د/ أحمد بن حامد الغامدي
في نهاية القرن الثامن عشر نشر الشاعر الإسكتلندي روبرت بيرنز في جريدة نشرة بلفاست الإخبارية قصيدة حملت عنون (خطاب لوجع الأضراس) صب فيها جام غضبه على ذلك الألم الرهيبة الذي عاناه من ذلك الضرس المنخور ولذا خاطبه منذ مطلع القصيدة بقوله: لعنتي على سُمك الواخز الذي يطلق النار على طول لثتي المعذبة ويمزق أعصابي مع ومضة الألم المرير. وفي مقابل هذه الأديب الإسكتلندي الصخّاب اللّعان نجد أن أديبنا الوديع والراقي الأستاذ حمد القاضي ينشر قبل عدة سنوات مقالا طريفا في جريدة الجزيرة حمل عنوان (مرثية ضرس) سطر فيها (رحلة فراق) عاشها مع أحد الأضراس المتورمة في فمه الذي ودعه بعدما خلعه بكل تبجيلٍ وامتنان وخاطبه في مقاله ذلك بوصفه (ضرسي العزيز).
خلال هذه الأسبوع تجددت علي كالعادة معاناة ومصاعب
التعايش مع وجع الضرس وألم الأسنان الملتهبة وقد وشوش هذا الضرر الممض صفاء أفكاري
فتعثر علي أن أجد موضوعا جديدا لمقالي الأسبوعي. وهنا تذكرت المقولة المشهورة
لشاعر العربية الفحل الفرزدق وهو وإن كان يستطيع قول الشعر حتى ولو كأنه ينحته من
صخر إلا أنه في بعض الأحيان قد يتعذر عليه تدبيج قصيدة جديدة ولهذا مذكور في كتاب
العقد الفريد أن الفرزدق قال (أنا أشعر الناس عند اليأس، وقد يأتي علي الحِين ونزع
ضرس عندي أهون من قول بيت شعر). ولكني خلافا للفرزدق ففي وقت اليأس والضيق سوف
أجعل معاناتي مع وجع الضرس مجالا لتأكيد صحة مقولة (المعاناة توأم الكتابة) ولذا
قد أوظّف الألم والأوجاع في إبداع أفكار مستحدثة وطرح تصورات مستنبطة كما حصل مع
المقال المنشور العام الماضي وقت أن شعرت بوخزة إبرة تطعيم لقاح الكورونا فكتبت
خاطرة مقـال (إبرة التطعيم وتنشيط الذاكرة).
في الأدب العربي ارتبط الفرزدق بوجع الضرس
وفي الأدب الإنجليزي كثيرا ما يتم تداول مقولة ترتبط بالشاعر الإنجليزي البارز
اللورد بايرون يرد فيها مقولة (يأتي ألم الأسنان الحقير ليذكرني بأنني بشر فاني).
في العصور القديمة لم يكن من المستغرب ربط وجع الأضراس بالموت والفناء بل أنه حتى في
العصر الفيكتوري (زمن نشوء الإمبراطورية البريطانية الكبرى قبل حوالي مائتين سنة) كانت
عملية خلع الأضراس تعد خامس سبب من مسببات الوفاة. تشير الوثائق الطبية الإنجليزية
القديمة أن المريض بألم الأسنان قد يتعرض للوفاة نتيجة للتسمم بكتيري جراء الخراج
والورم في السن أو الفك كما إن المريض قد يتعرض للتلوث الجرثومي من أدوات طبيب
الأسنان غير المعقمة.
في العادة إذا ذكر عصر الملكة الإنجليزية
فيكتوريا ربما يذكر كذلك عصر الملكة الإنجليزية الأكثر شهرة (إليزابيث الأولى) والتي
بالمناسبة كان لها قصة وأي قصة مع وجع الضرس. في شتاء عام 1578م عانت تلك الملكة
العذراء لمدة أسبوعين من آلام شديدة من تسوس أحد أضراسها والذي منعها حتى من
النوم. ونظرا لهلع وخوف الملكة إليزابيث من عملية خلع الأضراس تطوع أسقف مدينة
لندن أن يتم أمامها خلع أحد أضراسه السليمة وذلك في محاولة منه لإقناعها أن عملية
خلع الأضراس هي أمر يمكن استحماله. وبالمناسبة يقال إن الملكة إليزابيث كانت تعشق
مشاهدة المسرحيات وقد انتعش هذا النوع من الأعمال الأدبية في زمن إليزابيث لدرجة
أن مسرح عصر النهضة الإنجليزية يسمى أحيانا بالمسرح الإليزابيثي. والمقصود أنه من
المحتمل أن تلك الملكة راعية الأدب قد شاهدت وهي عجوز بعض مسرحيات الشاب شكسبير والذي
عاصرها وكان من رعاياها. ولهذا هل يمكن أن نخمن أن شكسبير كان يريد أن يجامل تلك الملكة
الرعديدة من وجع الأضراس عندما أورد في مسرحيته الهزلية (جعجعة بلا طحن) على لسان
أحد شخصيات المسرحية قوله: لأنه لم يكن هناك قط فيلسوف يمكنه بصبر تحمل وجع الأسنان.
يبدو أنه للتعامل مع حالة الهلع والنفور من
عملية خلع الأضراس لن نسترشد بالفلاسفة كما لمّح شكسبير، ولكن الأفضل استشارة
علماء النفس لمحاولة فهم إدارة الألم وتخطي الضغوط النفسية المرتبطة بوجع الأضراس.
وهذا بالفعل ما يقوم بهم قسم علم النفس بالجامعة الأردنية بعمان من طرح مقرر
أكاديمي مخصص لطلاب كلية طب الأسنان يحمل اسم (علم النفس لطب الأسنان).
أدب الإحساس بوجع الأضراس
ما سبق سوقه من المعاناة مع ألم الأسنان يقودنا
للصورة النمطية المريعة (لطبيب الأسنان) وفزع غالبية البشر من تلك المهنة التي صورتها
الذهنية (الكماشة) وصوتها الأزيز الحاد لمبرد الحفر ولهذا لا عجب أن النماذج التي
وردت في الأدب عن أطباء الأسنان سيئة وسلبية. منذ المرحلة الجامعية وعندما قرأت
لأول مرة قصة (عقرب أفندي) لملك القصة القصيرة العربية الأديب المصري المحبوب يحي
حقي، منذ ذلك الوقت لم أجلس قط على كرسي طبيب الأسنان إلا وتذكرت تلك القصة القصيرة
البديعة. المحور الأساسي لتلك القصة هي لمعلم اللغة العربية الصارم والعنيف الشيخ عبد
الباسط والذي من بغض طلابه له يلمزونه بلقب (عقرب أفندي). وبعد تقاعد ذلك المعلم
المرعب ذهب في شيخوخته إلى أحد تلاميذه القدامى الذي أصبح طبيب أسنان وكله رغبه أن
يعالجه بالمجان أو يخفض له على الأقل فاتورة العلاج وبالرغم من أنه كان يشكو من مرض
بسيط في اللثة إلا أن طبيب الأسنان استغل الفرصة للانتقام العاصف ولهذا هول من خطر
وجع الأسنان وقال لمعلمه البائس: لا ينقذك إلا أن تخلع بقية أضراسك وإلا كان هلاكك
بالبيوريا قريبا. وعندما استسلم الشيخ المتهالك من خوف الفناء من هذا المرض المزعوم
قام طبيب الأسنان اللئيم بخلع جميع أسنانه بدون وضع مخدر كافي وكذلك تعمّد إحداث
أكبر قدر من الألم ولهذا تقصّد (أن أقلقل أضراسه وأحركها داخل اللحم الحي قبل أن
أقتلعها).
طبيب الأسنان في قصة يحي حقي خلع جميع أضراس
مدرسة بسبب الغل والحقد أما طبيب الأسنان في قصة (برنيس) لملك القصة القصيرة
الإنجليزية الأديب الأمريكي إدغار ألن بو فهو قد خلع جميع أسنان مريضه، ولكن بدافع
الحب هذه المرة. كما هو معرف أغلب القصص القصيرة لإدغار ألن بو تصنف في فئة أدب
الرعب ويبدو أن عالم طب الأسنان المفزع ألهم مثل هذه الأعمال الأدبية المرتبطة
بخلع الأسنان. في تلك القصة القصيرة يقع طبيب الأسنان ليس فقط في عشق ابنه عمه
برنيس التي يتقدم لخطبتها والزواج منها، ولكنه أيضا يقع في مرض وهوس الإعجاب
بأسنانها بالذات. ولهذا بعد أن توفيت تلك الشابة فجأة نتيجة إصابتها بمرض غريب دفع
وسواس وهوس التملك بطبيب الأسنان الممسوس بأن ينبش قبرها ويخرج جثتها ويقلع جميع
أسنانها ويحتفظ بها في علبة صغيرة.
وفي الختام نعود لما بدأنا به فبعد هذه المزاوجة الثنائية بين الأدب العربي والأدب الغربي في علاقتهما بوجع الأضراس ومجال طب الأسنان وبعد أن ذكرنا شواهد من المعاناة مع وجع الضرس بمثال من الشعر الغربي والنثر العربي سوف نعكس السياق ونختم بمقاطع تصف وجع الأسنان مستله من النثر الغربي والشعر العربي.
في العمل الأدبي والفلسفي العميق الذي ألفه
الروائي الروسي الكبير دوستويفسكي بعنوان (رسائل من تحت الأرض) يعرض لنا شخصية معقدة
ناقش من خلالها أعماق الشخصية البشرية وما يهمنا هنا وصفه لشخصية بطل الرواية
المتقلب الفكر والمتذبذب المشاعر. فهو في بداية الأمر عندما يصاب بوجع الضرس يصرح
بشكل غريب بقوله (حسناً .. حتى في وجع الأسنان هناك متعة !!) ومع الاستمرار في سرد
النص نصل إلى الموضع الذي يتحول فيه الألم إلى عذاب بعد أن يستمر لعدة شهور وهنا
يخاطبه الوجع بقوله (أنا أقلقك، أنا أمزق قلبك، أنا أبقي كل من في المنزل مستيقظ.
حسنا، ابق أنت أيضا مستيقظا تشعر كل دقيقة بوجع الأسنان).
وأما القصيدة العربية عن وجع الأضراس فهي
بالفعل تثبت أنه من المحتمل أن يكون في (وجع الأسنان متعة) كما تفلسف دوستويفسكي
وذلك أن شاعر النيل الأديب المصري محمود غنيم عندما عانى لفترة من الزمن مع وجع
الأسنان ثم خلع ذلك الضرس كتب فيه قصيدة رثاء حملت عنوان (صاحب آويته) كان منها:
صاحبٌ آويتُهُ خمسين عاماً ما له
في كنفي ملَّ المُقاما
بين فكّي ولساني صُنته لم يَلُك إثماً ولم يمضغ حراما
أيها الخلُّ الذي خاصمني غيرَ
مُبقٍ، لستُ آلوك الخصاما
أيُّها الضرس الذي أرّقتني بعد ما
اعتادت جفوني أن تناما
أيها المُنبتُّ عن أقرانه بات من بعدك في ذُلِّ اليتامى
بعضةُ غاليةٌ من جسدي بيدي
وسّدتها أمسِ الرّغاما
دُفنت دون احتفالٍ ومضت لم
يُرق في إثرها الدمعُ سِجاما
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق