د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/8/23
من المفترض أن عام 1974م هو عام مميز في تاريخ العرب الحديث حيث لو كانت مجريات التاريخ مرت مثل ما توقع وتنبأ المؤرخ الإنجليزي البارز أرنولد توينبي كان من المفترض أننا العالم الماضي احتفلنا بمرور نصف قرن على (الوحدة العربية) المأمولة !!. في الواقع في مثل هذا الشهر (أي شهر فبراير) من عام 1956م تقاعد أرنولد توينبي من عمله في المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن ولهذا فكر بمكافأة نفسه بالقيام برحلة حول العالم استغرقت سنة ونصف وزار فيها عدد كبير من دول أمريكا الجنوبية وقارة آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وأخرج مشاهداته من هذه الجولة في الجغرافيا والتاريخ في كتاب سماه (من الشرق إلى الغرب .. رحلة حول العالم). وبالمناسبة يهمنا هنا أن نخص بالذكر مشاهدات أرنولد توينبي عندما زار قطاع غزة في صيف عام 1957م بعد بضعة أشهر من انسحاب الجيش الإسرائيلي منه وحسب وصف توينبي كان الإسرائيليين قد أجبروا على الانسحاب بضغط من الرئيس الأمريكي أيزنهاور. ويمتدح توينبي جرأة الرئيس أيزنهاور في هذا القرار عشية الانتخابات الأمريكية وعدم رضوخه لليهود مما زاد من شعبيته لدى الشعب الأمريكي حسب تحليل توينبي وهذا ما ضمن له أن يفوز في الانتخابات بأغلبية كبيرة. فسبحان الله كيف تغير الحال في واقعنا المعاصر وبعد أن كان الرئيس الأمريكي الأول يضغط على الجيش الصهيوني على الانسحاب من غزة أصبح الرئيس الأمريكي الحالي يضغط على الشعب الفلسطيني للانسحاب والهجرة من أرضه، وكذلك تغير الحال وأصبحت الاستجابة التامة لطلبات الصهاينة هي ما يضمن النجاح في الانتخابات الأمريكية.
على كل حال نجد أن ذلك المؤرخ البريطاني المرموق عندما أكمل في عام 1961م تأليف موسوعته الضخمة وذائعة الصيت (دراسة للتاريخ) المكونة من 12 مجلدا بذل فيها جهد 41 سنة، لذا قرر توينبي مرة أخرى القيام بجولة إضافية خصصها أغلبها لمنطقة شمال أفريقيا وأخرج مشاهداته في كتاب حمل عنوان (بين نهر النيجر ونهر النيل). وما يهمنا فيها مرة أخرى مشاهداته لقطاع غزة والذي زاره في ربيع عام 1964م وخصص لتلك الزيارة فصلا خالصا في ذلك الكتاب. يقارن أرنولد توينبي بين مشاهداته في زيارته الأول لقطاع غزة وزيارته الثانية له بعد سبع سنوات وللأسف كان تعبيره الذي كتبه عن الوضع في عزة بأنه (كان على حاله) كما كان. وبالرغم من أن أغلب قطاع غزة في ذلك التوقيت كان يقع تحت حكم (الإدارة المصرية لقطاع غزة) إلا أن أرنولد توينبي رصد في زيارته لغزة عام 1964م أنه على الجانب الإسرائيلي من خط الهدنة لا زال العديد من الفلسطينيين يعيشون في مخيمات تحت سيطرة الصهاينة اليهود. ويعلق توينبي على هذا الوضع أن قرارات الأمم المتحدة بخصوص حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة (لم تزل ورقة ميتة) ثم يكمل ويقول (بينما .. كان تصميم اللاجئين على الظفر بوطنهم المسلوب لا يزال ثابتا لا يتزعزع) وأقول تعليقا على ذلك إن ثبات أهل غزة ما زال (على حاله كما كان).
وبعد هذا التردد بين الماضي والحاضر والتطواف مع أرنولد توينبي في رحلاته للمنطقة العربية نعود لقصة التوقع الذي تنبأ به توينبي بأنه في تاريخ أقصاه عام 1974م سوف يتحد العرب في كيان سياسي واحد !!. في الواقع كان الفصل الأخير من كتاب (بين نهر النيجر ونهر النيل) لتوينبي يحمل عنوان (التكافل الإفريقي والوحدة العربية) وقد قام المترجم الفلسطيني عمر الديراوي بتغير عنوان الخاتمة لتصبح (الوحدة العربية آتية) وهي العبارة التي أختارها كذلك ذلك المترجم المتحمس رحمة الله لكي تصبح عنوان كتاب توينبي في نسخة العربية. على كل حال ما يهمنا هنا هو حالة التفاؤل العجيبة التي خرج بها أرنولد توينبي بعد زيارته لمصر والسودان والمغرب وليبيا ونيجيريا وكيف أنه ليس فقط كان واثقا من أن العرب سوف يتحدون في موعد أقصاه عام 1974م بل إنه قال (ولا يمكن حتى لألد أعداء العرب أن يضمن أن وحدتهم لن تكون قد أنجزت في ذلك التاريخ).
كما هو معروف عن المؤرخ توينبي أنه دائما يحاول استنباط دروس التاريخ وأن يقيس الأحداث الماضية على الحاضر والمستقبل ولهذا بنى توقعه ونبوءته الغريبة هذه أن الظروف في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن مواتية على الإطلاق لاتحاد دويلات وكونتونات ومقاطعات الأمة الإيطالية أو الأمة الألمانية ومع ذلك لم تمر 56 سنة من هزيمة نابليون عام 1815م إلا وألمانيا قد توحدت عام 1871م وهي نفس السنة التي توحدت فيها إيطاليا. وعلى نفس النسق توقع توينبي أنه بالرغم من الظروف الصعبة جدا في العالم العربي ومع ذلك لن تمر 56 سنة من نهاية الحرب العالمية الأولى إلا والدول العربية متوحدة في عام 1974ميلادي.
التحدي والاستجابة في الواقع العربي
كما هو معلوم الشهرة الطاغية التي حصل عليها المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي ناتجة من دراسته المكثفة لحركة التاريخ وكيفية ظهور الحضارات البشرية المتنوعة وهو ما أفرز في نهاية المطاف نظريته المشهورة باسم (التحدي والاستجابة challenge and responding). البعض يختصر اسم هذه النظرية ويصفها بـ (قانون التحدي) والذي يدور حول أن نشأة الكيان (حضارة أو دولة) إنما يحدث نتيجة تحدي كبير له مما يفرز (قوة استجابة) تقوم بمواجهة ذلك التحدي من خلال ما يسميه توينبي (الوسيلة الذهبية). وبالعودة للفصل النهائي وخاتمة كتاب توينبي السالف الذكر (بين نهر النيجر ونهر النيل) نجد أن توينبي ينبه العرب لخطورة الكياني الصهيوني ويقول ( يمتلك العالم العربي الحاضر حافز خاص واحد يدفعه إلى الاتحاد، إنه يعاني من الضغط الأجنبي، ومع أن الضغط الفرنسي والإنجليزي آخذان في التراخي، فإن الضغط الإسرائيلي ليس كذلك).
وعليه وفق نظرية (التحدي والاستجابة) فإن التحديد الكبير على العالم العربي في عام 1965م (زمن صدور كتاب توينبي) وفي الزمن المعاصر هو الخطر الإسرائيلي الذي يتبلور اليوم في أوضح صورة وهو ما سماه توينبي (الضغط الإسرائيلي) وعليه يجب أن تكون (الاستجابة) المنطقية لهذا التحدي من خلال (الوسيلة الذهبية) الوحيدة المتاحة وهي بلا شك (الوحدة العربية).
الغريب في الأمر أن أرنولد توينبي كان متفائلا بحتمية حصول الوحدة العربية بالرغم من أنه أثناء زيارته للمنطقة العربية في عام 1964م قابل الرئيس المصري جمال عبد الناصر والذي وصفه في كتابه بأنه رئيس (الجمهورية العربية المتحدة) وفق التسمية الرسمية لجمهورية مصر في ذلك الزمن وكان من المفترض أن فشل الوحدة بين مصر وسوريا والتي لم تستمر إلا لمدة أربع سنوات فقط، كان من المفترض أن ذلك الفشل يقلل من ثقة توينبي بحتمية الوحدة العربية. أود أن ألفت نظر القارئ الكريم أن هذا المقال يتم نشره في يوم السبت 22 من فبراير وهو نفس توقيت إعلان الوحدة السياسية بين مصر وسوريا في يوم 22 فبراير من عام 1958 ميلادي. الجدير بالذكر أن قبل ذلك التاريخ بحوالي أسبوع فقط وبالتحديد في يوم 14 فبراير من عام 1958م تم الإعلان عن الوحدة بين العراق والأردن فيما سمي (الاتحاد العربي الهاشمي) بحكم إنه كان اندماجا بين المملكة العراقية الهاشمية برئاسة الملك فيصل الأول ابن الشريف حسين والمملكة الأردنية الهاشمية برئاسة الملك الحسين بن طلال. وفي حين أن الاتحاد بين مصر وسوريا استمر لمدة أربع سنوات لأسف لم يستمر الاتحاد بين العرق والأردن أكثر من خمسة أشهر بسبب حصول الانقلاب العسكري الدموي الذي قاده عبد الكريم قاسم وزمرته من الضباط الأحرار.
الطريف في الأمر أن اسم (الجمهورية العربية المتحدة) الذي ارتجاله جمال عبد الناصر على عجل ليرد على تنامي قوة ما يسمى (حلف بغداد) بعد قيام الاتحاد العربي الهاشمي في العراق، ذلك الاسم الفارغ من المعنى استمر حتى نهاية السنة الأولى من حكم الرئيس المصري أنور السادات. ولكن ما كاد السادات يلغي مسمى (الجمهورية العربية المتحدة) وذلك في عام 1971م حتى أعلن في نفس تلك السنة عن قيام كيان جديد باسم جديد هو (اتحاد الجمهوريات العربية) وذلك بعد الاتحاد الصوري بين مصر وسوريا وليبيا ومن المحتمل أن ذلك كان بتأثير من معمر القذافي. ثم لما فشل ذلك الاتحاد الهزيل سارع معمر القذافي لمحاولة الاتحاد والاندماج مع تونس الحبيب بورقيبة وبشكل مرتجل مرة أخرى تم إطلاق اسم غريب على تلك الوحدة العربية المصغرة حيث سميت (الجمهورية العربية الإسلامية) وذلك في عام 1974 ميلادي. ثم بعد ذلك بعشر سنوات أي في عام 1984م حاول معمر القذافي مرة ثالثة إنشاء وحدة عربية مع المملكة المغربية هذه المرة وكان اسم تلك الوحدة (الاتحاد العربي الإفريقي) وبعد أن فشلت تلك المحاولة كسابقتها يمم القذافي وجهة شطر أفريقيا السوداء ودعا إلى إقامة الاتحاد الإفريقي وبعد أن كان يصف نفسه بأنه: عميد الحكام العرب أصبح يطالب بأن يسمى: ملك ملوك أفريقيا.
تحيا الوحدة العربية ولو بعد حين
وفي الختام قد يبدو أن احتمالية تحقق حلم الوحدة العربية بعيد المنال، بل في الواقع ذاك الحلم يزداد صعوبة في الزمن الحالي بسبب تنامي حالات الاحتقان والعداء بين الحكومات العربية. ومع ذلك لعل من الملائم ما دام أن أرنولد توينبي بنى وسوغ توقعه لحتمية حصول الوحدة العربية قياسا على ما حصل في التاريخ الأوروبي من الوحدة للممالك المتناحرة في إيطاليا. وعليه سوف نسلك سلوك المؤرخ المتفائل ونقول إنه ما دامت الممالك والدويلات الإيطالية اتحدت بعد التناحر والحروب فمن المحتمل ولو بعد حين أن تتحد بعض الدول العربية في مستقبل الأيام. كلنا نعرف كتاب (الأمير) الذي ألفه السياسي والمفكر الإيطالي المثير لجدل نيكولا ميكافيلي فيه تفصيل لفكرة الانتهازية السياسية التي نصح بها ميكافيلي أي حاكم يرغب في الاستقرار السياسي في عالم مضطرب. وبالرغم من الصورة النمطية الشنيعة عن ميكافيلي إلا أن العديد من رجال السياسة والتاريخ المعاصرون يحاولون الدفاع عنه بأنه كان بكل بساطة (ابن بيئته) ولذا فإن أفكاره اللاأخلاقية في سياسة الحكم مصدرها أنه عاش في عصر سادت فيه الصرعات والتنافس الشديد بين الدويلات المتناحرة في إيطاليا: ميلانو والبندقية وفلورنسا ونابولي وجنوا والفاتيكان في روما. وبسبب هذا التمزق والاحتراب الداخلي تعرضت الأراضي الإيطالية للغزو المتكرر من الممالك الأوروبية القوية فقد تعرضت مقاطعات ضخمة من إيطاليا للاحتلال الفرنسي أو الإسباني أو الألماني أو النمساوي وعليه في مثل هذه الأجواء السياسية السيئة كانت النصيحة السيئة لميكافيلي بالانتهازية وأن الغاية تبرر الوسيلة.
وبعد وفاة ميكافيلي بسنوات طويلة نجد أنه فجأة كما ولد وظهر الشاب نابليون بونابرت في جزيرة كورسيكا الإيطالية الصغيرة ثم اجتاح وسيطر على أغلب الممالك الأوروبية نجد كذلك شاب إيطالي يدعى كامليو فيلبو (لاحقا سوف يدخل التاريخ تحت اسم الكونت كافور) يولد ويظهر في جزيرة سيردينا الواقعة مباشرة جنوب جزيرة كورسيكا. وبحكم أن الإمبراطورية النمساوية كانت تحتل أجزاء من إيطاليا وداخله في حروب نفوذ مع الأقاليم الألمانية لهذا تقاطعت بشكل أو آخر مسيرة الكونت كافور موحد إيطاليا مع مسيرة أوتو بسمارك موحد ألمانيا ولهذا حصل التوافق الغريب والنادر أن تتوحد إيطاليا في عام 1871م وهو نفس العالم الذي توحدت فيه ألمانيا !!.
من هذا وذاك تنفتح نافذة الأمل أنه في يوم ما حتى وإن كانت السياسة متكلسة والجغرافيا مغلقة والتاريخ جامد إلا أن الوحدة العربية أو على الأقل التكامل العربي يمكن أن يحدث لأسباب متعددة ليس أقلها استجابة ضرورية لمؤثر خارجي خطير (مثل الدعوة لتهجير جميع سكان قطاع غزة) وهذا يعني أن نبوءة أرنولد توينبي عن حتمية الوحدة العربية كانت صحيحة حتى وإن تأخر موعدها كثيرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق