السبت، 1 مارس 2025

( الاحتفال باليوبيل الذهبي لوحدة عربية لم تتم !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1446/8/23

 من المفترض أن عام 1974م هو عام مميز في تاريخ العرب الحديث حيث لو كانت مجريات التاريخ مرت مثل ما توقع وتنبأ المؤرخ الإنجليزي البارز أرنولد توينبي كان من المفترض أننا العالم الماضي احتفلنا بمرور نصف قرن على (الوحدة العربية) المأمولة !!. في الواقع في مثل هذا الشهر (أي شهر فبراير) من عام 1956م تقاعد أرنولد توينبي من عمله في المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن ولهذا فكر بمكافأة نفسه بالقيام برحلة حول العالم استغرقت سنة ونصف وزار فيها عدد كبير من دول أمريكا الجنوبية وقارة آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وأخرج مشاهداته من هذه الجولة في الجغرافيا والتاريخ في كتاب سماه (من الشرق إلى الغرب .. رحلة حول العالم). وبالمناسبة يهمنا هنا أن نخص بالذكر مشاهدات أرنولد توينبي عندما زار قطاع غزة في صيف عام 1957م بعد بضعة أشهر من انسحاب الجيش الإسرائيلي منه وحسب وصف توينبي كان الإسرائيليين قد أجبروا على الانسحاب بضغط من الرئيس الأمريكي أيزنهاور. ويمتدح توينبي جرأة الرئيس أيزنهاور في هذا القرار عشية الانتخابات الأمريكية وعدم رضوخه لليهود مما زاد من شعبيته لدى الشعب الأمريكي حسب تحليل توينبي وهذا ما ضمن له أن يفوز في الانتخابات بأغلبية كبيرة. فسبحان الله كيف تغير الحال في واقعنا المعاصر وبعد أن كان الرئيس الأمريكي الأول يضغط على الجيش الصهيوني على الانسحاب من غزة أصبح الرئيس الأمريكي الحالي يضغط على الشعب الفلسطيني للانسحاب والهجرة من أرضه، وكذلك تغير الحال وأصبحت الاستجابة التامة لطلبات الصهاينة هي ما يضمن النجاح في الانتخابات الأمريكية.

 على كل حال نجد أن ذلك المؤرخ البريطاني المرموق عندما أكمل في عام 1961م تأليف موسوعته الضخمة وذائعة الصيت (دراسة للتاريخ) المكونة من 12 مجلدا بذل فيها جهد 41 سنة، لذا قرر توينبي مرة أخرى القيام بجولة إضافية خصصها أغلبها لمنطقة شمال أفريقيا وأخرج مشاهداته في كتاب حمل عنوان (بين نهر النيجر ونهر النيل). وما يهمنا فيها مرة أخرى مشاهداته لقطاع غزة والذي زاره في ربيع عام 1964م وخصص لتلك الزيارة فصلا خالصا في ذلك الكتاب. يقارن أرنولد توينبي بين مشاهداته في زيارته الأول لقطاع غزة وزيارته الثانية له بعد سبع سنوات وللأسف كان تعبيره الذي كتبه عن الوضع في عزة بأنه (كان على حاله) كما كان. وبالرغم من أن أغلب قطاع غزة في ذلك التوقيت كان يقع تحت حكم (الإدارة المصرية لقطاع غزة) إلا أن أرنولد توينبي رصد في زيارته لغزة عام 1964م أنه على الجانب الإسرائيلي من خط الهدنة لا زال العديد من الفلسطينيين يعيشون في مخيمات تحت سيطرة الصهاينة اليهود. ويعلق توينبي على هذا الوضع أن قرارات الأمم المتحدة بخصوص حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة (لم تزل ورقة ميتة) ثم يكمل ويقول (بينما .. كان تصميم اللاجئين على الظفر بوطنهم المسلوب لا يزال ثابتا لا يتزعزع) وأقول تعليقا على ذلك إن ثبات أهل غزة ما زال (على حاله كما كان).

وبعد هذا التردد بين الماضي والحاضر والتطواف مع أرنولد توينبي في رحلاته للمنطقة العربية نعود لقصة التوقع الذي تنبأ به توينبي بأنه في تاريخ أقصاه عام 1974م سوف يتحد العرب في كيان سياسي واحد !!. في الواقع كان الفصل الأخير من كتاب (بين نهر النيجر ونهر النيل) لتوينبي يحمل عنوان (التكافل الإفريقي والوحدة العربية) وقد قام المترجم الفلسطيني عمر الديراوي بتغير عنوان الخاتمة لتصبح (الوحدة العربية آتية) وهي العبارة التي أختارها كذلك ذلك المترجم المتحمس رحمة الله لكي تصبح عنوان كتاب توينبي في نسخة العربية. على كل حال ما يهمنا هنا هو حالة التفاؤل العجيبة التي خرج بها أرنولد توينبي بعد زيارته لمصر والسودان والمغرب وليبيا ونيجيريا وكيف أنه ليس فقط كان واثقا من أن العرب سوف يتحدون في موعد أقصاه عام 1974م بل إنه قال (ولا يمكن حتى لألد أعداء العرب أن يضمن أن وحدتهم لن تكون قد أنجزت في ذلك التاريخ).

كما هو معروف عن المؤرخ توينبي أنه دائما يحاول استنباط دروس التاريخ وأن يقيس الأحداث الماضية على الحاضر والمستقبل ولهذا بنى توقعه ونبوءته الغريبة هذه أن الظروف في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن مواتية على الإطلاق لاتحاد دويلات وكونتونات ومقاطعات الأمة الإيطالية أو الأمة الألمانية ومع ذلك لم تمر 56 سنة من هزيمة نابليون عام 1815م إلا وألمانيا قد توحدت عام 1871م وهي نفس السنة التي توحدت فيها إيطاليا. وعلى نفس النسق توقع توينبي أنه بالرغم من الظروف الصعبة جدا في العالم العربي ومع ذلك لن تمر 56 سنة من نهاية الحرب العالمية الأولى إلا والدول العربية متوحدة في عام 1974ميلادي.

التحدي والاستجابة في الواقع العربي

كما هو معلوم الشهرة الطاغية التي حصل عليها المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي ناتجة من دراسته المكثفة لحركة التاريخ وكيفية ظهور الحضارات البشرية المتنوعة وهو ما أفرز في نهاية المطاف نظريته المشهورة باسم (التحدي والاستجابة challenge and responding). البعض يختصر اسم هذه النظرية ويصفها بـ (قانون التحدي) والذي يدور حول أن نشأة الكيان (حضارة أو دولة) إنما يحدث نتيجة تحدي كبير له مما يفرز (قوة استجابة) تقوم بمواجهة ذلك التحدي من خلال ما يسميه توينبي (الوسيلة الذهبية). وبالعودة للفصل النهائي وخاتمة كتاب توينبي السالف الذكر (بين نهر النيجر ونهر النيل) نجد أن توينبي ينبه العرب لخطورة الكياني الصهيوني ويقول ( يمتلك العالم العربي الحاضر حافز خاص واحد يدفعه إلى الاتحاد، إنه يعاني من الضغط الأجنبي، ومع أن الضغط الفرنسي والإنجليزي آخذان في التراخي، فإن الضغط الإسرائيلي ليس كذلك).

وعليه وفق نظرية (التحدي والاستجابة) فإن التحديد الكبير على العالم العربي في عام 1965م (زمن صدور كتاب توينبي) وفي الزمن المعاصر هو الخطر الإسرائيلي الذي يتبلور اليوم في أوضح صورة وهو ما سماه توينبي (الضغط الإسرائيلي) وعليه يجب أن تكون (الاستجابة) المنطقية لهذا التحدي من خلال (الوسيلة الذهبية) الوحيدة المتاحة وهي بلا شك (الوحدة العربية).

الغريب في الأمر أن أرنولد توينبي كان متفائلا بحتمية حصول الوحدة العربية بالرغم من أنه أثناء زيارته للمنطقة العربية في عام 1964م قابل الرئيس المصري جمال عبد الناصر والذي وصفه في كتابه بأنه رئيس (الجمهورية العربية المتحدة) وفق التسمية الرسمية لجمهورية مصر في ذلك الزمن وكان من المفترض أن فشل الوحدة بين مصر وسوريا والتي لم تستمر إلا لمدة أربع سنوات فقط، كان من المفترض أن ذلك الفشل يقلل من ثقة توينبي بحتمية الوحدة العربية. أود أن ألفت نظر القارئ الكريم أن هذا المقال يتم نشره في يوم السبت 22 من فبراير وهو نفس توقيت إعلان الوحدة السياسية بين مصر وسوريا في يوم 22 فبراير من عام 1958 ميلادي. الجدير بالذكر أن قبل ذلك التاريخ بحوالي أسبوع فقط وبالتحديد في يوم 14 فبراير من عام 1958م تم الإعلان عن الوحدة بين العراق والأردن فيما سمي (الاتحاد العربي الهاشمي) بحكم إنه كان اندماجا بين المملكة العراقية الهاشمية برئاسة الملك فيصل الأول ابن الشريف حسين والمملكة الأردنية الهاشمية برئاسة الملك الحسين بن طلال. وفي حين أن الاتحاد بين مصر وسوريا استمر لمدة أربع سنوات لأسف لم يستمر الاتحاد بين العرق والأردن أكثر من خمسة أشهر بسبب حصول الانقلاب العسكري الدموي الذي قاده عبد الكريم قاسم وزمرته من الضباط الأحرار.

الطريف في الأمر أن اسم (الجمهورية العربية المتحدة) الذي ارتجاله جمال عبد الناصر على عجل ليرد على تنامي قوة ما يسمى (حلف بغداد) بعد قيام الاتحاد العربي الهاشمي في العراق، ذلك الاسم الفارغ من المعنى استمر حتى نهاية السنة الأولى من حكم الرئيس المصري أنور السادات. ولكن ما كاد السادات يلغي مسمى (الجمهورية العربية المتحدة) وذلك في عام 1971م حتى أعلن في نفس تلك السنة عن قيام كيان جديد باسم جديد هو (اتحاد الجمهوريات العربية) وذلك بعد الاتحاد الصوري بين مصر وسوريا وليبيا ومن المحتمل أن ذلك كان بتأثير من معمر القذافي. ثم لما فشل ذلك الاتحاد الهزيل سارع معمر القذافي لمحاولة الاتحاد والاندماج مع تونس الحبيب بورقيبة وبشكل مرتجل مرة أخرى تم إطلاق اسم غريب على تلك الوحدة العربية المصغرة حيث سميت (الجمهورية العربية الإسلامية) وذلك في عام 1974 ميلادي. ثم بعد ذلك بعشر سنوات أي في عام 1984م حاول معمر القذافي مرة ثالثة إنشاء وحدة عربية مع المملكة المغربية هذه المرة وكان اسم تلك الوحدة (الاتحاد العربي الإفريقي) وبعد أن فشلت تلك المحاولة كسابقتها يمم القذافي وجهة شطر أفريقيا السوداء ودعا إلى إقامة الاتحاد الإفريقي وبعد أن كان يصف نفسه بأنه: عميد الحكام العرب أصبح يطالب بأن يسمى: ملك ملوك أفريقيا.

تحيا الوحدة العربية ولو بعد حين

وفي الختام قد يبدو أن احتمالية تحقق حلم الوحدة العربية بعيد المنال، بل في الواقع ذاك الحلم يزداد صعوبة في الزمن الحالي بسبب تنامي حالات الاحتقان والعداء بين الحكومات العربية. ومع ذلك لعل من الملائم ما دام أن أرنولد توينبي بنى وسوغ توقعه لحتمية حصول الوحدة العربية قياسا على ما حصل في التاريخ الأوروبي من الوحدة للممالك المتناحرة في إيطاليا. وعليه سوف نسلك سلوك المؤرخ المتفائل ونقول إنه ما دامت الممالك والدويلات الإيطالية اتحدت بعد التناحر والحروب فمن المحتمل ولو بعد حين أن تتحد بعض الدول العربية في مستقبل الأيام. كلنا نعرف كتاب (الأمير) الذي ألفه السياسي والمفكر الإيطالي المثير لجدل نيكولا ميكافيلي فيه تفصيل لفكرة الانتهازية السياسية التي نصح بها ميكافيلي أي حاكم يرغب في الاستقرار السياسي في عالم مضطرب. وبالرغم من الصورة النمطية الشنيعة عن ميكافيلي إلا أن العديد من رجال السياسة والتاريخ المعاصرون يحاولون الدفاع عنه بأنه كان بكل بساطة (ابن بيئته) ولذا فإن أفكاره اللاأخلاقية في سياسة الحكم مصدرها أنه عاش في عصر سادت فيه الصرعات والتنافس الشديد بين الدويلات المتناحرة في إيطاليا: ميلانو والبندقية وفلورنسا ونابولي وجنوا والفاتيكان في روما. وبسبب هذا التمزق والاحتراب الداخلي تعرضت الأراضي الإيطالية للغزو المتكرر من الممالك الأوروبية القوية فقد تعرضت مقاطعات ضخمة من إيطاليا للاحتلال الفرنسي أو الإسباني أو الألماني أو النمساوي وعليه في مثل هذه الأجواء السياسية السيئة كانت النصيحة السيئة لميكافيلي بالانتهازية وأن الغاية تبرر الوسيلة.

 وبعد وفاة ميكافيلي بسنوات طويلة نجد أنه فجأة كما ولد وظهر الشاب نابليون بونابرت في جزيرة كورسيكا الإيطالية الصغيرة ثم اجتاح وسيطر على أغلب الممالك الأوروبية نجد كذلك شاب إيطالي يدعى كامليو فيلبو (لاحقا سوف يدخل التاريخ تحت اسم الكونت كافور) يولد ويظهر في جزيرة سيردينا الواقعة مباشرة جنوب جزيرة كورسيكا. وبحكم أن الإمبراطورية النمساوية كانت تحتل أجزاء من إيطاليا وداخله في حروب نفوذ مع الأقاليم الألمانية لهذا تقاطعت بشكل أو آخر مسيرة الكونت كافور موحد إيطاليا مع مسيرة أوتو بسمارك موحد ألمانيا ولهذا حصل التوافق الغريب والنادر أن تتوحد إيطاليا في عام 1871م وهو نفس العالم الذي توحدت فيه ألمانيا !!.

من هذا وذاك تنفتح نافذة الأمل أنه في يوم ما حتى وإن كانت السياسة متكلسة والجغرافيا مغلقة والتاريخ جامد إلا أن الوحدة العربية أو على الأقل التكامل العربي يمكن أن يحدث لأسباب متعددة ليس أقلها استجابة ضرورية لمؤثر خارجي خطير (مثل الدعوة لتهجير جميع سكان قطاع غزة) وهذا يعني أن نبوءة أرنولد توينبي عن حتمية الوحدة العربية كانت صحيحة حتى وإن تأخر موعدها كثيرا.


 

( غطرسة القوة هل تقود واشنطن لتصبح أثينا الجديدة ؟! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1446/8/16

عندما ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية للوجود بعد إعلان الاستقلال عن التاج البريطاني في 4 من يوليو لعالم 1776 كان الآباء المؤسسين للأمة الأمريكية مثل جورج واشنطن وجون آدمز وبنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون وجيمس ماديسون وألكسندر هاملتون على درجة عالية من الثقافة بخصوص تاريخ الحضارات والإمبراطوريات القديمة مما أكسبهم حنكة سياسية عند صياغة إعلان الاستقلال. بعد حوالي 11 سنة من إعلان الاستقلال الأمريكي تم عقد مؤتمر حاشد في يوم 25 مايو من عام 1787م وذلك لصياغة الدستور الأمريكي ويقال إن توماس جيفرسون (الرئيس الثالث لأمريكا والكاتب الرئيس لإعلان الاستقلال) أرسل إلى جيمس ماديسون (الرئيس الرابع لأمريكا والمعروف بأبي الدستور الأمريكي) نسخة من كتاب (التاريخ العام للجمهورية الرومانية) للمؤرخ اليوناني القديم بوليبيوس.

البعض يقول إن هدف توماس جيفرسون من إرسال تلك النسخة من كتاب التاريخ ذاك إلى جيمس ماديسون ليدرسها ويستفيد من (دروس وعبر) التاريخ قبل أن يصوغ الدستور الأمريكي لأن تاريخ بوليبيوس يركز على جوانب القوة وكيف ظهرت وصعدت الجمهورية الرومانية وبالقطع تلك المعرفة يمكن أن تساعد في كيفية أن تصبح واشنطن هي (روما الجديدة) والقوة الصاعدة في مسرح السياسة العالمية. وفي المقابل بعض المؤرخين يقترحون أن مقصود توماس جيفرسون خلاف ذلك تماما فقد كان هدفه تجنب أن تقع واشنطن في فخ السقوط الذي وقعت فيه قديما مدينة أثينا عاصمة الإمبراطورية الإغريقية. في الواقع من أهم الأمور التي ناقشها المؤرخ اليوناني بوليبيوس في كتابه كان طرح فكرة دورانية نظم الحكم السياسية (نظرية أناسيكلوسيس Anacyclosis) وتفسير التاريخ من خلال نظرية التعاقب الدوري بمعنى أن التاريخ السياسي للدول الكبرى والإمبراطوريات يسير في دورات متتالية ومتشابه يمكن اختصاره بثلاثية: النمو ثم الصعود ثم السقوط. وبحكم أن ذلك المؤرخ اليوناني أي بوليبيوس كان حزينا على سقوط الإمبراطورية اليونانية ولهذا درس بعمق أسباب (سقوط أثينا) فربما كان هدف توماس جيفرسون من دراسة كتاب تاريخ بوليبيوس أن يجنب واشنطن في المستقبل أن تصبح (أثينا الجديدة).

من الأمور الواضحة في التاريخ الأمريكي في مرحلة التأسيس تعلق الآباء المؤسسين لأمريكا بالإرث القديم للحضارة الرومانية فمن الدستور الروماني القديم استلهموا فكرة فصل السلطات الثلاث وهي إن كانت تنسب إلى رائد التنوير الفرنسي مونتسيكو في كتابه المعروف (روح القوانين) إلا أن المؤرخ بوليبيوس أشار لها في كتابه السالف الذكر. في الواقع لفت بوليبيوس الأنظار إلى أن من أسباب قوة الجمهورية الرومانية أن دستورها مبني على مزيج من قوى ثلاث منفصله: نظام القناصل (السلطة التنفيذية) ومجلس الشيوخ (السلطة التشريعية) والشعب الروماني البديل للسلطة القضائية في الدساتير الحديثة. ومن دلائل العلاقة الوثيقة بين واشنطن (روما الجديدة) وبين روما الأصلية أن الآباء المؤسسين استلهموا فكرة البرلمان الأمريكي من مجلس الشيوخ الروماني القديم كما إن طراز عمارة مبنى الكونجرس ومبنى المحكمة العليا الأمريكية مصممة على الطراز الروماني وخصوصا مبنى البانثيون في قلب روما.

من هذا وذاك نجد أن العديد من المؤرخين ورجال السياسة كثيرا ما يصفون الولايات المتحدة الأمريكية بأنها وريثة الإمبراطورية الرومانية ويصفون كذلك العاصمة واشنطن بأنها (روما الجديدة New Rome). ونتج عن ذلك أنه عند تحليل أسباب القوة والصعود وعوامل الضعف والسقوط المؤثرة على مستقبل أمريكا كثيرا ما يتم المقارنة بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الأمريكية. والكتب في هذا المجال عديدة ومتزايدة في الفترة الأخير من مثل كتاب (هل نحن روما: سقوط إمبراطورية ومستقبل أمريكا) للكاتب والصحفي الأمريكي كولين ميرفي وكتاب (روما القديمة وأمريكا الحديثة) للباحثة الأمريكية مارغريت مالامود أستاذة التاريخ القديم في جامعة ولاية نيو مكسيكو.

ترامب على خطى بريكليس والمصير المحتوم

ومع أن العاصمة واشنطن أو مجمل الدولة الأمريكية تم وصفها من قبل العديد من المؤرخين وأهل السياسية بأنها (روما الجديدة) وكذلك وصفت من قبل المسيحيين البروتستانت (الأصوليين التطهيريين) بأنها (القدس الجديدة) إلا أنني في ضوء الأحداث الأخيرة التي حصلت في الساحة السياسية الأمريكية من بعد انتخاب الرئيس الأمريكي ترامب، أقترح بأن أفضل تسمية وتوصيف لواشنطن حاليا بأنها (أثينا الجديدة New Athens). على خلاف الجمهورية الرومانية التي تحولت إلى (إمبراطورية) في عام 27 قبل الميلاد على يد الإمبراطور الأول أغسطس، نجد أنه لا اليونان القديمة ولا أمريكا الحديثة أعلنت نفسها على أنها إمبراطورية. وبالتالي هذا أحد أوجه التشابه بين الأمة الإغريقية القديمة وبين الأمة الأمريكية الحالية ومن أوجه التقاطع والتشابه بينهما أن كلتا الأمتين كانت قوتها الضاربة في أسطولها البحري ذي الكفاءة العالية بينما في المقابل كانت قوة الإمبراطورية الرومانية في كتائب جيوشها البرية.

أمر آخر تجدر الإشارة إليه أن كلا من الأمة اليونانية والأمة الأمريكية تعرضت لحرب ضروس مع عدو خارجي شرس ففي حالة أثينا تعرضت لخطر غزو جحافل الإمبراطورية الفارسية في حين أن أمريكا واجهت عداوة ألمانيا النازية واليابان الإمبريالية في الحرب العالمية الثانية ولاحقا تصدت لمناهضة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة. ونتيجة لهذه التحديات العسكرية والسياسية العاتية اضطرت كلتا الدولتين اليونانية القديمة والأمريكية المعاصرة لتشكيل أحلاف عسكرية تحميها فالمدينة/الدولة أثينا شكلت ما يسمى الحلف الديلي Delian league المكون من تجمع حوالي مائتي مدينة أو جزيرة إغريقية، ويهدف ذلك الحلف لصد أي غزو من قبل لإمبراطورية الفارسية لأرض اليونان. أما الولايات المتحدة الأمريكية فشكلت كما نعلم جميعا حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمقاومة وردع الاتحاد السوفيتي وحلفائه.

وبالطبع مثل هذه الأحلاف العسكرية الضخمة تحتاج إلى تكاليف ماليه هائلة ولهذا الحلف اليوناني القديم الذي تشكل في عام 478 قبل الميلاد ألزم كل مدينة يونانية أن تسلم رسوم عضوية الحلف العسكري وتم تسمية هذه الدفعات المالية بـكلمة phoros وهي كلمة يونانية تعني الضريبة. الغريب في الأمر أن هذه المبالغ الضخمة التي تم فرضها على ذلك العدد الكبير من الدول والجزر المشتركة في الحلف الديلي تم تجميعها في (جزيرة ذهبية) اسمها جزيرة ديلوس Delos ومن هنا جاءت تسمية ذلك الاتحاد الحربي بالحلف الديلي. أما فيما يخص الولايات المتحدة وحلفها العسكري أي حلف الناتو نجده يتم إنشاؤه في عام 1949م وفي بداية الأمر تشكل من ثماني دول فقط قبل أن تتوسع عضويته في الوقت الحالي إلى 32 دولة. وفي حين كانت الجزيرة الذهبية في الحلف اليوناني هي جزيرة ديلوس فإن الجزيرة الذهبية للدول الدائرة في فلك ماما أمريكا هي قلعة فورت نوكس Fort Knox في شمال ولاية كنتاكي الأمريكية وهي مبنى أشبه بخزينة تحت الأرض تحتوي على أطنان احتياط الذهب الأمريكي. ينبغي التنويه إلى أن الولايات المتحدة وقبل نهاية الحرب العالمية الثانية فرضت على جميع الدول المتحالفة معها أن توقع على اتفاقية (بريتون وودز) المنبثقة عن مؤتمر النقد الدولي المنعقد عام 1944م والذي كان من أبرز قراراته إنشاء ما يسمى (صندوق النقد الدولي IMF) وتثبيت العملات الأجنبية مقابل الدولار بعد تغطيته بالذهب ومن هذا وذاك تدفقت الأموال وسبائك الذهب إلى الولايات المتحدة.

في كتابة الثوري (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) بيّن المفكر السوري ورائد النهضة العربية عبد الرحمن الكواكبي العلاقة بين الاستبداد والطغيان وبين الثروة حيث قال (إفراط الثروة مهلكة للأخلاق وهذا معنى الآية (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآهُ استغنى) ). في الواقع علاقة الطغيان بالمال تبادلية فكما أن الطغيان يقود إلى تجميع الثروة ونهب أموال الناس، فكذلك الثروة الطائلة مع توفر القوة تقود إلى الطغيان والاستبداد. وبالعودة لقصة تاريخ أثينا القديمة عندما أصبح لها قوة طاغية ومتحكمة بفضل قيادتها للحلف العسكري أصبحت مع الوقت تأخذ مبالغ مضاعفة من الإتاوة أو الجزية المالية phoros المفروضة على مدن ودويلات بحر إيجة. بل وصل الأمر لقيام الحاكم اليوناني الجنرال بريكليس بنقل جميع الذهب من معبد أبولو في جزيرة ديلوس إلى مدينة أثينا واستخدم جزء من المال لإقامة المعبد الإغريقي الأشهر البارثينون (معبد أثينا) على قمة هضبة الأكروبولس. ونتيجة لهذا التعسف في (قيادة) أثينا القديمة للحلف العسكري اليوناني بدأت بعض الدويلات والجزر اليونانية في التململ من استفراد أثينا في الحكم وسيطرتها على أموال الجزيرة الذهبية وتعاملها الخشن مع حلفائها لدرجة أنها كانت كذلك تستغل أفضل الزراعية وتنتزعها منهم. ولهذا قامت بعض تلك الدويلات المقهورة بالتواصل السري مع مدينة (أسبارطة) المنافس القوي لنفوذ أثينا في بلاد الإغريق وهذا ما شجع أسبارطة إلى إعلان الحرب ضد أثينا. وبعد أن شكلت أسبارطة حلف عسكري يدعى الحلف البيلوبونيزي دخلت مع حلف أثينا في حرب ضروس استمرت لمدة ثلاثين سنة وعرفت في كتب التاريخ باسم الحروب البيلوبونيزية والتي انتهت بهزيمة مذلة لأثينا بعد حصار طويل تسبب في انتشار وباء الطاعون والذي قضى على عشرات الآلاف من الأثينيين من ضمنهم الجنرال المتهور بريكليس الذي قاد شعبه حرفيا إلى المهالك.

من القوة الناعمة إلى القوة الغاشمة

 في ضوء ما نشاهده هذه الأيام من بلطجة وعنجهية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ربما قد توافقني الرأي أيه القارئ الكريم بأن ذلك الرئيس المثير للجدل يستحق أن يطلق عليه لقب (يريكليس الجديد). في علم الغيب معرفة مصير واشنطن والإمبراطورية الأمريكية وهل سوف تصبح (أثينا الجديدة) عندما يتشابه مصير حلفها العسكري وهيمنتها السياسية والاقتصادية مع مصير الحلف الديلي لأثينا الذي تفكك وانحل بعد تنافر الأعضاء المشكلين له. بالرغم من أن توصيف الولايات المتحدة بأنه (الإمبراطورية الأمريكية) راجع بالدرجة الأولى للقدرة العسكرية والمتانة الاقتصادية لبلاد العم سام ومع ذلك ينبغي ألا نغفل أن جزءا ملموسا من الهيمنة الطاغية لأمريكا راجع بدرجة ما أنها إذا صح التعبير (إمبراطورية مؤسساتية institutional empire). ونعني بذلك أن الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية استطاعت الهيمنة على عدد من المؤسسات الدولية المفصلية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجلس حقوق الإنسان والوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة التجارة العالمية والقائمة تطول وتطول. ومن خلال الهيمنة على مثل هذه المنظمات الدولية وأشباهها ضمنت أمريكا المزيد من النفوذ والتأثير على مجريات الساحة الدولية ومن هنا نعلم مزلق أن تؤدي غطرسة القوة للكاوبوي الأمريكي لأن ينفض السامر من حوله وتبدأ قوى دولية أخرى في محاولة مزاحمة العم سام في الهيمنة على نفس تلك المؤسسات الدولية المفصلية.

وكما حصل مع أثينا القديمة عندما سيطرت على جزيرة الذهب وفرضت على المدن الإغريقية الصغيرة أن تدفع لها الجزية وهذا ما جعل تلك الدويلات أن تغادر حلف أثينا إلى حلف أسبارطة فربما هذا ما قد يحصل اليوم مع حلفاء أمريكيا الذين تعاملهم بغطرسة ومهانة وتفرض عليهم الرسوم الجمركية ولهذا قد ينفرون من النسر الأمريكي الأصلع البشع إلى الدب الروسي أو التنين الصيني. في كتابه الرائد (القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية) نصح جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسة بجامعة هارفرد ومساعد وزير الدفاع الأمريكي، نصح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ومن بعده من القادة الأمريكان بضرورة الانتباه لأهمية (القوة الناعمة) واستخدامها كسلاح مؤثر يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال. وبموازاة مفهوم القوة الناعمة أقترح جوزيف ناي مفاهيم إضافية لتعزيز هيمنة القيادة الأمريكية للعالم مثل مفهوم (القوة الذكية) وبمثل هذه القدرات الفكرية والخبرات التحليلية في مجال السياسة الدولية أدرجت مجلة الفورين بوليسي FP جوزيف ناي في قائمتها لأفضل المفكرين في العالم. لقد برز جوزيف ناي في زمن الرئيس بيل كيلنتون واستمر تأثيره لفترة الرئيس باراك أوباما وهو ما أفرز فكرة محاولة احتواء الخطر الصيني من خلال تعزيز العلاقات التجارية والسياسية لأمريكا مع دول جنوب شرق أسيا وأفريقيا الأمر الذي تمثل في جولات أوباما المتكررة للدول الأفريقية بينما في أول زيارة له لآسيا في عام 2009م أطلق أوباما خطته عن (العودة الأمريكية إلى آسيا).

والمقصود أنه بإتباع سياسة الاحتواء الحصيفة من خلال القوة الناعمة والقوة الذكية أمكن لأمريكا عبر العقود الطويلة تشكيل أحلاف عسكرية وتكتلات اقتصادية كانت خط الدفاع الأول لها. واليوم وفي الأسابيع الأولى من حكم سيد البيت الأبيض الجديد بدأت أمريكا تشكل مصدر خطر لجيرانها المباشرين وسبب قلق لحلفائها الأوروبيين. بينما القوة الناعمة لأمريكا تتلاشى مع إعلانها إيقاف برنامج المساعدات الخارجية الدولية واحتمالية إلغاء الوكالة الأمريكية الدولية (USAID) والتهديد بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية وتكرار الانسحاب من اليونيسكو. هذا فضلا عن إثارة الخلافات في حزب الناتو أو التصادم مع منظمة التجارة العالمية أو التهور لدرجة إصدار عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية !!. عندما ترشح دونالد ترامب لأول مرة رفع شعار (أجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) وهو ما يسمى أحيانا حركة ماجا MAGA وهي اختصار ذلك الشعار (Make America Great Again) ولكن مع الجنون والغباء الذي نشهده هذه الأيام أقترح تحويل شعار MAGA إلى شعار MAD وهي كلمة إنجليزية تعني: مجنون وقد تعني بكل بساطة أنها الأحرف الأولى من عبارة (أجعل أمريكا معزولة Make America Detached).