السبت، 1 مارس 2025

( جنون العملات الرقمية وفخ النشوة المالية !! )

د. أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1446/7/25

اليوم السبت 25 من يناير يتوافق مع حدث اقتصادي وتاريخي قد يبدو هامشي، ولكن له قصة ذات مغزى ربما من الملائم الإشارة لها ونحن في حمى جنون المضاربة على العملات الرقمية الجديدة. ففي يوم 25 يناير من عام 1617م وصل التاجر الهولندي بيتر فان دن بروك إلى ميناء مدينة المخا اليمنية ليبدأ تجارة تصدير القهوة من ساحل البحر الأحمر إلى هولندا من خلال (شركة الهند الشرقية الهولندية). وبعد المتاجرة في القهوة العربية سوف يقود هذا التاجر والمغامر شركة الهند الشرقية الهولندية إلى منطقة جنوب شرق آسيا ومن خلال المتاجرة بالتوابل سوف تصبح تلك الشركة (ونظريتها شركة الهند الشرقية البريطانية) من أقوى وأنجح الشركات في التاريخ.

حتى مطلع القرن السابع عشر كان أغلب التجار يفضل الاستثمار المالي بشكل مستقل أو ضمن عائلته ولكن في عام 1600م اجتمعت مجموعة من تجار لندن واتفقوا على أن (يساهم) كل واحد منهم بجزء من رأس مال شركة (شركة الهند الشرقية البريطانية) وبهذا تقل نسبة مخاطرة التجارة مع تلك المناطق الجغرافية البعيدة جدا عن الجزر البريطانية. وسرعان ما انتقلت فكرة (الشركة المساهمة joint stock company) التي يساهم فيها مجموعة من المستثمرين من خلال شراء (أسهم) الشركة انتقلت تلك البدعة الاقتصادية من بريطانيا إلى هولندا والتي أنشأت فيها شركة الهند الشرقية الهولندية عام 1602ميلادي. وبهذا التحالف بين المستثمرين بدأت قصة النجاح غير المسبوقة للشركات التجارية فمثلا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر كان عدد السفن التي امتلكتها تلك الشركة الهولندية الرائدة حوالي خمسة آلاف سفينة تجارية وقامت بنقل حوالي مليون شخص أوروبي للعمل في مستعمراتها في الدول الآسيوية. لقد بلغت تلك الشركة الهولندية من الضخامة لدرجة أنها كانت تتملك الجيوش وتشن الحروب لكي تستعمر الدول والشعوب بل وصل الأمر أن شركة الهند الشرقية البريطانية كانت تمتلك كامل القارة الهندية (الراج البريطاني).

ما أود الوصول له بعد هذا المدخل والمقدمة المطولة أن المتاجرة بالسلع أو شراء أسهم الشركات والمؤسسات المالية يساهم في حركة النمو الاقتصادي وكما هو معلوم من أدوات التجارة المالية والتعاملات الدولية إنشاء أسواق الأوراق المالية والبورصة. وبالمناسبة فإن إحدى أقدم البورصات في العالم هي بورصة أمستردام والتي أنشأتها شركة الهند الشرقية الهولندية في عام 1602م أي في نفس العالم الذي نشأت فيه تلك الشركة. في بداية الأمر وفي نفس اللحظة التي كان يتم فيها في بورصة هولندا التعامل بالأسهم والسندات لتوفير رأس مال الشركات المساهمة كان يتم كذلك (المضاربة) بأسعار السلع التجارية مثل البن والتوابل والحرير وكذلك الزهور والورود الهولندية وأهمها على الإطلاق (زهرة التوليب). وهذا يقودنا إلى المهزلة الاقتصادية التي سوف نربطها بالجنون الذي يحصل هذه الأيام والمتعلق بالمضاربة بالعملات الإلكترونية والوقوع في فخ نشوة الربح المالي السريع والزائف.

لقد دخلت زراعية التوليب (الزنبق) إلى الأراضي الهولندية قبل حوالي عشر سنوات من إنشاء شركتنا السالفة الذكر، ومنذ البداية لاقت تلك الزهرة شعبية عارمة. لكن المشكلة تظهر في عام 1635م عندما سُمح بالمضاربة على بيع زهرة التوليب في بورصة أمستردام وهنا تتجسد حماقة الهولنديين التي اشتهرت في كتب التاريخ باسم (جنون التوليب tulip mania) أو هوس التوليب. لقد بلغ من حماقة المضاربين على شراء بصلات زهرة التوليب أن تم بيع إحدى أنواع بصلات bulbs التوليب بقيمة أرض تبلغ مساحتها خمس هكتارات أي 50 ألف متر مربع. ولهذا عندما حصل في عام 1637م انفجار فقاعة التوليب الاقتصادية تعرض الآلاف من الشعب الهولندي لخسائر باهظة، بل وصل الأمر أن بعض رجال الأعمال حصل له انهيار مالي وإفلاس تام وهذا ما تسبب في حدوث واحدة من أوائل الأزمات الاقتصادية الناتجة عن (الفقاعات الاقتصادية).

الجدير بالذكر أن مفهوم الفقاعة الاقتصادية يسمى أحيانا (فقاعة المضاربة speculative bubble) وذلك لأن التوقعات المفرطة في التفاؤل بأن القيمة السوقية للسلعة المضارب عليها سوف تستمر في التزايد وهنا يحصل اندفاع لمزيد والمزيد من المضاربة عليها وبهذا تصل الفقاعة لمرحلة (الازدهار والطفرة boom). والجدير بالذكر أن العوامل في نمو الفقاعة لا تحكمها الأبعاد الاقتصادية فقط بل إن للعامل النفسي دورا كبيرا فالبعض من المساهمين في تصاعد عملية المضاربة والمؤدية إلى زيادة سعر السلعة هم في الحقيقة يقعون في فخ النشوة المالية financial euphoria المصاحبة للطمع والجشع بتزايد الأرباح.  وهذا ما يؤدي في خاتمة المطاف في تخديرهم لدرجة أن يتم تأخير عملية البيع وجني الأرباح حتى يصلوا لمرحلة كارثة الأزمة الاقتصادية عندما (تنفقع) تلك الفقاعة السرطانية الضارة على مجمل الاقتصاد.

عملات ميم المشفرة ونظرية الأحمق الأكبر

المشكلة الخطيرة من الناحية الاقتصادية في ظاهرة نشوء فقاعة المضاربة أن الانفلات والمبالغة في المضاربة والمزايدة في رفع سعر أسهم وسندات بعض الشركات حتى ولو كانت مربحة قد يصل لمرحلة الانهيار ووقوع الكارثة الاقتصادية. في عام 1637م عندما انهارت فقاعة زهرة التوليب وذهبت السكرة وجاءت الفكرة وخف جنون وهوس الزهور كان الأمر متوقعا لأن الزهور سلعة كمالية ليس لها أهمية في حد ذاتها. لكن الغريب أن في عام 1847م انهارت فقاعة اقتصادية غير متوقعة وهي التي تعرف في كتب تاريخ الاقتصاد بحادثة (جنون وهوس السكك الحديدة railway mania) وذلك عندما تضخمت بشكل مبالغ فيه قيمة سندات وأسهم الشركات المنفذة والمشغلة للسكك القطارات. أود أن ألفت نظر القارئ الكريم أن ظهور القطارات وانتشار السكك الحديدة في منتصف القرن التاسع عشر يتزامن مع ذروة الثورة الصناعية الأولى وبالتالي كانت عملية المضاربة بأسهم وسندات شركات السكك الحديدة أمرا مغريا جدا من الناحية الاقتصادية وكان المفروض أن يكون الربح مؤكدا ومضمونا. ومع ذلك حصل انهيار لفقاعة السكك الحديدة في عام 1847م ولهذا الدرس المستفاد أن عملية المضاربة المبالغ فيها في أي (سلعة) اقتصادية أو (سندات) مالية أمر قد يكون محفوفا بالمخاطرة الاستثمارية شبه الحتمية.

وهذا يقودنا إلى الجنون والهوس mania الاقتصادي الجديد الذي حصل في مطلع هذا الأسبوع عندما أعلن الرئيس الأمريكي ترامب عن طرحه لعملية رقمية جديدة تحمل اسمه (TRUMP$) وفي خلال ساعات معدودة من بداية تداول هذه عملة الميم المشفرة قفز سعرها إلى حوالي %4200 من سعرها الابتدائي ليصل سعرها في اليوم الأول من بضعة سنتات إلى حوالي 74 دولار بمعنى أنها حققت رقما قياسيا في عملية المضاربة على العملات والأسهم حيث تضاعفت حوالي %18000 في يومها الأول. وهذا يعني أن القيمة السوقية لها في المرحلة التداول الأولى لها بلغت حوالي عشرة مليارات دولار وهذا الجنون استمر في اليوم التالي عندما أعلن عن طرح عملة رقمية جديدة باسم زوجة الرئيس ترامب السيدة ميلانيا (MELANIA$) وصلت قيمتها السوقية في يومها الأول لمبلغ المليار دولار.

الجدير بالذكر أن هذا النوع من العملات المشفرة يعرف باسم (عملة ميم meme coin) وهو في الأصل مصطلح استخدم بشكل ازدرائي بل إن البعض في بداية ظهورها أطلق عليها اسم shitcoin (ولن أترجم المعنى تقديرا للقارئ الكريم). والمقصود أن هذا النوع من العملات الرقمية هي في الأصل سلعة إلكترونية بدون هدف وبلا قيمة حقيقة لها ونظرا للمخاطر المالية الواضحة من التعامل بهذا النوع من العملات المشفرة قامت عدة دول بحضر ومنع التداول بها.

ومع الضجة الكبرى التي رافقت طرح العملات المشفرة الجديدة للرئيس الأمريكي وزوجته والتضخم الهائل لسعرها في اليوم الأول لها لذا ربما نحتاج للرجوع لظواهر الجنون الاقتصادي القديمة مثل جنون التوليب وجنون سكك القطارات وكيف حاول علماء الاقتصاد وخبراء علم النفس تفسير هذا السلوك الاقتصادي البشري الغريب والأحمق. صحيح أن البعض يمكن أن يفسر قرارات المستهلك أو المستثمر غير العقلانية من خلال توظيف نظرية سلوك عقلية القطيع وتأثير الوهم الجمعي ومع ذلك لعل أفضل وأسهل نظرية اقتصادية ونفسية لتفسير حالات الجنون والهوس في دنيا المال الأعمال هي نظرية (الأحمق الأكبر Greater fool theory).

في عام 2009م حصلت لدينا المهزلة الكبرى عندما انتشرت خرافة وجود مادة الزئبق الأحمر في بعض ماكينات الخياطة القديمة مما فتح سوق سوداء (للمضاربة) بقيمتها لتصل في بعض الحالات لمبلغ 150 ألف ريال كما ذكرت صحيفة الوطن في ذلك الحين. في الواقع لقد انتشرت في عدد من مدن المملكة وبعض دول الخليج وبالذات قطر والكويت مهزلة (هوس وجنون ماكينة خياطة سنجر) وطبعا دخول عشرات الآلاف من (المضاربين) السذج لشراء هذه المكائن المتعطلة راجع بدرجة أساسية لاعتقادهم أنه في زخم حمى الهوس بشراء هذه المكائن سوف تستمر عملية المضاربة عليها لفترة من الزمن. وعليه فالواحد منهم كان يقنع نفسه بأنه حتى وإن اشترى ماكينة خياطة بثمن عالي فمن المحتمل بشيء من المغامرة والمخاطرة الاستثمارية أن يجد مع الزمن من سوف يغامر بدوره ويشتريها منه بسعر أعلى.

تبدأ القصة أن ما يمكن أن نسميه (الأحمق الصغير lesser fool) وتحت تأثير عقلية القطيع يجد عدد من الأشخاص ممن حوله أعماهم الطمع لتحقيق ربح سريع ووافر من خلال المخاطرة بشراء سلعة أصلا غير ذات قيمة حقيقة، ولكن بهدف المضاربة عليها. وهنا نجد أن الأحمق الصغير سوف يخاطر بماله ويشتري ماكينة خياطة سنجر بملغ ضخم مثلا 20 ألف ريال أو حاليا مستثمر أمريكي سوف يشتري ألف عملة رقمية من نوع ترامب بمبلغ 70 دولار للعملة الواحدة. على أمل أنه بعد فترة قصيرة نسبيا سوف يتقدم شخص يوصف بأن (الأحمق الأكبر greater fool) ويقع في مغامرة مالية أخطر ويشتري ماكينة خياطة سنجر بمبلغ 25 ألف ريال أو عملة ترامب المشفرة بمبلغ 80 دولار لكي يقوم بعد ذلك لبيعها لشخص (أحمق الجميع) بمبلغ أكبر وهكذا دواليك. وطبعا بهذه الطريقة في الأعم الأغلب تنشأ ما تسمى (بالفقاعات الاقتصادية) وفي لحظة ما من الزمن قصر أو طال سوف تنفجر هذه الفقاعة ويخسر بالطبع من دخل أخيرا في سباق الحمقى الاقتصادي ذاك.

من غرائب الصدف أنه في عام 2009م وعندما كانت مهزلة جنون ماكينة خياطة سنجر على وشك أن تنتهي في واقعنا المحلي والخليجي كان العالم أجمع مع موعد لبداية هوس وجنون غريب ومستمر يتعلق بالعملة الرقمية ذائعة الصيت (البتكوين). في السنوات الأخيرة بدأ العديد من الدولة في طرح عملات رقمية مشفرة يتم تداولها بشكل نظامي ولا إشكال في ذلك لأن من وظائف المال أن يكون وسيلة لتبادل القيمة وهذا الأمر تحققه العملات الورقية أو العملات الرقمية ما دام الأمر يتم تحت رقابة البنوك والمؤسسات المالية الرسمية فالتجارة الإلكترونية لها نصف قرن من الزمن وفي الواقع لها فضل في تسهيل حياة الناس. لكن مشكلة أن عملة البتكوين ومن لف لفها هي في الأصل عملة مشفرة لا مركزية وبالتالي هي معرضة للعمليات المالية المشبوهة مثل غسيل الأموال والمتاجرة بالمخدرات وما شابه ذلك ولهذا تم في بداية الأمر منع التعامل بها في أغلب دول العالم. والمقصود أن درجة المخاطرة بالتعامل بها عالية ومع ذلك ونتيجة لعملية المضاربة عليها ارتفع سعرها بشكل جنوني ففي حين نجدها بعد سنة واحدة من ظهورها يستخدم أحدهم عشرة آلاف عملة بتكوين لشراء وجبة بيتزا واحدة فقط بينما اليوم قيمة عملة البتكوين الواحدة تبلغ حوالي 105 آلاف دولار (بمعنى أنها تلامس مبلغ 400 ألف ريال !!).

في عام 2018 وفي حلقة نقاش اقتصادية نظمها البنك الاستثماري السويسري UBS اشترك فيها أربعة علماء اقتصاد كلهم حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لكي يناقشوا الأهمية الاقتصادية لعملة البتكوين. وبحكم أنه ومنذ سنوات عديدة يحذر علماء الاقتصاد من أن عملة البتكوين هي فقاعة اقتصادية خطيرة ولهذا لا غرابة أن نجد أن علماء نوبل الأربعة جيمس هيكمان (حصل على نوبل عام 2000) وتوماس سارجنت (2011) وأنجوس ديتون (2015) وأوليفر هارت (2016) كلهم كان له وجهة نظر سلبية ومتشككة حيال عملة البتكوين. بل وصل الأمر أن أنجوس ديتون قال ما فحواه بأن البتكوين مفيدة فقط لتجار المخدرات لأنه لا يمكن تعقب حركة تداول الأموال المرتبطة بها ولهذا نجد أن عالم الاقتصاد الأمريكي جوزف ستيجلز الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد صرح في عام 2017م بأنه يجب منع وتجريم التعامل بعملة البتكوين. وعالم الاقتصاد النوبلي أوليفر هارت أشار بدوره إلى أنه يؤيد عالم الاقتصاد الأمريكي كريستوفر سيمز (الحاصل على جائزة نوبل عام 2011) بأن قيمة عملة البتكوين يجب أن تكون صفرا وهو التقييم الذي كرره عالم الاقتصاد الفرنسي جان تيرول الحاصل على جائزة نوبل عام 2014 والذي صرح قبل عدة أشهر أن قيمة البتكوين من المفروض أن تكون صفرا وأنها في الواقع فقاعة حقيقة.

ونختم بالتذكير بأننا بدأنا المقال بالإشارة إلى جنون المضاربة بزهرة التوليب في هولندا وأن ذلك توافق مع الجنون الجديد هذا الأسبوع بتداول العملة الرقيمة (ترامب) وما شابهها من العملات المشفرة مثل البتكوين. ولذا تجدر الإشارة إلى أن عالم الاقتصاد الأمريكي جيمس هيكمان (الحاصل على نوبل في الاقتصاد 2000) شبهه عملة البتكوين بزهرة التوليب بمعنى أنها فقاعة مالية. في عام 2013م وصف رئيس البنك المركزي الهولندي الهوس بشراء عملة البتكوين بأنها أسوأ من هوس شراء زهرة التوليب لأنه قد تخسر أموالك ولن تحصل على شيء بينما قديما حتى ولو خسر الشخص أمواله فمع ذلك كان سوف يحصل - على الأقل - على زهرة زنبق جميلة !!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق