د. أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1444/6/27
من الأقوال المنسوبة إلى الأديب والكاتب الأمريكي مارك توين قوله (من السهل أن تخدع الناس، ولكن من الصعب أن تقنعهم بأنك خدعتهم !!) وأصدق مثال لهذه المقولة ما حصل الأسبوع الماضي عندما أعلن أحد أبرز وأشهر مناصري نظرية (الأرض المسطحة) وهو اليوتيوبر والكاتب الأمريكي جران كامبنلا أنه كان على خطأ في بعض تصوراته فيما يتعلق بفكرة الأرض المسطحة. لسنوات طويلة قام جران كامبنلا بإدارة قناة على اليوتيوب مخصصة لدعم نظرية الأرض المسطحة ومع ذلك قبل أيام عندما قام برحلة إلى القارة المتجمدة الجنوبية لرصد ظاهرة الشمس التي لا تغيب طوال ساعات اليوم (وهي ظاهرة فلكية تدحض تماما نظرية الأرض المسطحة) وعندها خرج جران كامبنلا بتصريح تناقلته وسائل الإعلام العالمية بكثافة حيث قال مخاطبا (جمهوره): حسنا أيه الرفاق .. أحيانا في الحياة تكونون على خطأ.
بلا شك فإن جران كامبنلا لم يكن يقصد أن يخدع (جمهوره) الذي كان لسنوات وبأساليب مختلفة يجتهد في إقناعهم بنظرية الأرض المسطحة، ولكن عندما تبين له بعض جوانب الخلل في هذه النظرية وأخبر جمهوره ورفقاؤه بهذا الأمر كان من الصعب عليه (كما تنبأ مارك توين) أن يقنعهم بأنه كان على خطأ. ولذا مباشرة بعد تصريحه الصادم ذاك يقال إن بعض مؤيديه السابقين اتهموه بأنه أخذ رشاوي لكي يغير أفكاره كما زعموا أن مقطع الفيديو الذي صوره ونشره من القطب المتجمد الجنوبي هو مقطع مفبرك وعبارة عن رسوم وتمثيل في مسرح كبير !!. في كتابه الشيق (متعة العلم) ناقش عالم الفيزياء البريطاني الجنسية والعراقي الأصل جيم الخليلي مفهوم (المنهج العلمي) وكيف أن العلم يتميز عن غيره من المعارف البشرية بأنه يصحح نفسه بنفسه ويعترف بالأخطاء. وعندما قارن جيم الخليلي بين العلماء ومدعي العالم الزائف مثل أصحاب نظرية الأرض المسطحة قال: على عكس العلماء .. لن يكون منظرو مؤامرة الأرض المسطحة مستعدين لرفض نظريتهم عند تقديم أدلة دامغة تثبت كروية الأرض مثل صور ناسا من الفضاء التي تُظهر تحدب كوكبنا.
لا يحتاج الأمر ليصعد الواحد منا إلى محطة الفضاء الدولية لكي يشاهد تحدب سطح الأرض أو يلتقط صورا لكوكب الأرض من على ظهر سطح القمر كما فعل رواد الفضاء في رحلات أبولو لكي يثبت كروية الأرض وإنما يكفي السفر كسائح خلال هذه الأيام بالذات إلى القطب المتجمد الشمالي أو الجنوبي. بسبب أن الأرض كروية الشكل وتدور حول محورها بزاوية مائلة مقدارها 23.5 درجة لهذا في فصل الشتاء تقبع مدينة مورمانسك الروسية في ظلام دامس طوال اليوم والليلة ولمدة 40 يوما لأنها تقع شمال الدائرة القطبية الشمالية لهذا هي في أقصى منطقة عن الشمس فلا تشرق عليها أبداً في ظاهرة فلكية تدعى (الليل القطبي). وعلى العكس من ذلك فظاهرة النهار القطبي المشهورة باسم (شمس منتصف الليل Midnight sun) يمكن رصدها في الليالي التي تقع حول 21 ديسمبر حيث يمكن متابعة ورصد الشمس طوال ساعات اليوم والليل المفترض وهي تحوم في السماء قرب الأفق ولا تغيب أبدا. الغريب أن هذه المواقع الجغرافية في القطبين الشمالي والجنوبي وبسبب هذه الظواهر الفلكية الفريدة أصبحت ذات جذب سياحي ملموس فالمئات سنويا يزورون مدينة مورمانسك الروسية لكي يحظوا بتجربة الليل القطبي في حين أن العشرات من السياح الأثرياء يمكن أن يدفعوا آلاف الدولارات لكي شاهدوا بأعينهم ظاهرة (شمس منتصف الليل) وأفضل مكان لها هو محطة أبحاث أمندسن/سكوت في مركز القارة المتجمدة الجنوبية.
قديما الأرض في مركز الكون كروية وليست مسطحة
في العقود الأخيرة انتشرت بشكل غريب ومريب (بدعة القول) بنظرية الأرض المسطحة وخصوصا في الولايات المتحدة حيث يوجد بها عشرات الجمعيات والمنظمات والأندية التي تؤمن بهذه النظرية وتعقد لها سنويا مؤتمرات ضخمة يحضرها عدد غفير من (المغفلين في الأرض). في استطلاع للرأي عن مدى انتشار نظريات المؤامرة في المجتمع الأمريكي تم في عام 2021م تبين أن حوالي عشرة بالمائة من عينة الاستبانة يعتقدون بالفعل بأن الأرض مسطحة وهذا قد يعني أن أعداد من يقبلون نظرية الأرض المسطحة في الولايات المتحدة قد يبلغ عدة ملايين أو مئات الآلاف على أقل تقدير !!. ولهذا في هذه السنة الحالية رغب قسيس أمريكي من ولاية كولورادو أن ينهي هذا الجدل ولذا نظم ما سماه (التجربة النهائية) بحيث تكفل بتأمين مصاريف سفر أربعة أشخاص من أصحاب نظرية الأرض المسطحة وأربعة أشخاص من الداعمين لفكرة كروية الأرض، لكي يرصدوا في القطب المتجمد الجنوبي ظاهرة (شمس منتصف الليل) في مساء يوم 18 يناير الماضي. وطبعا لو تم التنسيق في نفس ذلك اليوم لوجود فريق آخر يسافر إلى مدينة مورمانسك الروسية لكي يؤكدوا أنه في نفس ذلك اليوم الذي لم تغيب فيه الشمس على الإطلاق في القطب المتجمد الجنوبي كانت الشمس غائبة طوال الوقت ولم تشرق أبداً في ذلك الموقع من القطب المتجمد الشمالي.
من الناحية الفلكية وباعتماد الحقيقة العلمية بأن الأرض كروية الشكل وكذلك بأنها تدور حول الشمس يسهل نسبيا شرح وتعليل توافق ظاهرتي (الليل القطبي) و (شمس منتصف الليل) في يوم 18 يناير بينما من المستحيل بشكل مطلق تفسير هاتين الظاهرتين الفلكيتين باعتماد فرضية أن الأرض مسطحة وأن الشمس هي من تدور حول الأرض وليس العكس. منذ القرن السادس قبل الميلاد وضع عالم الفلك اليوناني أناكسيماندر نظرية (مركزية الأرض) وأن الشمس والكواكب تدور حولها ومع ذلك لم يقل ذلك الفلكي النبيه إن الأرض مسطحة بل أقترح أنها على شكل أسطوانة. ثم لاحقا وفي (النظام البطلمي) الذي وضعه عالم الفلك الروماني بطليموس في القرن الثاني الميلادي أُجريت بعض التعديلات في مدارات الكواكب ومع ذلك صرح بطليموس بشكل واضح أن هيئة الأرض كروية. وفي عصر علماء الفلك العرب والمسلمين أضيفت المزيد من (التعديلات والتصحيحات) على المشاكل الفلكية غير المفهومة من مثل أن حركة كوكب المريخ التي تتباطأ وتسرع أحيانا بل قد تم رصد حركة بعض الكواكب السيارة التي وجد أنها في ظروف معينة تعود للوراء فيما يسمى ظاهرة (الحركة التراجعية). ولهذا حاول علماء الفلك المسلمون مثل قطب الدين الشيرازي ونصير الدين الطوسي تفسير هذه الظواهر الغريبة، بل أن عالم الفلك الدمشقي ابن الشاطر اجتهد في (تصحيح) هذه اللخبطة المحيرة في الأرصاد الفلكية وألّف كتاب فلكي حمل عنوان (نهاية السؤال في تصحيح الأصول). بقي أن نعيد تأكيد حقيقة إن كل تلك النظريات والأفكار الفلكية القديمة اليونانية والرومانية والعربية كانت تفترض أن الأرض كروية الهيئة ومع ذلك واجهت مشاكل عديدة فقط لأنها افترضت أن الشمس تدور حول الأرض ولو أن الأمر وصل إلى مزيد من الخلل والخطل بافتراض أن الأرض مسطحة لم تقدم على الإطلاق علم الفلك لا في القديم ولا في الحديث.
التسطيح في التفكير لماذا وكيف
لمن وصل من القراء الكرام إلى هذه الفقرة من المقال وهو يعتقد بأن نظرية الأرض المسطحة من التفاهة والسخافة والتسطيح لدرجة أنها لا تستحق النقاش أو حشد الأدلة على تهافتها فإنني أعتذر للقارئ الكريم الذي لديه مثل هذا الرسوخ في الثقة في مقدرة علم الفك الحديث على حسم هذا النقاش (السطحي). ومع ذلك يجب أن نعترف أنه في السنوات الأخيرة نجد أنه في الغرب والدول المتقدمة تقنيا وعلميا فضلا عن دول العالم الأخرى بدأت تتزايد يوما بعد آخر مظاهر (الردة العلمية). يعتبر القرن العشرون هو أكثر الفترات في تاريخ البشرية تميزا في تقدم العلم ومع ذلك مع بداية القرن الواحد والعشرين ومع مأساة وباء الكورونا اكتشفنا أن أعدادا كبيرة من البشر بدأت في مرحلة النكوص المعرفي لدرجة أنهم بدأوا يشككون في فائدة التطعيمات الطبية. بل وصل البعض في الولايات المتحدة بالذات لتصديق فرية وكذبة أن تطعيمات الأطفال تسبب مرض التوحد وأن لقاحات مرض الكورونا بالفعل قد زرع بها شرائح إلكترونية مصغرة تتجسس على البشر.
الخرافات العلمية الساذجة مثل مؤامرة المليار الذهبي والتطعيمات الطبية ومؤامرة الاحتباس الحراري ومؤامرة التكتم على سقوط الأطباق الطائرة والكائنات الفضائية على صحراء نيفادا (خرافة منطقة 51) بالإضافة لخزعبلات الأرض المسطحة أو الأرض المجوفة والكائنات والمدن التي توجد تحت الأرض ومهزلة ادعاء وجود كائنات وآثار حضارات فوق سطح كوكب المريخ وغير ذلك من غثاء (العلم الزائف) كلها تدل على وجود أزمة حادة مرتبطة بالخلل في التفكير. في زمن التقدم العلمي المذهل والمرتبط بتقنية النانو والجينوم والاستنساخ والذكاء الاصطناعي والعلاج الجيني لا شك أن معتنقو نظرية الأرض المسطحة أو غيرها من الخرافات العلمية، لديهم خلل في المنهج الفكري يقود إلى معضلة (تسطيح التفكير). كثيرة هي العوامل والمؤثرات النفسية والاجتماعية والدينية بل وحتى السياسية التي قد تؤدي ببعض الأشخاص لاعتقاد أفكار ذات طابع علمي زائف مثل نظرية الأرض المسطحة أو وجود الأطباق الطائرة والكائنات الفضائية ومع ذلك تعتبر العوامل النفسية هي أبرز هذه المؤثرات. على خلاف التفكير الناقد نجد أن هؤلاء الأشخاص لديهم خلل متجذر في منهجية التفكير من مثل مشكلة (الإنكار التفسيري) بمعنى نفي جميع الحقائق العلمية الثابتة (حول كروية الأرض مثلا) ومحاولة إعادة تفسيرها بطريقة متعسفة كمحاولة للوصول لحالة تقليل التنافر المعرفي. وفي مقابل ذلك يقعون في مشكلة محاولة دعم وإثبات الأفكار العلمية الزائفة من خلال استخدام أسلوب (الانحياز التأكيدي) من خلال انتقاء وإبراز المعلومات المؤيدة فقط للافتراضات المسبقة. وبحكم أن التحيز الفكري والانحياز المعرفي يقود في الغالب إلى التعصب والتزمت ولهذا لا غرابة أن فئة نظرية المؤامرة هم أسهل الأشخاص في السقوط في هاوية (تسطيح التفكير) والتحجر في التفكير. والبعض يقع ضحية مبدأ (مناشدة البساطة) والنفور من العمق العلمي والتدقيق الفكري ولهذا يميل البعض إلى الركون للحس العام الظاهري بأن الشمس هي من يتحرك في السماء ولذا (المنطق السليم) عندهم أن الأرض بكل بساطة مسطحة ولا تدور. والوثوق (السطحي) بالأدلة الحسية المباشرة مثل رصد حركة الشمس وثبات الأرض يقتضي في نهاية المطاف أن الأدلة الشخصية المعتمدة على حاسة النظر المجردة مقدمة على الأدلة التجريبية العلمية حتى ولو تقدمت العلوم والتقنية شوطا كبيرا في التطور والدقة. وبالجملة هؤلاء القوم لديهم نفور غريب من تقبل مرجعية السلطة سواء كانت سلطة الهيئات والوكالات الحكومية أو سلطة المؤسسات العلمية أو المنظمات الطبية الدولية.
كلمة أخيرة نختم بها وهي تكرار الاعتذار للقارئ الحصيف الذي قد يسخر هو الآخر من سذاجة وسطحية أصحاب فكر نظرية الأرض المسطحة ولذا أود أن أقول إن الدافع لكتابة هذا المقال هو إعطاء حالة نموذجية ودراسة حالة للتأثير الهائل والسلبي لوسائل التواصل الاجتماعي. عبر التاريخ البشري الطويل كانت دائما وأبدا تظهر أفكار وتوهمات فكرية ودينية وسياسية وعلمية وفلسفية خاطئة تماما وفي الغالب مصيرها الاندثار السريع بسبب أن تلك الأفكار الغريبة أو السطحية والساذجة لا تجد لها (قناة) أو وسيلة تنتشر من خلالها. في السابق كانت طباعة ونشر الكتب أمرا باهظ التكاليف مما يقلل من نشر الأفكار، بينما النشر من خلال وسائل الإعلام التقليدي (الصحف/الراديو/التلفزيون/القنوات الفضائية) يمر عبر فلاتر الرقابة والتدقيق و(حراس البوابة) ولهذا الأفكار الشاذة والمنكرة يتم وأدها في مهدها. بينما مع ظهور عصر الإنترنت ولاحقا في زمن وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة أصبح لكل صاحب فكرة سخيفة وشاذة الفرصة والقدرة والفضاء لبث ما يريد قوله بدون رقيب ولا حسيب ومن هنا تبدأ الأفكار (السطحية) في النمو المتدرج. بل بعض تلك الأفكار الساذجة قد تكسب جمهورا واسعا خصوصا في زمن الأزمات الكبرى عندما يطيش التفكير الجمعي البشري كما لاحظنا جميعنا في فترة وباء الكورونا كيف انتشرت الأفكار السطحية عن نظرية مؤامرة المليار الذهبي وما شابهها. بالمناسبة فيما يتعلق بنظرية المؤامرة وارتباطها بنظرية الأرض المسطحة كانت ولا تزال عند شرائح من معتنقي نظرية الأرض المسطحة قناعة راسخة أن القارة القطبية الجنوبية لا يمكن السفر إليها لأنه توجد مؤامرة بين دول العالم الكبرى تمنع سفر البشر لها حتى لا يكتشفوا وجود الجدار الجليدي الضخم في نهاية الأرض المسطحة الذي يحول دون انتقال البشر لمسافات أبعد من الأماكن التي نعيش فيها في مركز الأرض المسطحة. وكذلك توجد لبعضهم سخافة أخرى أنه في القطب المتجمد الجنوبي يوجد ثقبا واسعا وضخما جدا في سطح الأرض يقود إلى داخل الأرض المجوفة ولهذا لا يسمح للأقمار الفضائية أو الطائرات بالسفر فوق القطب المتجمد الجنوبي حتى لا تصور هذا الثقب وذلك الجدار الجليدي الضخم وتكشف هذه الحقائق لعامة الناس. وبهذا تعلم أيه القارئ الحصيف أن سخافات العقول مثل الذنوب إذا بدأت لن تنتهي، بل تتكرر وربما تزداد إلى طوام أكبر وأشنع مع الزمن والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق