د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/8/9
قبل فترة من الزمن كتبت مقالا اخترت أن يكون عنوانه (شهر يونيو .. موسم الاستكشاف والسفر) وقد كان كنوع من فتح الشهية لمن يرغب في السفر في الصيف أن يستعد للتجهيز لذلك ابتداءً من شهر يونيو الذي بينت أنه عبر التاريخ تزامن مع كشوفات جغرافية بارزة مثل اكتشاف أستراليا وكندا ومركز القطب المتجمد الجنوبي وبداية التجهيز لاكتشاف أمريكا. الجدير بالذكر أن شهر يونيو تزامن كذلك مع بداية رحلة ابن بطوطة في عام 1325م (الموافق شهر رجب من عام 725 هـ) وبحكم أننا الآن في بداية شهر شعبان وهو نفس الشهر الذي توافق مع نهاية رحلة ابن بطوطة وذلك في عام 750 هـ عندما وصل ابن بطوطة لمدينة فاس التي كما ذكر في كتابه (ألقيت عصى التسيار بها). وإذا كان شهر شعبان وافق خاتمة رحلات ابن بطوطة فنفس هذا الشهر وافق خاتمة حياة ثاني أهم وأشهر رحالة عربي إلا وهو ابن جبير الأندلسي بعد أن ألقى عصى الترحال في مدينة الإسكندرية علما بأن الرحلة الثانية لأبن جبير كانت نهايتها كذلك في شهر شعبان من عام 586 هجري.
ومنذ العصر الجاهلي ولشهر شعبان بالذات ارتباط وثيق بالترحال والسفر حيث يقال إن تسمية شهر مأخوذة من التشعب لأنه العرب كانت تتشعب فيه وتتفرق للحرب والإغارات والترحال في سبيل الغزو بعد قعودهم في شهر رجب المحرم. وسوف أستند لارتباط معنى شهر شعبان بالانتقال وكسر الجمود للحديث عن أخبار الرحالة العرب في الزمن المعاصر بعد أن طال الجمود بقصر الحديث دوما عن العصر الذهبي للرحلة العربية في العصور الغابرة. جميعنا يعلم رواد الآفاق والرعيل الأول من الرحالة العرب مثل ابن بطوطة وابن جبير وابن فضلان والمسعودي والإدريسي ولكن الغريب في الأمر ان أكثرهم شهرة وهو المغربي ابن بطوطة هو في الواقع آخرهم من حيث العصر الذي ظهر فيه. والمشكلة أن الرحالة العرب الذين جابوا بقاع الأرض بعد ابن بطوطة تلاشت تقريبا شهرتهم وأصبحوا شبه مجهولين لأبناء زمننا المعاصر ومع ذلك سوف نصل ما انقطع بالبدء من أرض المغرب الذي وضع بها عصى التسيار أهم رحالة عربي ومنها بدأت قصة أغرب رحالة عربي منسي.
في حدود عام 1503م ولد شاب يدعى مصطفى الأزموري في مدينة أزمور المغربية ومن المحتمل أنه تعرض لعملية خطف من قبل سرية عسكرية برتغالية أغارت على المغرب ثم لاحقا تم بيعة في سوق العبيد في إسبانيا بعد أن سيطر عليها النصارى. ومع بداية عصر الاكتشافات الجغرافية والتنافس بين البرتغاليين والإسبان تم تجنيد الشاب مصطفى ضمن حملة المستكشف الإسباني ألفار دي فاكا ومن هنا دخل صاحبنا التاريخ الغربي بعد أن أعتنق المسيحية وتحول اسمه إلى إستيفانيكو وساهم في استكشاف فلوريد ويقال إنه أول من اكتشف أراضي ولايتي أريزونا ونيومكسيكو. وفي كان مصطفى الأزموري هو أول عربي يصل إلى أمريكا الشمالية نجد أن من المحتمل أن الرحالة والقسيس الكاثوليكي إلياس الموصلي ربما يكون هو أو عربي يصل إلى أراضي أمريكا الجنوبية. في عام 1668م بدأ الموصلي رحلة من بغداد إلى القدس وبحكم تدينه الكنسي رغب في زيارة روما في إيطاليا ومن هنالك انتقل إلى إسبانيا ليعبر إلى أمريكا الجنوبية بهدف المشاركة في الدعوة المسيحية وهذا ما أوصله إلى فنزويلا وبنما والأرجنتين وتشيلي والبيرو ونيكاراجوا وغواتيملا قبل أن يمم شطره نحو المكسيك. والجدير بالذكر أن هذا الرحالة العراقي كتب يومياته ومشاهداته الشيقة والغريبة في قارة أمريكا الجنوبية ووثقها في كتاب حمل عنوان (رحلة أول شرقي إلى أمركة) وهي الرحلة التي انتهت عام 1683م وقد كان ينوي الرجوع لمدينة بغداد عن طريق الإبحار غربا باتجاه إلى الجزر الفلبينية ومنها إلى العراق.
مع الأدباء في السياحة والسفر
بعد فشل محاولة الرحالة العراقي إلياس الموصلي العودة لبغداد من المكسيك بالسفر نحو الغرب توالت بعد ذلك بقرون نجاح عدد من الرحالة العرب في هذا المسعى ولعل أولهم والله أعلم الصحفي والرحالة المصري البارز أنيس منصور حيث تمكن من ذلك عام 1981م حيث سافر غربا وعاد شرقا بينما قبل ذلك بحوالي عشرين سنة قام أي في عام 1962م سافر باتجاه مشرق الشمس وعاد من جهة مغرب الشمس. وفي واقعنا المحلي تجدر الإشارة إلى أن الرحالة السعودي الشيخ حمد الجاسر يستعرض في كتابه الفريد (إطلالة على العالم الفسيح بين الشرق والغرب) كيف قام في عام 1407 هـ برحلة حول العالم بدأت في الغرب وانتهت في الشرق. لقد سافر علامة الجزيرة حمد الجاسر من الرياض باتجاه الغرب إلى مدينة ميونخ وبعد أن زار جنيف وفيينا ولندن وهولندا وبرلين وروما وباريس ومدريد وكاليفورنيا وولاية تكساس (قال إن طبيعة أرض شمال تكساس تشبه طبيعة أرض الطائف) بدأت رحلة العودة لمدينة الرياض من جهة الشرق. لقد انتقل شيخ الجغرافيين العرب حمد الجاسر من غرب الولايات المتحدة مسافرا بالطائرة إلى جزر هاواي ومنها إلى اليابان ثم الصين فالفلبين وماليزيا وتايلند والهند والباكستان ثم العودة للرياض.
السفر غربا والعودة شرقا والترحال في (دورة مع الشمس) لم تكن تلك التجربة السياحية والرحلة المعرفية خاصة بالشيخ حمد الجاسر ففي الواقع عبارة (دورة مع الشمس) هي عنوان كتاب أدب الرحلات الذي ألّفه الأديب السعودي عبد الكريم الجهيمان والذي رصد فيه تفاصيل مشاهداته وذكرياته للرحلة التي قام بها عام 1397 هجري. لقد ارتحل الأديب الجهيمان من الرياض إلى لندن ومنها أنتقل في جولة في المدن الأمريكية وما يهمني أنا شخصيا أنه قال رحمة الله بأن أرض أريزونا وجبالها تشبه أرض الطائف وجباله. وكما تطابقت وجهة نظر حمد الجاسر عن تكساس وعبد الكريم الجهيمان عن أريزونا بأنها تشبه طبيعة مدينة الطائف التي ولدت فيها فكذلك تشابه خط الرجعة من جهة الغرب لكل منهاما فالجهيمان كذلك سافر من كالفورنيا غربا إلى جزر هاواي ثم مر على اليابان والصين ثم إلى البحرين فالرياض.
بلا شك أحد أهم وأبرز الرحالة العرب المعاصرين هو الشيخ محمد بن ناصر العبودي الذي يقال إنه زار حوالي 160 بلد وأنتج حوالي 143 كتابا عن أدب الرحلات في مختلف بلدان العالم وهذا أمر معروف ومعلوم للجميع. ولكنني في هذا المقال أرغب أكثر في تسليط الضوء على نوعية خاصة من الرحالة العرب وهم الأدباء والشعراء الذين لهم إسهام في الجوانب الثقافية والمعرفية من خلال تأليف الكتب في (أدب الرحلات). فهذا الأديب والشاعر والجغرافي الكبير عبد الله بن خميس أشتهر برحلاته الداخلية التي أثمرت مثلا كتاب (المجاز بين تهامة والحجاز) ومع ذلك له بعض الرحلات في خارج المملكة كان من ضمنها رحلة قام بها في عام 1412هـ مع بعض أبنائه إلى مدينة سان دييغو في جنوب ولاية كاليفورنيا واتجهوا بسيارة كارفان مستأجرة شمالا حتى مدينة فانكوفر في غرب كندا. وبالمناسبة أثمرت هذه الرحلة الأمريكية واحدا من أواخر الكتب التي ألفها الأديب أبن خميس وهو كتاب (جولة في غرب أمريكا) الذي أصدره عام 1414هـ علما بأن أول كتاب ألّفه ابن خميس على الإطلاق كان عن أدب الرحلات والذي أنتجه عام 1374هـ وحمل عنوان (شهر في دمشق).
وبعد هذه (الرحلة) في البعد الثقافي للرحالة العرب المعاصرين في مستواهم المحلي أود الانتقال للاستعراض السريع للجوانب الثقافية لبعض الأدباء والشعراء العرب الذين اشتهروا بكثرة أسفارهم وترحالهم بين دول العالم ومساهمتهم في ترسيخ مفهوم أدب الرحلات. الشاعر اللبناني الكبير أحمد فارس الشدياق تميز بالريادة الأدبية كما حظي بالريادة السياحية في نهاية القرن التاسع عشر فبعد سنوات من الإقامة في لندن وباريس أصدر في عام 1857م كتابة الماتع والمهم (كشف المُخبّا عن أحوال أروربا) وفيه إشارة لزيارته لجزر صقلية ومالطا ومدن نابولي وجنوا ومرسيليا وليون. أما الرائد الثاني للرحالة العرب فهو الأديب والمفكر السوري البارز محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي والذي قام في بداية القرن العشرين بثلاث رحلات إلى الدول الأوروبية. وبعد زيارة فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا والنمسا وسويسرا والمجر واليونان وأرض البلقان أخرج محمد كرد علي في عام 1924م كتابه الثري بالمعلومات والغني بالأدب (غرائب الغرب).
منذ زمن رفاعة الطهطاوي وكتابة الأشهر (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) ولمدينة باريس حضور طاغ ومستمر في تشكيل أدب الغربة وأدب المدن ولهذا هي أكثر مدينة غربية زارها كبار الأدباء العرب مثل أحمد شوقي وطه حسين وتوفيق الحكيم. وبحكم أن باريس كانت فاتنة الأدباء العرب لهذا لا غرابة أن تجدها هي محور رواية (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم ورواية (قنديل أم هاشم) لرائد القصة القصيرة يحي حقي ورواية (الحي اللاتيني) للروائي اللبناني سهيل إدريس. وبحكم أننا في وارد رصد مؤلفات الرحالة العرب عن السياحة في الخارج ولهذا نكتفي بالإشارة إلى أن الكتاب المصري الكبير الدكاتره زكي مبارك أبدع كتابا حمل عنوان (ذكريات باريس) الصادر عام 1931م وهو نفس عنوان كتاب الأديب عبد الكريم الجهيمان (ذكريات باريس) عن رحلته لباريس في منتصف القرن العشرين. بينما في مطلع القرن العشرين قام المفكر والأديب المصري أحمد زكي شيخ العروبة برحلة إلى باريس ختمها بإصدار كتابه (الدنيا في باريس) الصادر في عام 1900 ميلادي.
المهنة صحفي والهواية سائح !!
صحيح أن بعض مشاهير الرحالة العرب مثل ابن بطوطة وابن جبير الأندلسي كان الدافع الأساسي لبداية سلسلة رحلاتهم المشهورة بهدف أداء فريضة الحج. ومع ذلك يمكن بالجملة أن نصف الرعيل الأول من الرحالة العرب بأنهم كانوا جغرافيين ومؤرخين دافعهم للترحال والسفر جمع المعلومات كما نجد ذلك واضحا في حال ياقوت الحموي واليعقوبي والمسعودي والإدريسي والإصطخري وابن حوقل وأبو عبيد البكري. بينما في المقابل نجد أن الموجة الثانية من الرحالة العرب تتشكل في الغالب من الأدباء والكتاب والمفكرين الذين كان دافعهم للسفر هو البحث عن الثقافة واكتساب المعرفة بالعالم الفسيح ولهذا الغالبية العظمى منهم كانت سفرياته للبلدان والشعوب خارج الوطن العربي كما أشرنا لشيء من ذلك عند الشدياق ومحمد كرد علي وحمد الجاسر. ومن الكُتّاب والرحالة العرب الذين تجدر الإشارة لهم الرحالة المصري محمد ثابت الذي ألف سلسلة من ستة كتب حملت عنوان (العالم كما رأيته) والتي وصف فيها بالتفصيل جولاته السياحية المتعددة في صيف كل عام بداية من سنة 1936م وزار خلالها أكثر 56 في كل قارات الأرض. للأسف شخصية الرحالة محمد ثابت شبه مجهولة بالرغم من أنه ربما أول شخص عربي في التاريخ يتمكن من زيارة أغلب دول العالم كما نعرفها اليوم ولهذا كتبه الستة يغطي كل كتاب منها قارة من القارات الخمس المعروفة بإضافة لكتاب خاص عن قارة أستراليا وما حولها من جزر المحيط الهادي مثل نيوزلندا وفيجي وساموا وهاواي.
على كل حال استمرت منذ بداية القرن العشرين موجات جديدة من الرحالة العرب والذين امتازوا بأن لهم ارتباطا بالصحافة وكتابة التحقيقات والمراسلات الصحفية. ولهذا توثيقهم للرحلات والأسفار التي قاموا بها كانت في بداية الأمر تتم عليه هيئة مقالات صحفية وتغطية إعلامية تنشر في الصحف والمجلات ثم يتم تجميعها لاحقا على هيئة كتاب في أدب الرحلات. أحد أقدم الكتاب العرب الذين كتبوا مقالات صحفية عن رحلاتهم ربما هو الكاتب المصري محمود رشاد بك الذي نشر منذ عام 1923م سلسلة مقالات في جريدة الأهرام وغيرها من الصحف عن جولاته السياحية في الدول الأوروبية وكان قبل ذلك قد نشر كتاب مستقل عن رحلته عام 1914م إلى روسيا كان عنوانه (رحلة إلى روسيا).
وبما أن سيرة المقالات الصحفية وأدب الرحلات انفتحت فبالقطع أحد أهم وأشهر الرحالة العرب في الزمن المعاصر هو الكاتب الصحفي أنيس منصور صاحب كتاب (حول العالم في 200 يوم) الذي نشره في عام 1962م وفي أكثر من 600 صفحة ذكر تفاصيل مشاهداته في الهند وسيلان وسنغافورة وأستراليا والفلبين واليابان وهاواي وأمريكا. بينما في كتابه الآخر (غريب في بلاد غريبة) يقص علينا أنيس منصور بأسلوبه الماتع ذكرياته في عدد إضافي من الدول المميزة مثل ألمانيا وإيطاليا وسويسرا وروسيا وكوبا. ومرة أخرى كان أصل هذه الكتب التي ألفها أنيس منصور (وأيضا كتابه الساخر اللهم إني سائح) هي مقالات وتحقيقات صحفية كانت تنشر في جريدة أخبار اليوم وبالمناسبة يذكر أنيس منصور في مقدمة كتاب (حول العالم في 200 يوم) أن بداية مشوار تلك الرحلات والجولات هو السفر إلى غرب الهند لكتابة تقرير صحفي عن ولاية كيرالا.
وتقريبا على خطى أنيس منصور نجد أنه في واقعنا المحلي أشتهر كثيرا الكاتب الصحفي والرحالة السعودي الأستاذ فهد عامر الأحمد عندما نشر كتابه الرائع (حول العالم في 80 مقال) وذلك بعد أن قام بانتقاء مجموعة كبيرة من مقالاته التي كان ينشرها في جريدة الرياض عن جولاته السياحية المميزة. ومن جريدة الرياض إلى جريدة الشرق الأوسط حيث نجد الكاتب السوري محي الدين الللاذقاني ولعدة سنوات يكتب مقالات أدبية متنوعة فيها ومن بعض مقالات أدب الرحلات التي نشرها في جريدة الشرق الأوسط وغيرها أصدر في عام 2004م كتابه الأدبي الرفيع (نورس بلا بوصلة .. رحلات إلى مدن العشق والأسطورة). وعلى نفس النسق قامت الصحفية والأديبة المصرية هالة البدري بتجميع مقالات أدب الرحلات التي كانت تنشرها في مجلة روز اليوسف ومجلة صباح الخير وجريدة الخليج وأخرجتها في كتاب بعنوان (سحر الأمكنة) صدر عام 2017م استعرضت فيه رحلاتها المتعددة خلال ربع قرن إلى أمريكا والدول الأوروبية والدول الآسيوية وأغلب الدول العربية.
ختاما أود أن أشير على عجل أن الموجة الرابعة من الرحالة العرب تتميز بأن أغلب من يوثق السفر والجولات السياحية هم من الهواة من جيل تقنية وسائل التواصل الاجتماعي ولهذا بدل لقب الرحالة ربما يفضل بعضهم لقب (اليوتيوبر) أو (مشهور السناب).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق