د/ أحمد بن حامد الغامدي
للبعض منا يعتبر فصل الشتاء موسم للخمول
والكسل وضعف الإنتاجية، ولكن في المقابل نجد أن شرائح واسعة من العلماء والمخترعين
لا يعانون من ظاهرة (البيات الشتوي) ولهذا على خلاف المتوقع قد يكون موسم الشتاء
من أكثر فصول سنة إنتاجية علمية بسبب التفرغ شبه الكامل (لأجواء) البحث العلمي. الاكتشافات
العلمية والاختراعات التقنية التي تم التوصل لها في زمن الشتاء كثيرة ومتنوعة وما
سوف يتم استقراؤه أو استدعائه في هذا المقال هو عينة مختارة تبين بحق أن جذوة الابتهاج
النفسي بتحقيق اكتشاف علمي قد تؤجج زخم النشاط البحثي لبذل المزيد من الجهد حتى في
أجواء الشتاء الكئيبة والمكبلة كما نشعر به هذه الأيام مع موجة الصقيع الأخيرة على
منطقتنا العربية.
ولعلنا نبدأ بذكر مدير جامعة فورتسبورغ
الألمانية والذي بالرغم من مشاغله الإدارية الجمة إلا أنه استمر يعمل بحماس
واجتهاد في مختبره العلمي. ولهذا في بداية شتاء عام 1895م وبالتحديد في يوم الثامن
من شهر نوفمبر توصل عالم الفيزياء الألماني المعروف فليهام روتنجن إلى اكتشاف أشعة
إكس والذي يعتبر أحد أبرز الاكتشافات الفيزيائية في العصر الحديث. وحتى يتأكد روتنجن
من صحة اكتشافه العلمي وكذلك لمحاولة تفسير تلك الأشعة الغريبة والجديدة تماما على
علماء الفيزياء انعزل روتنجن لمدة ثلاثة أسابيع في مختبره بعيدا عن طلبته ومهامه
الإدارة وهذا ما أثمر فيض وزخم كبير في تقدم المعرفة العلمية في هذا المجال.
في العادة الاكتشافات العلمية تحتاج لفترة
زمنية أولاً للتوصل لها وثانياً للتأكد منها وثالثاً لتقديمها للمجتمع العلمي ورابعاً
لمحاولة توظيفها والاستفادة منها. ومع ذلك وخلال أسابيع قليلة جدا خلال شتاء تلك
السنة بذل روتنجن جهوداً متواصلة لتعريف المجتمع العلمي بهذا الاكتشاف وخلال أيام
قليلة تم الاستفادة منه في التطبيقات الطبية واختراع أجهزة محسنة لإنتاج هذه الأشعة
الجديدة. والأغرب من ذلك أنه في نفس تلك الفترة تقريبا حاول بعض العلماء تكرار
تجارب روتنجن وهنا قادتهم أبحاثهم تلك إلى اكتشافات علمية مذهلة إضافية كما حصل مع
عالم الفيزياء الفرنسي هنري بيكريل الذي ساقته أبحاثه عن أشعة إكس إلى أن يكتشف
بمحض الصدفة ظاهرة النشاط الإشعاعي لبعض العناصر الكيمائية. ولاحقا وبعد مده من
الزمن وفي ظروف تجريبية ليست مختلفة كثيرا توصل عالم الفيزياء البريطاني جوزيف
طمسون إلى اكتشاف الإلكترون والذي يعتبر أحد أهم الاكتشافات العلمية في جميع العصور.
والمقصود أنه بزخم النشاط العلمي خلال أشهر الشتاء الكئيبة توصل روتنجن لفتح
بوابات الاكتشافات العلمية المتتابعة لأبرز ركائز العلوم الحديثة ولهذا ليس من
المستغرب أن يتم تكريمه بمنحه أول جائزة نوبل في الفيزياء وذلك في عام 1901
ميلادي.
إذا كانت ليلي الصيف تمنح السمر فإن ليالي
الشتاء تورث الحكمة حيث إن هدوء وسكون الليالي الشاتية يوفر الفرصة الكافية
للتفكير والتدبر ولهذا لا عجب أن بعض أهم الاكتشافات العلمية تمت في سكون الليل
وليس في ضجيج المعامل والمختبرات. في أول يوم من عام 1697م وكهدية رأس السنة قام عالم
الرياضيات السويسري يوهان برنولي بطرح مسألة معقد جدا في علم الرياضيات تسمى مشكلة
(منحنى الزمن الأقصر) وبحكم أن أبرز وأهم علماء الرياضيات في ذلك الزمن هم علماء
الرياضيات الناطقين باللغة الألمانية في سويسرا وألمانيا والنمسا فقد تحداهم برنولي
أن يحلوا هذه المسألة الرياضية في ستة أشهر. وتقريبا في مثل أيامنا هذه من آخر شهر
يناير من عام 1697م أي بعد ثلاثة أسابيع من طرح تلك المسألة الرياضية قام أحدهم
بإيصالها إلى عملاق العلوم إسحاق نيوتن. وخلال ليله واحدة من ليالي الشتاء استطاع
نيوتن ليس فقط بالتوصل إلى حل تلك المسألة العويصة، ولكن لتطوير فرع جديد من علوم
الرياضيات يدعى حساب المتغيرات. وبعدئذ قام نيوتن بإرسال الحل الرياضي لهذا التحدي
العلمي إلى الجمعية الملكية في لندن ليتم نشره على المجتمع العلمي وقد حرص نيوتن
على أن يتم النشر بدون أن يذكر اسمه بمعنى أن يكون صاحب الحل مجهولا. لاحقا عندما
وصل الحل إلى برونلي خمن بشكل سليم أن من توصل لذلك الحل هو نيوتن ويقال إن برونلي
علق على ذلك بقوله (إني أعرف الأسد من مخلبه).
زخم الاكتشافات العلمية في الشتاء
ومن (ومضة) الإبداع لدى نيوتن في إحدى ليالي
الشتاء لحل مسألة رياضية واحدة إلى (فيض) وغزارة الإبداع والابتكار لدى نيوتن في اكتشاف
إحدى أهم وأحدث فروع علم الرياضيات الحديثة ألا وهو علم التفاضل والتكامل وقبل ذلك
اكتشف نظرية ذات الحدين. حسب وصف نيوتن نفسه أنه في نوفمبر من عام 1665م توصل لذلك
المفهوم الرياضي الإبداعي وكان ذلك في القصة المشهورة عندما حدث وباء الطاعون
الكبير في تلك السنة وتم إغلاق جامعة كامبريدج ولهذا عاد الشاب نيوتن إلى مدينة
الريفية الهادئة وولسثورب وهنالك توالت سلسلة الاكتشافات العلمية المذهلة
والمتوالية بسرعة لهذا الشاب الصغير فيما عرف باسم (سنة العجائب). علاقة إسحاق نيوتن
بالشتاء وثيقة فهو أصلا مولود في يوم عيد الميلاد الكريسماس (25 ديسمبر) وبالإضافة
لاكتشافه الرياضي السابق الذكر يذكر نيوتن أنه في شهر يناير من مطلع سنة 1666
توصل إلى وضع أسس نظريته
المشهور حول طبيعة الضوء وعلم البصريات. طبعا الأهم من ذلك أنه خلال تلك (السنة العجائبية)
لنيوتن وبعد تفكيره العميقة مجال علم الحركة والميكانيكا توصل إلى قانونه الشهير
المتعلق بالجاذبية. وهذا يقودنا لقصة سقوط التفاحة الملهمة وهي غالبا قصة غير حقيقية
(ناقشت ذلك في ذلك مقال: أحداث علمية مشهورة من نسج الخيال) ومع ذلك فثمر التفاح
في بريطانيا يستمر موسومة حتى نهاية الخريف وبهذا قد يتقاطع سقوط التفاح مع
الأجواء الباردة (المؤججة) للاكتشافات العلمية الخالدة.
بعد حوالي قرنين ونصف من الزمن سوف يمر شاب
آخر بقصة مشابه في فيض الإبداع المكثف ومن سنة العجائب لنيوتن year of
wonders
ننتقل ما سمي باللغة اللاتينية Einstein's annus
mirabilis سنة المعجزات لأينشتاين. كان ذلك في عام 1905م
عندما أنجز الشاب المغمور ألبيرت أينشتاين وهو بعد في سنة 26 نشر أربعة أبحاث علمية
تعتبر معالم فارقة رئيسة غيرت تماما قوانين علم الفيزياء الحديث. يجب أن اعترف أن بعض
أشهر المقالات العلمية التي نشرها أينشتاين في تلك السنة كانت في فصل الصيف مثل
ذلك البحث عن ظاهرة التأثير الكهروضوئي (وهو ما منحه جائزة نوبل) واكتشاف أينشتاين
لمفهوم الفوتون أو ذلك البحث الأكثر شهرة عن النظرية النسبية الخاصة ومع ذلك نجد
أن لأجواء الشتاء وميضها وفيضها المحفز لذهن ذلك العبقري. في يوم 21 من شهر نوفمبر
لعام 1905م نشر أينشتاين ورقته العلمية التاريخية والتي احتوت لأول مرة على أهم
وأشهر معادلة علمية في التاريخ البشري: E = mc2 أو بالعربي الفصيح: الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.
وقبل أن نغادر ربما من الملائم الإشارة إلى
أن فيض الإبداع وطفرة العبقرية هو أمر متكرر في حياة العديد من أبرز المبدعين في
جمع مجالات المواهب البشرية وكثيرا ما نجد بعضهم ينتج أعمال إبداعية بشكل متزامن.
خذ مثلا على ذلك في مجال الكتابة والأدب أن الروائي الروسي المعروف دوستويفسكي يؤلف
روايته الذائعة الصيت (الجريمة والعقاب) بالتزامن مع كتابة روايته الممثلة لشخصيته
الحقيقة رواية (المقامر). في شتاء شهر نوفمبر من عام 1865م خطرت في ذهن دوستويفسكي
ملامح أحداث الجريمة التي سوف يقوم بها الشاب راسكولينكوف ودوافعه النفسية ثم ما
أن حلّ شهر يناير التالي إلا وقد ظهر الجزء الأول من تلك الرواية الأدبية الخالدة.
ومن الشتاء الروسي اللاذع إلى الشتاء النمساوي اللاسع ومن فن الرواية إلى عالم الموسيقى
وإذا نحن أمام قائد ذلك الفن الأبرز الموسيقار الألماني الأصل والنمساوي الإقامة
بيتهوفن. خلال الأيام والليالي الباردة من عام 1808م عكف بيتهوفن وبشكل متزامن على
تلحين اثنتين من أعماله الموسيقية البارزة وهي السمفونية الخامسة (أشهر سمفونية له
على الإطلاق والمعروفة باسم: ضربات القدر) والسمفونية السادسة وقد تم تقديم هذه
السمفونيات في نفس التوقيت وذلك في ليلة 22 ديسمبر أي قبل حلول الكريسماس بقليل.
على خلاف الموسيقار النمساوي الأشهر موزارت الذي أنتج 41 سمفونية نجد أن بيتهوفن
لم يؤلف إلا تسع سمفونيات فقط وبحكم أن اثنتين منها تم تلحينها بشكل متزامن فلا شك
أن (فيض الإبداع) وزخم العبقرية كان في أقصى مداه في ذلك الشتاء.
وهذا الرسام الإسباني بيكاسو وبحكم أنه عمّر
طويلا وبسبب السرعة النسبية في رسم بعض اللوحات السريالية التي خربشها لذا يوجد
تفاوت في تقدير عدد اللوحات والرسومات الفنية التي أنجزها قبل وفاته في سن
التسعين. البعض يقول إن عدد رسوماته لا يقل عن خمسين ألف عمل فني تشكيلي ولهذا ليس
من المستغرب على الإطلاق أنه كان يستطيع إنجاز أكثر من لوحة فنية في نفس اليوم. التميز
الفني البارز لبيكاسو وبداية شهرته المدوية حصل عندما غادر ما يسمى الحقبة الزرقاء
ثم الحقبة الحمراء في مسيرته الفنية لكي يبدع الموجه التشكيلية الجديدة المسماة بالتكعيبية
وليس من المستغرب بعد كل ما سبق ذكره أن نذكر أن هذه النقلة الفنية في مسيرة
بيكاسو حصلت في شتاء عام 1911م في مدينة باريس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق