د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/7/11
مع مطلع السنة الميلادية الجديدة أعلنت الجمعية العمومة لأمم المتحدة بأن عام 2025م سوف يخصص لكي يكون (السنة الدولية لعلم وتكنولوجيا الكم) وهذا يفتح المجال للحديث عن غرائب الخيال في دنيا العلوم ممثلة في (نظرية الكم quantum theory). وبعد سلسلة المقالات التي كتبتها في الأسابيع الماضية والتي كانت تحتوي على عدد من (النظريات) الشائعة في المجتمع الغربي مثل (نظرية الأرض المسطحة) وكذلك (نظرية المليار الذهبي) ربما لا يحبذ القارئ العزيز المزيد من النظريات العلمية العجيبة والسخيفة المتداولة في أرض الأحلام والجنون الولايات المتحدة.
ومع ذلك لنظرية ميكانيكا الكم وما تلاها من الأفكار العلمية الغرائبية مثل (نظرية الأوتار) ونظرية التوحيد الكبير (نظرية كل شيء theory of everything) لها دور هائل في تقدم العلوم والتطور التقني الذي نعيش فيه اليوم في عصر الثورة الصناعية الرابعة. ولهذا بعد أن تعرفنا على طريقة الفهم الساذجة و(التفكير السطحي) لأصحاب نظرية المؤامرة في المجتمع الأمريكي لعلنا في المقابل وفي مطلع السنة الدولية لعلم فيزياء الكم أن نسلط الضوء على نماذج من أكثر العقول البشرية ذكاءً وعبقرية في مقابل تلك العقول الساذجة والفارغة.
في الواقع الأمر فإن نظرية ميكانيكا الكم (وما يتعلق بها من علم الجسيمات الأولية وما يسمى النموذج المعياري) وكذلك نظرية النسبية لأينشتاين بل وحتى علم الكونيات cosmology، نجد أن هذه العلوم تندرج تحت ما يسمى (الفيزياء النظرية) والتي تعتمد بشكل جذري على النماذج الرياضية في بداية نشأتها أكثر من الاعتماد على التجارب العلمية. وهذا يعكس حقيقة أن أغلب العلماء البارزين في هذا النوع من التخصصات العلمية بالذات هم في الغالب عباقرة وعلى درجة عالية من الإدراك والتخيل و (الجنون الخلاق). خذ على ذلك مثالا أن عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين هو حاليا رمز العبقرية واحد أشهر وأهم العلماء في العصر الحديث ومع ذلك ربما لم يقم بنفسه بأي تجربة علمية وإنما كان يعتمد على نتائج تجارب العلماء الآخرين بالإضافة لقدرته الهائلة على التخيل والذكاء الرياضي وعدم الإحراج من الإفصاح عن (الجنون العلمي).
وفي الوقت الحالي ونحن نعيش في زمن (الذكاء الاصطناعي) قد نجد شخصا أمريكيا يحمل شهادة في الهندسة مثلا ومع ذلك قد يتأثر بأفكار نظرية الأرض المسطحة وبالتالي يرفض قبول أدلة علم الفلك القطعية المدعمة بقياسات أكثر الأجهزة العلمية المتطورة. وفي المقابل نجد أينشتاين وقبل أكثر من قرن من الزمان ودون الاعتماد على أي أجهزة علمية يحدث قفزة هائلة في علم الفلك عندما فسر باستخدام الرياضيات فقط وقدرة الخيال لديه ما هو سبب الشذوذ في حركة كوكب عطارد حول الشمس. ما توصل له أينشتاين في علم الفلك أن نظرية نيوتن في الجاذبية غير دقيقة وتحتاج تصحيحا بجعل الجاذبية هي انحناء في نسيج الزمان والمكان (الزمكان) بسبب ثقل الشمس وهذا ما يعرف بالنظرية النسبية العامة لأينشتاين. بالمناسبة إحدى أهم نظريات علم الفلك في العصر الحديث هي نظرية تمدد الكون التي توصل لها عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل (الذي أطلق اسمه من باب التكريم على تليسكوب هابل الفضائي) وذلك بعد أرصاده الفلكية باستخدام التلسكوب في مرصد جبل ويلسون. ولقصة يطول شرحها يوجد ارتباط بين تمدد الكون لدى هابل وبين ما سماه أينشتاين أنه أكبر خطأ وقع فيه في حياته ولهذا عندما أنتقل أينشتاين للإقامة في أمريكا حرص مع زوجته على زيارة مرصد جبل ويلسون في جنوب كاليفورنيا. وهنا كان علماء الفلك الأمريكان يتفاخرون بأنهم في ذلك المرصد يمتلكون أكبر تليسكوب في العالم والذي يساعد على كشف أسرار الكون، وهنا صدمتهم زوجة أينشتاين السيدة إليسا بردها المشهور عندما قالت (إن زوجي يفعل هذا على ظهر مظروف رسائل قديم).
وفي نفس الفترة الزمنية تقريبا التي كان فيها أينشتاين ودون استخدام أي أجهزة علمية أو (تلسكوبات) يتمكن بصورة مذهلة من سبر عمق عالم الكونيات ويثبت أنه لا شيء يتحرك أسرع من الضوء وأنه مكون من جسيمات الفوتونات وأن الطاقة والمادة وجهان لمعادلة واحدة وأن الجاذبية هي انحناء في الزملكان كان علماء آخرين ودون استخدام أجهزة علمية أو (ميكروسكوبات) يتوصلون هم بدورهم إلى اكتشاف مجاهل عالم الذرة والدنيا العجيبة للكوانتم.
100 عام على سنة 1925 العجيبة لعلم الكم
في عام 1900م أعلن عالم الفيزياء البريطاني اللورد كالفن أن مهمة علم الفيزياء قد انتهت وكل ما تبقى هو عبارة عن قياسات علمية تتسم بمزيد والمزيد من الدقة ولهذا نجد أن أحد كبار الفيزيائيين الألمان ينصح شابا يدعى ماكس بلانك بأن يبحث له عن تخصص علمي آخر غير الفيزياء نظرا لتوقفها وعدم وجود مستقبل لها وللعاملين بها. وطبعا من حسن حظ ماكس بلانك أنه لم يأخذ بهذه الوصية وإلا لم يكن سوف يخلد اسمه في تاريخ العلوم بكونه مكتشف علم فيزياء الكم ذلك المجال العلمي الذي غير مستقبل العلوم إلى الأبد ولهذا حصل ماكس بلانك على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1918م وأصبح اسمه يطلق على عشرات المعاهد والمراكز البحثية المتقدمة في ألمانيا. وقبل أن نغادر تلك الحادثة الطريفة المتعلقة بتوقع نهاية علم الفيزياء، لعل من الملائم التذكير بحادثة أخرى شبيهه بالضبط حصلت هذه المرة نتيجة للتوقع والتخمين أن علم الكوانتم نفسه وصل لنهايته. هذا ما حصل في عام 1928م عندما قائم عالم الفيزياء الألماني ماكس بورن أحد رواد مجال ميكانيكا الكم بالتصريح لطلابه ولزوار جامعة غوتنغين (أهم مركز على الإطلاق لفيزياء الكم في ألمانيا) بأن علم الفيزياء سوف ينتهي بعد ستة أشهر وذلك لأن عالم الفيزياء الإنجليزي بول ديراك قبل ذلك بقليل أكتشف معادلة رياضية تحكم سلوك موجة الإلكترون. ولقد كان حدس ماكس بورن أنه سرعان ما سوف يتوصل علماء الفيزياء لمعادلة شبيه تصف سلوك البروتون وهو الجسيم الوحيد المعروف في ذلك الزمن أن نواة الذرة تتكون منه ولهذا أعتقد ماكس بورن أنه باشتقاق هاتين المعادلتين الرياضيتين فإن هذا يعني خاتمة الفيزياء النظرية. بقي أن نقول إنه بعد تلك الحادثة المحرجة لعلماء الكوانتم سرعان ما أكتشف عالم الفيزياء البريطاني جيمس تشادوك وجود جسيم النيوترون في نواة الذرة وبعد ذلك بأشهر قليلة أكتشف الفيزيائي الأمريكي كارل أندرسون وجود البوزيترون (مضاد الإلكترون) فاتحا الباب لعالم الخيال العجيب للجسميات الأولية والمادة المضادة (antimatter).
وبالرغم من أن المحطات التاريخية في مسيرة تطور علم الكوانتم متعددة ومذهلة إلا أنه وبالعودة إلى صاحبنا ماكس بورن نجده في عام 1925م يتعاون مع نجم علم الفيزياء الأماني فيرنر هايزنبيرغ (صاحب مبدأ عدم اليقين ذي الأثر البالغ في العلم والفلسفة) في توظيف مفهوم المصفوفات الرياضية ودمجه مع علم الكم لإعطاء مزيد تقدم في مجال علم ميكانيكا الكم. ولهذا اختارت الأمم المتحدة عام 2025م لكي يتوافق مع مرور 100 عالم على ذلك الإنجاز العلمي المميز عندما توصل هايزنبيرغ لوضع فكرة علمية جديدة سماها (ميكانيكا المصفوفات) وكانت على درجة عالية من التعقيد بالرغم من أن هايزنبيرغ أعترف لأحد أصدقائه أنه كان لا يعرف حتى ما هي المصفوفة. وعلى كل حال لقد كان علم الكوانتم وميكانيكا الكم ولا زال على درجة عالية من التعقيد والغرابة لدرجة أن العراب الأكبر لعلم فيزياء الكم وأشهر وأهم عالم في هذا المجال وهو عالم الفيزياء الدنماركي نيلز بور له تصريح غريب يقول فيه (إن أي شخص قرأ نظرية الكم ولم يصاب بصدمة أو الدهشة فهو حتما لم يفهمها). وقريب من ذلك المقولة المشهورة لعالم الفيزياء الأمريكي ريتشارد فاينمان الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء 1965م والمتوفي عام 1988م وهو بالقطع آخر عالم بارز ساهم بإحداث تطور جوهري في نظرية الكم (نظرية الكهرودينامكيا الكمية) ومع ذلك كتب يقول (ميكانيكا الكم هي النظرية التي يستخدمها الجميع ولا يفهمها أحد على الإطلاق).
كم وكمْ من الجنون في علم الكونتم
في الوقت الحالي تعتبر نظرية ميكانيكا الكم من أهم النظريات العلمية على الإطلاق وربما هي أكثر أهمية من النظرية النسبية لأينشتاين بسبب أن علم وتتقنيه الكم ترتبط به بشكل أو آخر العديد من التقنيات والأجهزة الإلكترونية فمن دون فيزياء الكم يصعب تصور وجود أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية واختراعات محورية في دنيا العلم مثل الترانستور والليزر والخلايا الشمسية. ومع ذلك يستحسن الإشارة إلى مقولة أينشتاين عن هذا المجال العلمي الغريب حيث قال (كلما زادت نظرية الكم نجاحا، ازدادت لا منطقية) واللامنطق الأعجب في تصريح أينشتاين أنه استعان بنظرية الكم في تفسير ظاهرة التأثير الكهروضوئي التي منحته جائزة نوبل في الفيزياء عام 1921م ومع ذلك ظل أينشتاين بقية حياته العلمية يحاول إثبات خطأ نظرية ميكانيكا الكم.
من المشهور الاعتراض الحاد لأينشتاين لمبدأ الاحتمالات وعدم اليقين في نظرية الكم وهو ما تمثل في مقولته المشهورة (أنا على قناعة قطعية أن الله لا يلعب بالنرد) والجدير بالذكر أن هذه المقولة وردت في رسالة كتبها أينشتاين وأرسلها إلى صاحبنا ماكس بورن بعد أن نشر في عام 1925م نظريته عن ميكانيكا الكم والاحتمالات للدالة الموجية لحركة الإلكترون. وعندما اعتراض أينشتاين على نظرية الكم بأن الله في تصريف أمور الكون لا يلعب بالنرد (تعالى الله عما يقولون) فكان رد نيلز بور (لا تملي على الله ما يجب أن يفعله). وفي الواقع لم تنته الردود والمناظرات بين هذين العالمين عند هذا الحد بل يقال أن أينشتاين صرح بقوله إنه لو علم أن ثورة فيزياء الكم التي كان هو من المساهمين فيها ستدخل مفهوم الصدفة إلى الفيزياء لفضل أن يتركها ويعمل صانع أحذية أو موظف بكازينو قمار !!. الطريف في الأمر أنه قبل ذلك بسنوات وبالتحديد في عام 1913م عدما كان اثنين من علماء الفيزياء الألمان وهما ماكس فون لاوي (الحاصل على جائزة نوبل عام 1914م) وزميله أوتو شتيرن (الحاصل على جائزة نوبل عام 1943) يتنزهان معا بالقرب من مدينة زيورخ وأثناء نقاشهما عن مستجدات نظرية الكم تعاهدا واتفقا على أنه في حال تأكد الهراء والتفاهات التي يقولها نيلز بور حول نظرية الكم فإنهما سوف يهجران علم الفيزياء.
ما سبق ذكره يعطي تصور أنه حتى كبار علماء الفيزياء أصيبوا بالحيرة والذهول بل وحتى الرفض لبعض الأفكار التي تقوم عليها نظرية الكم وأنها في بعض جوانبها غريبة جدا وكأنها ضرب من الجنون. ومن الأمثلة الإضافية لحيرة بعض كبار علماء الفيزياء من غرائبية نظرية الكم عندما ظهرت قبل قرن من الزمن أن أهم معادلة رياضية في ميكانيكا الكم هي (معادلة شرودنجر) التي صاغها عالم الفيزياء النمساوي إرفين شرودنجر في عام 1925م وهذا ما يعزز اختيار سنة 2025 لتصبح السنة الدولية لعلم الكم والاحتفال بمئوية تلك المعادلة. ومع ذلك نجد أن شرودنجر نفسه لم يتقبل مفهوم مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ ومفهوم الاحتمالات الموجية لدرجة أنه قال لو صح أن معادلاته لا تقدم سوى الاحتمالات فإنه نادم على صياغتها ولهذا لاحقا طرح شرودنجر مثال (قطة شرودنجر) التي هي ليست ميته وليست حيه وذلك لكي يسخر من مبدأ الاحتمالات السائد في دنيا الكوانتم العجيبة. والأغرب من ذلك أن هايزنبيرج نفسه يقول في كتابه الفيزياء والفلسفة عن فكرة الاحتمالات (ما زلت أتذكر مناقشاتي مع نيلز بور لساعات طويلة من الليل وانتهت تقريبا باليأس. وقد حدثت نفسي بهذا السؤال مرارا وتكرارا: هل يمكن أن تكون الطبيعة بهذا القدر من السخافة التي تبدو لنا في التجارب الذرية ؟).
وفي الختام أود أن أعرج إلى عالم الفيزياء البريطاني اللورد كالفين الذي تنبأ في مطلع القرن العشرين أن علم الفيزياء قد انتهى وربما يصح أن نعدل قليلا عبارة اللورد كالفن بحيث تكون أنه مع مطلع القرن العشرين انتهى زمن الفيزياء (الكلاسيكية) والتي تميزت بالبساطة النسبية. بينما في المقابل أصبحت فيزياء القرن العشرين على درجة عالية من التعقيد والغرابة بل والجنون كما لاحظنا مع نظرية ميكانيكا الكم وقبلها النظرية النسبية وحديثا نظرية الأوتار ونظرية الفوضى (نظرية تأثير الفراشة).
الطريف في الأمر أن بعض علماء الفيزياء أصبحوا يربطون بين أن تكون النظرية الفيزيائية الجديدة غريبة ومجنونة وصادمة وبين اعتبار ذلك مؤشرا إلى أنها نظرية علمية ثورية. أثناء هذا المقال كررنا كثيرا الإشارة لأهمية سنة 1925م وارتباطها بالعديد من الاكتشافات العلمية المهمة في مجال فيزياء الكم كما حصل مع ماكس بورن و هايزنبيرغ و شرودنجر ومنهم كذلك عالم الفيزياء النمساوي إيرنست باولي صاحب مبدأ (مبدأ باولي للاستبعاد) الذي توصل له في حدود تلك السنة. على كل حال حصل في آخر سنة في حياة السيد باولي أن ألقى محاضرة علمية في جامعة كولمبيا الأمريكية وذلك في عام 1958م والتي حضرها عدد كبير من مشاهير الفيزيائيين ممن حصلوا على جائزة نوبل في ذلك الوقت أو ممن سوف يحصل عليها في المستقبل. وعندما انتهت تلك المحاضرة طُلب من أبي نظرية ميكيانيكا الكم الفيزياء نيلز بور أن يعلق على الأفكار العلمية التي طرحها باولي في محاضرته فكان تعليقه أن الأفكار والنظرية التي طرحها باولي كانت مجنونة crazy ولكنها ليست مجنونة بدرجة كافية. ونذكر هنا أنه أصبح لدى علماء الفيزياء شعورا بأن أهم النظريات الفيزيائية الحديثة تكون النظرة الأولى لها أنها أفكار (مجنونة) لأنها كانت تعارض طريقة التفكير الكلاسيكية التي اعتاد عليها العلماء. وهنا نجد أن باولي يعترض على تقدير نيلز بور ويصر بأن نظريته العلمية مجنونة بدرجة كافية was crazy enough فما كان من نيلز بور إلا أن اعترض مرة ثانية بأنها ليست مجنونة بالدرجة الكافية. وبهذا وتحت استغراب ودهشة كاملة من الجمهور ظل باولي ونيلز بور لفترة من الزمن يدوران حول طاولة المحاضرات في وسط القاعة وهما يصرخان في بعضهما البعض وأحدهما يقول (نظريتك ليست مجنونة كفاية) والآخر يرد عليه (بل نظريتي مجنونة كفاية). وعليه الله أعلم كم وكم من الجنون في نظريات فيزياء الكم !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق