السبت، 1 مارس 2025

( غطرسة القوة هل تقود واشنطن لتصبح أثينا الجديدة ؟! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1446/8/16

عندما ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية للوجود بعد إعلان الاستقلال عن التاج البريطاني في 4 من يوليو لعالم 1776 كان الآباء المؤسسين للأمة الأمريكية مثل جورج واشنطن وجون آدمز وبنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون وجيمس ماديسون وألكسندر هاملتون على درجة عالية من الثقافة بخصوص تاريخ الحضارات والإمبراطوريات القديمة مما أكسبهم حنكة سياسية عند صياغة إعلان الاستقلال. بعد حوالي 11 سنة من إعلان الاستقلال الأمريكي تم عقد مؤتمر حاشد في يوم 25 مايو من عام 1787م وذلك لصياغة الدستور الأمريكي ويقال إن توماس جيفرسون (الرئيس الثالث لأمريكا والكاتب الرئيس لإعلان الاستقلال) أرسل إلى جيمس ماديسون (الرئيس الرابع لأمريكا والمعروف بأبي الدستور الأمريكي) نسخة من كتاب (التاريخ العام للجمهورية الرومانية) للمؤرخ اليوناني القديم بوليبيوس.

البعض يقول إن هدف توماس جيفرسون من إرسال تلك النسخة من كتاب التاريخ ذاك إلى جيمس ماديسون ليدرسها ويستفيد من (دروس وعبر) التاريخ قبل أن يصوغ الدستور الأمريكي لأن تاريخ بوليبيوس يركز على جوانب القوة وكيف ظهرت وصعدت الجمهورية الرومانية وبالقطع تلك المعرفة يمكن أن تساعد في كيفية أن تصبح واشنطن هي (روما الجديدة) والقوة الصاعدة في مسرح السياسة العالمية. وفي المقابل بعض المؤرخين يقترحون أن مقصود توماس جيفرسون خلاف ذلك تماما فقد كان هدفه تجنب أن تقع واشنطن في فخ السقوط الذي وقعت فيه قديما مدينة أثينا عاصمة الإمبراطورية الإغريقية. في الواقع من أهم الأمور التي ناقشها المؤرخ اليوناني بوليبيوس في كتابه كان طرح فكرة دورانية نظم الحكم السياسية (نظرية أناسيكلوسيس Anacyclosis) وتفسير التاريخ من خلال نظرية التعاقب الدوري بمعنى أن التاريخ السياسي للدول الكبرى والإمبراطوريات يسير في دورات متتالية ومتشابه يمكن اختصاره بثلاثية: النمو ثم الصعود ثم السقوط. وبحكم أن ذلك المؤرخ اليوناني أي بوليبيوس كان حزينا على سقوط الإمبراطورية اليونانية ولهذا درس بعمق أسباب (سقوط أثينا) فربما كان هدف توماس جيفرسون من دراسة كتاب تاريخ بوليبيوس أن يجنب واشنطن في المستقبل أن تصبح (أثينا الجديدة).

من الأمور الواضحة في التاريخ الأمريكي في مرحلة التأسيس تعلق الآباء المؤسسين لأمريكا بالإرث القديم للحضارة الرومانية فمن الدستور الروماني القديم استلهموا فكرة فصل السلطات الثلاث وهي إن كانت تنسب إلى رائد التنوير الفرنسي مونتسيكو في كتابه المعروف (روح القوانين) إلا أن المؤرخ بوليبيوس أشار لها في كتابه السالف الذكر. في الواقع لفت بوليبيوس الأنظار إلى أن من أسباب قوة الجمهورية الرومانية أن دستورها مبني على مزيج من قوى ثلاث منفصله: نظام القناصل (السلطة التنفيذية) ومجلس الشيوخ (السلطة التشريعية) والشعب الروماني البديل للسلطة القضائية في الدساتير الحديثة. ومن دلائل العلاقة الوثيقة بين واشنطن (روما الجديدة) وبين روما الأصلية أن الآباء المؤسسين استلهموا فكرة البرلمان الأمريكي من مجلس الشيوخ الروماني القديم كما إن طراز عمارة مبنى الكونجرس ومبنى المحكمة العليا الأمريكية مصممة على الطراز الروماني وخصوصا مبنى البانثيون في قلب روما.

من هذا وذاك نجد أن العديد من المؤرخين ورجال السياسة كثيرا ما يصفون الولايات المتحدة الأمريكية بأنها وريثة الإمبراطورية الرومانية ويصفون كذلك العاصمة واشنطن بأنها (روما الجديدة New Rome). ونتج عن ذلك أنه عند تحليل أسباب القوة والصعود وعوامل الضعف والسقوط المؤثرة على مستقبل أمريكا كثيرا ما يتم المقارنة بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الأمريكية. والكتب في هذا المجال عديدة ومتزايدة في الفترة الأخير من مثل كتاب (هل نحن روما: سقوط إمبراطورية ومستقبل أمريكا) للكاتب والصحفي الأمريكي كولين ميرفي وكتاب (روما القديمة وأمريكا الحديثة) للباحثة الأمريكية مارغريت مالامود أستاذة التاريخ القديم في جامعة ولاية نيو مكسيكو.

ترامب على خطى بريكليس والمصير المحتوم

ومع أن العاصمة واشنطن أو مجمل الدولة الأمريكية تم وصفها من قبل العديد من المؤرخين وأهل السياسية بأنها (روما الجديدة) وكذلك وصفت من قبل المسيحيين البروتستانت (الأصوليين التطهيريين) بأنها (القدس الجديدة) إلا أنني في ضوء الأحداث الأخيرة التي حصلت في الساحة السياسية الأمريكية من بعد انتخاب الرئيس الأمريكي ترامب، أقترح بأن أفضل تسمية وتوصيف لواشنطن حاليا بأنها (أثينا الجديدة New Athens). على خلاف الجمهورية الرومانية التي تحولت إلى (إمبراطورية) في عام 27 قبل الميلاد على يد الإمبراطور الأول أغسطس، نجد أنه لا اليونان القديمة ولا أمريكا الحديثة أعلنت نفسها على أنها إمبراطورية. وبالتالي هذا أحد أوجه التشابه بين الأمة الإغريقية القديمة وبين الأمة الأمريكية الحالية ومن أوجه التقاطع والتشابه بينهما أن كلتا الأمتين كانت قوتها الضاربة في أسطولها البحري ذي الكفاءة العالية بينما في المقابل كانت قوة الإمبراطورية الرومانية في كتائب جيوشها البرية.

أمر آخر تجدر الإشارة إليه أن كلا من الأمة اليونانية والأمة الأمريكية تعرضت لحرب ضروس مع عدو خارجي شرس ففي حالة أثينا تعرضت لخطر غزو جحافل الإمبراطورية الفارسية في حين أن أمريكا واجهت عداوة ألمانيا النازية واليابان الإمبريالية في الحرب العالمية الثانية ولاحقا تصدت لمناهضة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة. ونتيجة لهذه التحديات العسكرية والسياسية العاتية اضطرت كلتا الدولتين اليونانية القديمة والأمريكية المعاصرة لتشكيل أحلاف عسكرية تحميها فالمدينة/الدولة أثينا شكلت ما يسمى الحلف الديلي Delian league المكون من تجمع حوالي مائتي مدينة أو جزيرة إغريقية، ويهدف ذلك الحلف لصد أي غزو من قبل لإمبراطورية الفارسية لأرض اليونان. أما الولايات المتحدة الأمريكية فشكلت كما نعلم جميعا حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمقاومة وردع الاتحاد السوفيتي وحلفائه.

وبالطبع مثل هذه الأحلاف العسكرية الضخمة تحتاج إلى تكاليف ماليه هائلة ولهذا الحلف اليوناني القديم الذي تشكل في عام 478 قبل الميلاد ألزم كل مدينة يونانية أن تسلم رسوم عضوية الحلف العسكري وتم تسمية هذه الدفعات المالية بـكلمة phoros وهي كلمة يونانية تعني الضريبة. الغريب في الأمر أن هذه المبالغ الضخمة التي تم فرضها على ذلك العدد الكبير من الدول والجزر المشتركة في الحلف الديلي تم تجميعها في (جزيرة ذهبية) اسمها جزيرة ديلوس Delos ومن هنا جاءت تسمية ذلك الاتحاد الحربي بالحلف الديلي. أما فيما يخص الولايات المتحدة وحلفها العسكري أي حلف الناتو نجده يتم إنشاؤه في عام 1949م وفي بداية الأمر تشكل من ثماني دول فقط قبل أن تتوسع عضويته في الوقت الحالي إلى 32 دولة. وفي حين كانت الجزيرة الذهبية في الحلف اليوناني هي جزيرة ديلوس فإن الجزيرة الذهبية للدول الدائرة في فلك ماما أمريكا هي قلعة فورت نوكس Fort Knox في شمال ولاية كنتاكي الأمريكية وهي مبنى أشبه بخزينة تحت الأرض تحتوي على أطنان احتياط الذهب الأمريكي. ينبغي التنويه إلى أن الولايات المتحدة وقبل نهاية الحرب العالمية الثانية فرضت على جميع الدول المتحالفة معها أن توقع على اتفاقية (بريتون وودز) المنبثقة عن مؤتمر النقد الدولي المنعقد عام 1944م والذي كان من أبرز قراراته إنشاء ما يسمى (صندوق النقد الدولي IMF) وتثبيت العملات الأجنبية مقابل الدولار بعد تغطيته بالذهب ومن هذا وذاك تدفقت الأموال وسبائك الذهب إلى الولايات المتحدة.

في كتابة الثوري (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) بيّن المفكر السوري ورائد النهضة العربية عبد الرحمن الكواكبي العلاقة بين الاستبداد والطغيان وبين الثروة حيث قال (إفراط الثروة مهلكة للأخلاق وهذا معنى الآية (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآهُ استغنى) ). في الواقع علاقة الطغيان بالمال تبادلية فكما أن الطغيان يقود إلى تجميع الثروة ونهب أموال الناس، فكذلك الثروة الطائلة مع توفر القوة تقود إلى الطغيان والاستبداد. وبالعودة لقصة تاريخ أثينا القديمة عندما أصبح لها قوة طاغية ومتحكمة بفضل قيادتها للحلف العسكري أصبحت مع الوقت تأخذ مبالغ مضاعفة من الإتاوة أو الجزية المالية phoros المفروضة على مدن ودويلات بحر إيجة. بل وصل الأمر لقيام الحاكم اليوناني الجنرال بريكليس بنقل جميع الذهب من معبد أبولو في جزيرة ديلوس إلى مدينة أثينا واستخدم جزء من المال لإقامة المعبد الإغريقي الأشهر البارثينون (معبد أثينا) على قمة هضبة الأكروبولس. ونتيجة لهذا التعسف في (قيادة) أثينا القديمة للحلف العسكري اليوناني بدأت بعض الدويلات والجزر اليونانية في التململ من استفراد أثينا في الحكم وسيطرتها على أموال الجزيرة الذهبية وتعاملها الخشن مع حلفائها لدرجة أنها كانت كذلك تستغل أفضل الزراعية وتنتزعها منهم. ولهذا قامت بعض تلك الدويلات المقهورة بالتواصل السري مع مدينة (أسبارطة) المنافس القوي لنفوذ أثينا في بلاد الإغريق وهذا ما شجع أسبارطة إلى إعلان الحرب ضد أثينا. وبعد أن شكلت أسبارطة حلف عسكري يدعى الحلف البيلوبونيزي دخلت مع حلف أثينا في حرب ضروس استمرت لمدة ثلاثين سنة وعرفت في كتب التاريخ باسم الحروب البيلوبونيزية والتي انتهت بهزيمة مذلة لأثينا بعد حصار طويل تسبب في انتشار وباء الطاعون والذي قضى على عشرات الآلاف من الأثينيين من ضمنهم الجنرال المتهور بريكليس الذي قاد شعبه حرفيا إلى المهالك.

من القوة الناعمة إلى القوة الغاشمة

 في ضوء ما نشاهده هذه الأيام من بلطجة وعنجهية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ربما قد توافقني الرأي أيه القارئ الكريم بأن ذلك الرئيس المثير للجدل يستحق أن يطلق عليه لقب (يريكليس الجديد). في علم الغيب معرفة مصير واشنطن والإمبراطورية الأمريكية وهل سوف تصبح (أثينا الجديدة) عندما يتشابه مصير حلفها العسكري وهيمنتها السياسية والاقتصادية مع مصير الحلف الديلي لأثينا الذي تفكك وانحل بعد تنافر الأعضاء المشكلين له. بالرغم من أن توصيف الولايات المتحدة بأنه (الإمبراطورية الأمريكية) راجع بالدرجة الأولى للقدرة العسكرية والمتانة الاقتصادية لبلاد العم سام ومع ذلك ينبغي ألا نغفل أن جزءا ملموسا من الهيمنة الطاغية لأمريكا راجع بدرجة ما أنها إذا صح التعبير (إمبراطورية مؤسساتية institutional empire). ونعني بذلك أن الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية استطاعت الهيمنة على عدد من المؤسسات الدولية المفصلية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجلس حقوق الإنسان والوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة التجارة العالمية والقائمة تطول وتطول. ومن خلال الهيمنة على مثل هذه المنظمات الدولية وأشباهها ضمنت أمريكا المزيد من النفوذ والتأثير على مجريات الساحة الدولية ومن هنا نعلم مزلق أن تؤدي غطرسة القوة للكاوبوي الأمريكي لأن ينفض السامر من حوله وتبدأ قوى دولية أخرى في محاولة مزاحمة العم سام في الهيمنة على نفس تلك المؤسسات الدولية المفصلية.

وكما حصل مع أثينا القديمة عندما سيطرت على جزيرة الذهب وفرضت على المدن الإغريقية الصغيرة أن تدفع لها الجزية وهذا ما جعل تلك الدويلات أن تغادر حلف أثينا إلى حلف أسبارطة فربما هذا ما قد يحصل اليوم مع حلفاء أمريكيا الذين تعاملهم بغطرسة ومهانة وتفرض عليهم الرسوم الجمركية ولهذا قد ينفرون من النسر الأمريكي الأصلع البشع إلى الدب الروسي أو التنين الصيني. في كتابه الرائد (القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية) نصح جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسة بجامعة هارفرد ومساعد وزير الدفاع الأمريكي، نصح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ومن بعده من القادة الأمريكان بضرورة الانتباه لأهمية (القوة الناعمة) واستخدامها كسلاح مؤثر يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال. وبموازاة مفهوم القوة الناعمة أقترح جوزيف ناي مفاهيم إضافية لتعزيز هيمنة القيادة الأمريكية للعالم مثل مفهوم (القوة الذكية) وبمثل هذه القدرات الفكرية والخبرات التحليلية في مجال السياسة الدولية أدرجت مجلة الفورين بوليسي FP جوزيف ناي في قائمتها لأفضل المفكرين في العالم. لقد برز جوزيف ناي في زمن الرئيس بيل كيلنتون واستمر تأثيره لفترة الرئيس باراك أوباما وهو ما أفرز فكرة محاولة احتواء الخطر الصيني من خلال تعزيز العلاقات التجارية والسياسية لأمريكا مع دول جنوب شرق أسيا وأفريقيا الأمر الذي تمثل في جولات أوباما المتكررة للدول الأفريقية بينما في أول زيارة له لآسيا في عام 2009م أطلق أوباما خطته عن (العودة الأمريكية إلى آسيا).

والمقصود أنه بإتباع سياسة الاحتواء الحصيفة من خلال القوة الناعمة والقوة الذكية أمكن لأمريكا عبر العقود الطويلة تشكيل أحلاف عسكرية وتكتلات اقتصادية كانت خط الدفاع الأول لها. واليوم وفي الأسابيع الأولى من حكم سيد البيت الأبيض الجديد بدأت أمريكا تشكل مصدر خطر لجيرانها المباشرين وسبب قلق لحلفائها الأوروبيين. بينما القوة الناعمة لأمريكا تتلاشى مع إعلانها إيقاف برنامج المساعدات الخارجية الدولية واحتمالية إلغاء الوكالة الأمريكية الدولية (USAID) والتهديد بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية وتكرار الانسحاب من اليونيسكو. هذا فضلا عن إثارة الخلافات في حزب الناتو أو التصادم مع منظمة التجارة العالمية أو التهور لدرجة إصدار عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية !!. عندما ترشح دونالد ترامب لأول مرة رفع شعار (أجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) وهو ما يسمى أحيانا حركة ماجا MAGA وهي اختصار ذلك الشعار (Make America Great Again) ولكن مع الجنون والغباء الذي نشهده هذه الأيام أقترح تحويل شعار MAGA إلى شعار MAD وهي كلمة إنجليزية تعني: مجنون وقد تعني بكل بساطة أنها الأحرف الأولى من عبارة (أجعل أمريكا معزولة Make America Detached).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق