د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/7/18
بعد غد أي يوم الإثنين الموافق 20 يناير سوف يتم تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ويستعيد تولي مهام الحكم في الولايات المتحدة وبالتالي سوف تتجه أنظار ساسة العالم إلى سلوك سيد البيت الأبيض وهل سوف ينفذ تهديدات الفجة بإعادة السيطرة على قناة بنما أو هل بالفعل سوف يسعى لضم كندا وتحويلها لمجرد ولاية أمريكية أو لعب دور السمسار هو وابنه في عملية شراء جزيرة جرينلاند.
وبغض النظر عن جدية الرئيس ترامب في تنفيذ هذه التهديدات أو التهويشات السياسية أو أن الأمر مجرد مزحة سياسية وقحة ومع ذلك نجد في الواقع أن السيد ترامب رجل الأعمال والرئيس الأمريكي الساعي إلى فتح أسواق جديدة للهيمنة الأمريكية هو في حقيقة الحال يمشي على خطى الرواد من الآباء المؤسسين لأمة الأمريكية أو جنرالاتها العسكريون الذين تولى 13 منهم منصب الرئيس. في الواقع مع الزمن تمدد ما يمكن تسميته (إرث التوسع) الأمريكي من مجرد الاتجاه غربا وتطبيق سياسة (التوسع غربا westward expansion) التي بدأها الرئيس الثالث لأمريكيا توماس جيفرسون عام 1803م بشراء ولاية لويزيانا من فرنسا بمبلغ 15 مليون دولار، وصولا إلى أكبر احتلال عسكري نفذته أمريكيا وهو غزوها للجزر الفلبينية وانتزاعها من الإمبراطورية الإسبانية وذلك عام 1898 ميلادي.
الطريف والمزعج في ذات السياق أنه بعد سنة واحدة من احتلال الأمريكيين لجزر الفلبين خرج الأديب البريطاني روديارد كيبلنغ بمصطلح (عبء الرجل الأبيض The white man burden) وهو عنوان قصيدته التي كتبها عام 1899م وفيها يبارك ويؤيد الإمبريالية الأمريكية وسيطرتها على الشعوب المتخلفة مثل الشعب الفلبيني وذلك بهدف نقلهم من حياة التخلف والهمجية الشرقية إلى حياة التحضر والتقدم الغربية، وبالمناسبة كيبلينغ هو نفسه من صك عبارة (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا). وبهذا نعلم أنه تحت الشعارات الرنانة مثل (عبء الرجل الأبيض) وكذبة (نشر الديمقراطية) والدفاع عن حقوق الإنسان قامت الدول والحكومات الاستعمارية الغربية ليس فقط بتنفيذ منهجية (التوسع غربا) بل توسعت وهيمنت غربا وشرقا وفي جميع الجهات.
وفي مقابل الحاجة الذاتية للسلطة الحاكمة في الولايات الأمريكية في مطلع القرن التاسع عشر بضرورة التوسع غربا وتبرير ذلك بالضرورة السياسية لوحدة المصير لكامل القارة الأمريكية الشمالية نجدها كذلك تخترع بدعة أو كذبة جديدة لتبرير التمدد خارج جغرافيا الحدود الأمريكية. ومن هنا في منتصف القرن التاسع عشر ومع بداية الصدام مع الجار الجنوبي (المكسيك) بدأ رجال السياسة والجنرالات الأمريكيان في توسيع مفهوم (القدر الواضح manifest destiny) وهو أن مصير وقدر ورسالة المستوطنين الأمريكان في شرق القارة الأمريكية أن يتوسعوا إلى (الغرب المتوحش wild west) وضم الأراضي التي يعيش عليها الهنود الحمر لينشروا النماء والحضارة فيها. وبحجة أن مهمة الأمة الأمريكية (American mission) هي إنقاذ العالم من خلال فرض أسلوب الحياة الأمريكية على الشعوب والدول، ولذا وبدافع من الإيمان الراسخ من قبل الساسة الأمريكيان أن القدر الإلهي كتب عليهم هذه الرسالة والمهمة لذا كان يجب عليهم التوسع واحتلال أراضي الدول المتاخمة لهم. وهذا ما تمثل في تحرش أمريكا بالمكسيك وكان من تداعيات الحرب المكسيكية الأمريكية أن سيطرت الولايات المتحدة على مساحات شاسعة من لأراضي المكسيكية وذلك بعد ان ابتلعت المناطق التالية: تكساس وكاليفورنيا وأريزونا ونيفادا وكولورادو ونيومكسيكو وأوكلاهوما وكنساس ويوتاه ووايومنغ.
مساحة تلك الولايات الأمريكية الجنوبية التي احتلتها أمريكيا قد تزيد عن نصف المساحة الكلية التي كانت تملكها المكسيك قبل أن تتورط في كارثة الحرب مع جار السوء رجل الكاوبوي. وتجدر الإشارة أنه قبل حوالي أسبوع عندما أعلن الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب عن رغبته في تغيير اسم (خليج المكسيك) إلى خليج أمريكيا مؤكدً أن هذه الخطوة سوف تكون جزءا من السياسة الجديدة لإدارته. ولهذا سرعان ما كان الرد من السيدة كلاوديا شينباوم رئيسة المكسيك التي صرحت في مؤتمر صحفي أن ترامب ما زال يعيش في الماضي ولهذا عرضت خريطة قديمة للمكسيك وأمريكا توضح المناطق التي احتلتها أمريكا ولهذا أقترح رئيسة المكسيك أنه بدلا من تعديل اسم خليج المكسيك لربما الأفضل تعديل اسم أمريكا لتصبح (أمريكا المكسيكية).
الجدير بالذكر أن الحرب الأمريكية المكسيكية غيرت بشكل جذري معالم الحدود الجنوبية لأمريكا وكذلك الأمر فيما يتعلق بالحرب الأمريكية الكندية التي وقعت خلال الفترة 1812-1815م والتي كان من آثارها تغيير معالم الحدود الشمالية لأمريكا. صحيح أن أمريكا لم تحتل مساحات شاسعة من جارتها الشمالية كندا كما فعلت بجارتها الجنوبية المكسيك ومع ذلك لم تكن سيطرة الحكومة الأمريكية نافذة تماما على الولايات الشمالية إلا بعد أن هزمت قبائل السكان الأصليين من الهنود الحمر المتحالفين مع القوات البريطانية والكندية. بمعنى أن من نتائج الحرب الكندية الأمريكية التي انتهت عام 1815م أن أحكمت الحكومة الأمريكية سيطرتها النافذة على الولايات الشمالية الهائلة (أوهايو وإنديانا وميتشيغان وإلينوي ومنيسوتا وويسكونسن).
نجوم ودول مخرزه على العلم الأمريكي
من أبرز توابع نهاية حرب أمريكا مع إقليم كندا العليا الخاضع للتاج البريطاني أن انتهى إلى الأبد تهديد الأساطيل البريطانية وجنودها للولايات الأمريكية الثلاث عشر المستقلة والمتحالفة لتكوين الاتحاد الأمريكي. ولهذا في عام 1814م وبعد الانتصار على كندا ومن خلفها الإمبراطورية البريطانية قام شاعر أمريكي مغمور بتأليف قصيدة حملت عنوان (الراية الموشحة بالنجوم) والتي سرعان ما أصبحت النشيد الوطني الأمريكي (The Star Spangled Banner). بقي أن نقول إن الراية الموشحة بالنجوم البيضاء والخطوط الحمراء والبيضاء هي علم وراية أمريكا والتي كانت في عام 1814م تحتوي فقط على 15 نجمة: منها 13 نجمة لتكريم المستعمرات (الولايات) الأمريكية الثلاثة عشر التي خاضت حرب الاستقلال عن التاج بريطانيا بينما النجمتين الإضافيتين كانتا من نصيب ولايتي فيرمونت وكينتاكي التي انضمتا لاحقا للدولة الوليدة. وكما هو معلوم فإن كل نجمة في العلم الأمريكي ترمز لولاية من الولايات التي تنضم للاتحاد الأمريكي ولهذا مع الزمن كلما تمكنت أمريكا من غزو أراضي الدول الأخرى زاد عدد النجوم على علم أمريكا ورايتها الموشحة بالنجوم. فمثلا بعد انتهاء الحرب المكسيكية الأمريكية السالفة الذكر وابتلاع أمريكا الولايات المذكورة في الأعلى ارتفع عدد نجوم العلم الأمريكي فجأة من من 20 نجمة إلى 33 نجمة !!. وهكذا مع الزمن أخذت تزداد النجوم البيضاء على العلم الأمريكي بشكل متدرج حتى وصلنا إلى عام 1959م عندما أضيفت آخر نجمتين للعلم والتي تمثل إحداهما ولاية ألاسكا والأخرى ولاية هاواي.
وعلى ذكر ولاية هاواي وهي آخر ولاية تنظم للولايات الأمريكية المتحدة تجدر الإشارة إلى أنها كانت دولة مستقلة وذات سيادة حتى عام 1898م عندما تعرضت لاحتلال الأساطيل الأمريكية المتجهة عبر المحيط الأطلسي لكي تغزو الجزر الفلبينية. في الواقع لم ينته القرن التاسع عشر إلا والولايات المتحدة قد دخلت في عدة حروب كبرى أولها الحرب الأمريكية الكندية وأوسطها الحرب الأمريكية المكسيكية وآخرها الحرب الأمريكية الإسبانية والتي بدأت عام 1898م وذلك عندما ساعدت أمريكا كوبا في مسعاها للاستقلال عن إسبانيا. ومن هذه اللحظة تحولت أمريكا من قوة إقليمية مهيمنة على فقط على القارتين الأمريكية والشمالية والجنوبية (حسب مبدأ الرئيس الأمريكي مونرو) إلى قوة استعمارية كبرى لها مستعمرات في الفلبين في جنوب شرق آسيا وجزيرة بورتوريكو في أمريكا الوسطى والتي احتلتها منذ عام 1898م وحتى الآن. ومن غرائب البلطجة الأمريكية في السياسة الدولية أن الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عندما أعلن في عام 1823م (مبدأ مونرو) والذي ينص على أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح لأي دولة أوروبية أن تتدخل أو تحتل أي من بلدان نصف الكرة الغربي نجد أن هذا الرئيس نفسه يقوم بمزاحمة الدول الأوروبية على احتلال الدول والمناطق الخصبة في قارة أفريقيا. ففي عام 1820م سهلت الحكومة الأمريكية لمجموعة من المستعمرين الأمريكان احتلال إقليم في الساحل الغربي لأفريقيا أطلق عليه اسم (ليبيريا) وكان اسم عاصمته مدينة (مونروفيا) على اسم الرئيس الأمريكي جيمس مونرو !!.
صحيح أنه في الوقت الحالي لا توجد مستعمرات أمريكية ذات أهمية كبيرة فبالإضافة لجزيرة بورتوريكو تحتل أمريكا جزيرة غوام في غرب المحيط الهادي وهي ذلك الإقليم التي أرسل عليه رئيس كوريا الشمالية المجنون عدد من الصواريخ التي سقطت في المحيط على مسافة منها وكأنه يهدد أمريكا بأنه يستطيع أن يقصف التراب الأمريكي. وكذلك حاليا تحتل أمريكا جزر صغيرة غير ذات بال مثل جزر ساموا وجزر العذراء وأترك للقارئ الكريم أن يبحث عن مكان هذه المستعمرات على الخريطة ومع ذلك هذا لا يعني أنه ليس للأمريكان أطماع توسعية. عندما وصل هتلر إلى سلطة الحكم في ألمانيا قبل حوالي قرن من الزمن لم يكن يوجد على إطلاق أي مستعمرة تابعة لألمانيا بعد استيلاء الحلفاء على كامل مستعمرات الإمبراطورية الألمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وهذا ما دفع هتلر والشعب الآري الألماني من خلفه لرد إهانة الشروط المجحفة لمعاهدة فيرساي وهذا ما انعكس بالرغبة الجامحة في استرداد أمجاد ألمانيا العظمى مما أفرز في نهاية المطاف غزو أغلب القارة الأوروبية. ويبدو أن الرئيس ترامب صاحب شعار (اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) ومن خلفه الملايين من الأمريكان البيض العنصريين سوف يحاولون فرض مهابة وهيمنة الكاوبوي بطرق متعددة لعل من ضمنها الخروج عن القانون الدولي واحتلال مناطق ومدن الدول الأخرى.
السرقة الأمريكية حتى لفضلات الطيور !!
من المحتمل أن تكون أول دولة أو منطقة جغرافية مهمة قد يرغب ترامب وحكومته المتطرفة في احتلالها هي دولة (بنما) والتي هدد بالفعل بإعادة السيطرة عليها بحجة أن قناة بنما تم حفرها بواسطة الحكومة الأمريكية. للبعض قد يكون ادعاء ملكية قناة بنما هي دعوى سخيفة مثل سخافة لو حصل وطالبت فرنسا بملكية قناة السويس لمجرد أن المهندس الفرنسي دي لسبس هو من خطط وأشرف على مشروع حفر القناة ولأن فرنسا ساهمت في الاكتتاب المالي لإنشاء الشركة التي نفذت المشروع. ومع ذلك الخطر حقيقي من أن ينفذ الرئيس ترامب القسم الذي أطلقه في يوم السابع من يناير بأن يعيد السيطرة الأمريكية على هذا الممر التجاري الهام علما بأن أمريكا بالفعل نفذت في الماضي العديد من المؤامرات القذرة للسيطرة على القناة. في أول الأمر ساندت أمريكا مجموعة من المتمردين على الانشقاق عن دولة كولومبيا المالكة الأصلية لقناة بنما ثم عام 1903م ساعدتهم على إعلان استقلال دولة بنما بشرط أن تمتلك أمريكا حق تشغيل القناة لزمن غير محدد. وفقط في الشهور الأولى من حكم الرئيس الأمريكي المسالم والطيب جمي كارتر في عام 1977م تمكنت دولة بنما من امتلاك كامل السيادة القومية على أرض القناة ليأتي الآن السيد ترامب ويريد أن يعيدها جذعه ويسيطر بالبلطجة الاقتصادية أو والهيمنة العسكرية على أراضي دولة مستقلة.
لقد تعلمنا من التاريخ الحكومات الأمريكية ومنذ قرون كيف كانت عنيفة في تأمين مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية ولهذا إعادة احتلال قناة بنما لمجرد عرقلة خط التجارة الصينية أمر وارد فالأمريكان مستعدون لارتكاب أشنع الحماقات في سبيل تحقيق مصالحهم. ومن أغرب ما يمكن ذكره هنا في عنجهية وبلطجة أمريكا في احتلال أراضي الغير أنه صدر في عام 1856م قانون من الكونجرس الأمريكية يدعى (قانون جزر ذراق الطيور) والذي ينص بكل بساطة أنه يحق للأفراد والحكومة الأمريكية السيطرة وتملك أي جزيرة غير مؤهلة تحتوي على تجمعات كبيرة من براز وفضلات الطيور والخفافيش (الذراق) والذي كان وقتها يستخدم في عملية تصنيع البارود. ونتيجة لذلك احتلت أمريكا أكثر من مائة جزيرة صغيرة في منطقة الكاريبي وفي شرق المحيط الهادي. فإذا كانت أمريكا دخلت في صراع مع دول أمريكا اللاتينية لمجرد السيطرة والتحكم في مناجم وكهوف ذراق وبراز الطيور والخفافيش، ألا يمكن أن تشعل حروبا لأجل السيطرة على موارد اقتصادية حيوية ومواقع جغرافية استراتيجية.
بعد عقود وعقود من الزمن تدخلت فيها أمريكا في الشأن الداخلي للمكسيك وبعد احتلالها لنصف أراضي المكسيك وبعد رغبة الرئيس ترامب لتحويل مسمى خليج المكسيك إلى اسم خليج أمريكيا، فمن هذا وذاك يسترجع البعض المقولة المشهرة للرئيس المكسيكي الأسبق بروفيريو دياز (مسكينة هي المكسيك .. لبعدها عن الله ولقربها من أمريكا !!). ويبدو أن البلطجة الأمريكية في مستقبل الأيام سوف تشمل البعيد قبل القريب بل وربما قد يصل التدخل والتخريب الأمريكي حتى الدول الأوروبية فمنذ أيام والوزير المحتمل في الحكومة الأمريكية الجديدة إيلون ماسك يتحرش بالقيادة السياسية في بريطانيا وألمانيا !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق