظام البيئي البحري في القطب المتجمد الجنوبي تم تسمية بعض
الأنهار الجليدية في أنتاركتيكا باسمه وعندما توفي رحمه الله تم نعيه في جريدة الواشنطن
بوست.
أما في تاريخ الرحلات الجليدية في واقعنا المحلي
فقد كان أول من وصل إلى القطب المتجمد الجنوبي هو الدكتور مصطفى معمر رحمة الله من
جامعة الملك عبد العزيز مع الدكتور إبراهيم عالم من جامعة الملك فهد والذين شاركا
في 1989م في رحلة علمية دولية استكشافية للقطب المتجمد الجنوبي استمرت لثلاثة أشهر.
وبعد ذلك بسنة شارك الدكتور إبراهيم عالم في رحلة استكشافية دولية كانت وجهتها هذه
المرة القطب المتجمد الشمالي. وكذلك شارك لاحقا الدكتور عبد العزيز اللعبون من قسم
الجيولوجيا بجامعة الملك سعود في رحلة استكشافية دولية للقطب المتجمد الجنوبي عام
2014م علما بأنه حصل في عام 2010م وصول المغامر السعودي وليد زاهد هو وولديه هيثم
ومحمد إلى مركز القطب في القارة المتجمدة الجنوبية. الجدير بالذكر أنه في السنوات
الأخيرة أصبح يوجد رحلات سياحية لزيارة القطب المتجمد الشمالي أو الجنوبي وقد قامت
سفارة المملكة في بريطانيا عام 2005م بالإشراف على تمويل رحلة استكشافية لستة طلاب
من المرحلة المتوسطة للمنطقة القطبية الشمالية في رحلة مشتركة مع فريق مماثل من
طلاب المدارس البريطانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق