د/ أحمد بن حامد الغامدي
تعتبر الجمعية الملكية البريطانية Royal Society إحدى أهم وأعرق الجمعيات العلمية في التاريخ قديما وحديثا ومع ذلك كان لها تحيز متجذر ضد النساء بشهادة أول أمين عام لها وهو هنري أولدنبورغ والذي وصف العلم بأن له (فلسفة ذكورية) ولهذا يرى بعض مؤرخي العلوم أنه خلال التاريخ قام الرجال دائما يوضع الحواجز بين المرأة واكتسابها للمعرفة العلمية. قبل قرنين من الزمان وبالضبط في عام 1818م كتبت الأديبة الإنجليزية المشهورة جين أوستن (لقد كان للرجال الأفضلية الكاملة علينا في أن يرووا قصتهم من دوننا، لقد كان التعليم ملكا لهم وكانت الأقلام في أيديهم) ولعقود طويلة كانت أيضا الأجهزة المختبرية والتجارب العلمية محتكره من قبل الرجال ولهذا كانت النساء في الظل دائما.
وفي ضوء هذا المدخل التاريخي نفهم مدى أهمية
أن تتاح الفرصة لشقائق الرجال في الدخول لمعترك ساحات المختبرات العلمية والمساهمة
في الاكتشافات العلمية وإنتاج وتطوير المخترعات التقنية. في الواقع يوم أمس الجمعة
الموافق للحادي عشر من شهر فبراير هو موعد سنوي ثابت للاحتفال الذي أقرته هيئة
الأمم المتحدة تحت عنوان (اليوم العالمي للمرأة في ميدان العلوم). وعبر العقود
الزمنية الماضية تسعى هيئة الأمم المتحدة بالتعاون مع المنظمات الدولية ذات العلاقة
مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) لتعزيز تمكين المرأة
من الوصول المتكافئ مع الرجل في ميادين العلوم والتقنية.لا شك أن هذا الهدف يتقاطع
مع الحركة النسوية المتصاعدة في الزمن المعاصر ومع ذلك هو خير مثال لتعديل مسار تلك
الحركة النسائية المتخبطة لكي تهتم بمعالي الأمور وتترك سفسافها.
من الحق والعدل دعم المساواة المنضبطة بين
الرجل والمرأة في مجالات إتاحة الفرص المتوازنة في حق التعليم والرعاية الصحية والفرص
الوظيفية والنشاطات الاقتصادية والمشاركة السياسية بدلا من الطيش والسفه التي تشغل
الحركة النسوية المجتمعات البشرية بمعارك خبيثة مثل تحرر المرأة وإسقاط هيبة الرجل
والنشوز عليه. الحركة النسوية في أصلها حركة سياسية ذات أهداف اجتماعية لرفع الظلم
الواقعي أو المتخيل عن المرأة وكما هو معلوم للحركة النسوية عدة موجات متوالية ونحن
الآن في قمة الموجة الثالثة للنسوية والتي يمكن توصيفها بموجة (تمرد الأنثى) وهنا
الخلل الجوهري في تلك الحركة فبدلا من إكمال النقص في حياة المرأة أوجدت فجوة
هائلة في الواقع الاجتماعي والنفسي للمرأة.
حسب أرقام وبيانات معهد الإحصاء التابع
لليونسكو تعتبر نسبة النساء في ميادين العلوم (الجامعات والمعاهد البحثية) أقل من
ثلاثين بالمائة والغريب في هذه الإحصاءات أن هذه النسبة تزيد في دول العالم الثالث
وتقل في الدول المتقدمة. فهذه النسبة مثلا في العالم العربي 42% وفي دول وسط آسيا 48% بينما متوسطها في الدول الأوروبية 33%
والأغرب من ذلك أن هذه النسبة في أذربيجان هي 59% بينما هي في هولندا 26%
فقط. وبالانتقال من دنيا الإحصاء إلى عالم التاريخ يمكن أن نستشف (وربما نصعق)
بمعرفة جذور التفرقة العنصرية التي مارسها علماء الغرب ضد المرأة. كما هو معلوم الحضارة
الغربية هي مزيج ما بين الحضارة الإغريقية والديانة المسيحية وكلا منهما له نظرة
دونية وإقصائية ضد المرأة ومن ذلك أنها كانت قديما تمنع من التعليم والاستقلال
الاقتصادي أو المشاركة السياسية. وفي هذا السياق نفهم القصص والأخبار العجيبة لمنع
النساء في المجتمعات الغربية حتى عقود قريبة من التعليم وفتح المجال لها لدخول
المختبرات العلمية.
الغرب وإقصاء المرأة من ميادين العلوم
في بداية المقال عرجنا بالحديث على ذكر
الجمعية الملكية البريطانية والتي ظلت لمدة ثلاثة قرون تمنع النساء من الحصول على
عضويتها ولم يتغير هذا الموقف غير الحضاري إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. الطريف
في الأمر أنه ليس فقط كان يمنع على النساء الحصول على عضوية الجمعيات العلمية،
ولكن حتى عندما كن يرغبن في إلقاء نتائج أبحاثهن العلمية لم يكن يسمح لهن بالدخول
وإنما يتم تقديم أبحاثهن من خلال إلقائها بواسطة أقاربهن الرجال الذين كانوا يقرؤون
أبحاثهن العلمية نيابة عنهن. كما هو معلوم فإن السيدة ماري كوري ليس فقط هي أشهر
امرأة في تاريخ العلوم، ولكن هي حتى الآن الشخص الوحيد الذي استطاع نيل جائزة نوبل
في الفيزياء وفي الكيمياء. في عام 1911م وبعد أن حصلت ماري كوري على جائزتها
الثانية من جوائز نوبل شعرت في نفسها الاستحقاق للتقدم للحصول على عضوية أكاديمية
العلوم الفرنسية والغريب في الأمر ليس رفض ترشيحها والتصويت ضد انضمامها لهذا لصرح
العلمي المرموق، ولكن حملة العداء والاستهجان من قبل بعض العلماء ضد جرأة مدام كوري
بلغت أن يقول عالم الفيزياء الفرنسي إيميل أماغات (لا يمكن للمرأة أن تكون جزءا من
معهد فرنسا). وكذلك نجد أن ابنة
مدام كوري عالمة الفيزياء إيرين كوري وبالرغم من كونها ثاني امرأة على الإطلاق
تحصل على جائزة نوبل في المجالات العلمية إلا أنها هي الأخرى رفض طلبها للانضمام
إلى أكاديمية العلوم الفرنسية.
قد يتوقع البعض منا أن موقف النفور من تواجد
المرأة في (أندية الرجال) العلمية والبحثية ظاهرة قديمة في المجتمع الأوروبي والغربي
بينما هي ظاهرة كانت شبه متواصلة حتى لزمننا المعاصر. ومن ذلك مثلا أن أعرق جامعة
في العالم وهي جامعة هارفرد الأمريكية كانت حتى عام 1943م لا تسمح للنساء بدخول قاعات
المحاضرات فيها. وللفتيات أو النساء الرغبات في الحضور للاستماع لمحاضرات أينشتاين
في الجامعة الأمريكية التي يدرس بها وهي جامعة برينستون كان ذلك أمرا مستحيل لأنه
حتى وفاة أينشتاين في منتصف الخمسينات من القرن العشرين كان قسم الفيزياء بتلك
الجامعة يمنع النساء من الدخول بحجة أنهن يتسببن في تشتيت انتباه الباحثين بالمعهد
العلمي. وعلى ذكر أينشتاين والنساء فقد كان يثني كثيرا على عالمة الرياضيات
الألمانية إيمي نويثر ويصفها بالعبقرية ومع ذلك عندما تقدمت عام 1915 للتدريس
بجامعة غوتنجن الألمانية نظرا لنقص الرجال بسبب الحرب العالمية الأولى رفض بعض
أستاذة الجامعة المتنفذين ذلك. حيث أصر أحد الأساتذة على أن النساء لا ينبغي أن يصبحن
معلمات جامعيات في حين كان حجة أستاذ جامعي آخر في رفض طلب إيمي نويثر بقوله (ماذا
سيفكر فيه جنودنا عند عودتهم إلى الجامعة ليجدوا أنهم مطالبون بالتعلم عند أقدام
امرأة؟!).
الإنجليز يشتهر عنهم شدة الانضباط والاعتزاز
بالأصالة والموروث القديم ولهذا لا غرو أنهم كانوا آخر من استمر في تقاليد الأنفة
من دخول النساء لمعاقل العلم والحرم الجامعي. ربما أمر يصعب تصديقه أنه حتى
الثمانينيات من القرن العشرين كانت بعض الكليات بجامعة أكسفورد وجامعة كامبريدج حكرا
فقط على الرجال والطلبة الذكور مصداقا لما أشيع من قبل في المجتمع العلمي البريطاني
بأن (العلم ذو فلسفة ذكورية). فهذه كلية ماجدلينMagdalene
بالرغم من اسمها النسائي (نسبةً إلى الشخصية المسيحية البارزة: مريم المجدلية) لم
تسمح هذه الكلية بجامعة كامبريدج بدخول النساء والفتيات للدراسة فيها إلا عام 1988
ميلادي. وعندما حصل ذلك قام بعض الأستاذة والطلاب بجامعة كامبريدج بالتعبير عن
اعتراضهم بتنظيم مسيرة جنازة للكلية وهم يحملون كفن الكلية التي اعتبروها ماتت في ذلك
الوقت.
لا أخفي القارئ الكريم أن ظاهرة التفرقة ضد النساء
في ميادين العلوم لفتت انتباهي منذ زمن أثناء قراءاتي المتوسعة في تاريخ العلوم
وقد جمعت ملف خاص يحتوي على عشرات الأمثلة والصفحات المطولة لهذا الأمر وما سبق
ذكره هو فقط أمثلة منتقاة نظرا لمحدودية المساحة في مثال هذا المقال الثقافي. وفي
مقابل التضييق القديم من المجتمع العلمي الغربي لمشاركة المرأة في دنيا العلوم
لدرجة أن أول سيدة يمكن وصفها بأنها هاوية للعلوم هي الفرنسية إيميلي دو شاتيله
التي عاشت في منتصف القرن الثامن عشر، في مقابل ذلك نجد أنه في الحضارة الإسلامية ومنذ
زمن مبكر نسبيا وجد العديد من النساء العاملات في مجال العلوم. من الأمثلة على ذلك
يمكن أن نذكر هنا أن عالمة الفلك المسلمة المسماة (مريم الإسطرلابي) التي عاشت في
مدينة حلب في القرن العاشر الميلادي يقال إنها اخترعت آلة فلكية متطورة تدعى
الإسطرلاب المعقد. وفي نفس الفترة الزمنية تقريبا، ولكن في مدينة بغداد نجد عالمة
الرياضيات العربية (سُتيتة المحمالي) كان لها اطلاع على علم الجبر والحساب ويقال
انها اخترعت حلولا لبعض المعادلات الرياضية كما إنها كانت خبيرة في علم الفرائض
وحساب المواريث. وعلى نفس النسق يقال إن (لبنى القرطبية) كانت كذلك عالمة
بالرياضيات ولها خبرة بمجال الهندسة والجبر وكانت تعمل كاتبة وناسخة في بلاط حاكم
الأندلس الخلفية الأموي الحكم المستنصر بالله.
وبالعودة إلى الموضوع الأساسي لهذا المقال
وهو التوجه الدولي لمحاولة تحفيز وتشجيع النساء والفتيات للانخراط في المهن
العلمية والتخصص في مجال الدراسات التقنية والتجريبية، تجدر الإشارة إلى أن أعداد
متزايدة من النساء مع الزمن تتجه لمزاحمة الرجال في ميادين العلم. صحيح أن النساء
هم حاليا أقلية في المجتمع العلمي ولكنها أقلية متوثبة وذات رغبة جامحة وطموح حاد
لغزو واحتلال مساحات متزايدة في المختبرات البحثية ومقاعد الدراسة الأكاديمية في
التخصصات العلمية وقد ناقشت هذه الظاهرة في عدة مقالات سابقة كان من أمثلتها مقال
(النساء قادمات .. ولو بعد حين) ومقال (نون النسوة يزاحم واو الجماعة على جوائز
نوبل).
على كل حال من المشجع أن وضع النساء يتحسن مع الزمن وأن كان ببطء فمثلا نجد أن عدد الطالبات الأمريكيات اللاتي يدرسن الكيمياء في المرحلة الجامعية في منتصف الستينات من القرن الماضي كن حوالي 20% بينما تضاعف هذا العدد حاليا ليصل ما يقارب أقل من 50% وفق إحصاءات المركز الوطني الأمريكي للإحصاءات التعليمية. ومع ذلك الإشكال حاليا ليس قلة عدد الفتيات والطالبات الراغبات في دراسة التخصصات العلمية، ولكن المشكلة تكمن في إقناعهن بإكمال مسيرتهن التعليمة العليا ونشاطهن المهني. في الواقع في الغالب توجد وفرة من الفتيات في بداية شبكة التعليم الجامعي لكنهن يتسربن ويهدرن لاحقا في شبكة الحياة والعمل. ومن هنا نستوعب الجهود المبذولة دوليا لتسهيل العوائق ورفع الحواجز عن هذه الأقلية النسائية في ميدان العلوم والتي يتوقع لهن في المستقبل دور أكثر أهمية وفعالية في تقدم عجلة التطور العلمي والتقني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق