د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/6/20
الطريق الدولي السريع بين مدينتي حلب ودمشق (طريق M5) يعرف أحيانا باسم (طريق العاصمتين) أي دمشق العاصمة الإدارية وحلب العاصمة الاقتصادية للقطر السوري الشقيق. وكما إن (طريق الشام) هو شريان الحياة للسوريين هو كذلك محور صناعة التاريخ العربي لمقاومة المحتل الأجنبي و (ردع العدوان) للقوى الدولية الغازية للتراب العربي والتراث الإسلامي. في خلال 11 يوما فقط استطاع الثوار السوريون التقدم عبر هذا الطريق الحيوي من حلب الشهباء إلى دمشق الفيحاء ثم ظاهريا توقفت المسيرة للانكفاء على الداخل السوري وترتيب أوضاع البيت الشامي. وبحكم إن مشكلة العدوان والاحتلال الصهيوني لهضبة الجولان السورية تفاقمت خلال الأيام الماضية بعد المزيد من التمدد الإسرائيلي في داخل الحدود الغربية السورية ولهذا عاجلا أو آجلا سوف تعود هذه (الأراضي السورية المحتلة) إلى دائرة الضوء وكأنها نقطة صدام وبؤرة تحفيز لتجديد الصراع مع العدو الصهيوني كمحاولة نهائية وحاسمة بمشيئة الله (لردع العدوان) بطول المسافة من أرض الشام إلى أرض فلسطين.
يشتهر عن أرض الشام بأنها (أرض الملاحم) والمعارك الكبرى ويبدو أن هذا هو قدرها في الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء. وأي باحث يستقرئ تاريخ المعارك الكبرى في تاريخ البشرية لن يجد بقعة على وجه الأرض شهدت كما هائلا من كبريات الحروب التاريخية والمعارك الحربية كما حصل على أرض الشام ابتداءً من معركة قادش بين الفرعون رمسيس الثاني وملك الحثيين ومعارك بني إسرائيل (يوشع بن نون ومن ثم نبي الله داود) ضد الكنعانيين ومرورا بغزو الملك البابلي نبوخذ نصر وتخريبه لمدينة أورشليم وسبيه لليهود. ومن ثم معارك الفتح الإسلامي لأرض الشام من معركة مؤتة إلى اليرموك وأجنادين وفتح بيت المقدس ولاحقا سطر المسلمون أمجاد البطولة على أرض الشام وأرض فلسطين في معارك حطين وعين جالوت كما دحروا الصليبيين وأعادوا فتح بيت المقدس. وأيضا على أرض الشام تغير التاريخ الإسلامي ببروز الدولة العثمانية بعد انتصارهم على المماليك في معركة مرج دابق بالقرب من حلب.
في الواقع في حال ضعف الأمة الإسلامية فإن طريق حلب / دمشق قد يكون هو ممر عبور الغزاة فللأسف من هنا مرت جحافل الحملة الصليبية الأولى في مسيرها إلى اجتياح القدس وفي ذات المساق كان المعبر البري من الشمال السوري (مدينة حلب) إلى الجنوب السوري (مدينة دمشق) هو نفس الطريق الذي سلكه المغول بقيادة هولاكو لمحاولة السيطرة على مصر بعد احتلال وتدمير العراق. أما في حال قوة الأمة الإسلامية وعزتها ومنعتها نجد المعبر والمحور الشرقي / الغربي هو جدار الصد الصلد الذي يقف حجر عثرة في مسيرة الغزاة. نحن لا نتحدث هنا عن المحور الشمالي الجنوبي (معبر حلب/دمشق) ولكن عن المحور الشرقي الغربي الواصل بين مدينتي الموصل وحلب. على خلاف طريق حلب/دمشق في نهاية القرن الخامس الهجري عندما مرت من خلاله الحملة الصليبية الأولى نجد أنه في منتصف القرن السادس الهجري عندما تمكن القائد المسلم عماد الدين زنكي من السيطرة على مدينة حلب بعد أن حكم مدينة الموصل، لذا استطاع أن يعوق تقدم الحملة الصليبية الثانية. ليس هذا وحسب بل لقد كان السلطان المظفر عماد الدين زنكي هو أول من نجح في (ردع العدوان) الصليبي عندما تمكن من تحرير إمارة الرُّها وبهذا حدث لأول مرة في تاريخ الحرب الصليبية أن سقطت إمارة صليبية (كونتية الرها) في يد المسلمين.
التوأمة بين المدن العربية ومحور المقاومة
لعل الفكرة العامة من استحضار التاريخ الإسلامي القديم أصبحت واضحة أنه عندما تتشكل محاور التكامل بين العواصم والمدن العربية الكبرى يستطيع العرب بصورة مؤكدة من (ردع العدوان) البيزنطي أو الصليبي أو المغولي أو الأوروبي أو حتى اليهودي. محور (الموصل / حلب) كما ذكرنا حقق في منتصف القرن السادس الهجري أول انتصار ضد الانتهاك الصليبي لسيادة العربية. وقبل ذلك بقرن كامل تعرض العالم الإسلامي لاستفزازات وحملات عسكرية متوالية من قبل الإمبراطورية المسيحية البيزنطية وكان جدار الصد لنا نحن العرب يتمثل في مملكة بني حمدان لسيف الدولة في حلب وأخيه ناصر الدولة في الموصل. حروب (ردع العدوان) البيزنطي هي المعارك التي خلد بعضها المتنبي في قصائده التي كان يمدح فيها سيف الدولة أو التي تكررت في شعر أبي فراس الحمداني في قصائده التي عرفت (بالروميات). صحيح أن سيف الدولة الحمداني حققا انتصارا هائلا في معركة (الحدث) التي خلدها المتنبي في قصيدته الميمية الشهيرة (على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ) والتي سخر فيها من القائد البيزنطي الدمستق (دومستيكوس) إلا أنه بعد ذلك بسنوات تعرضت مدينة حلب عاصمة بني حمدان للاجتياح والسقوط المريع على يد الإمبراطور البيزنطي نقفور الثاني. ولكن تذكر كتب التاريخ أن ما أنقذ حلب من كارثة العدوان البيزنطي سنة 351 هـ هو احتشاد المسلمين في دمشق والقاهرة وتعاهدهم على نصرة مدينة حلب والزحف إليها لطرد الروم والثأر منهم. وهذا يقودنا لتسليط الضوء على المحور الأكثر أهمية في (ردع العدوان) في التاريخ الإسلامي ألا وهو محور وطريق (دمشق / القاهرة).
سياسة المحاور وضرورة السيطرة على المدن العربية الكبرى كخطوة أولى في طريق النصر الحاسم في ردع العدوان الأجنبي، هي سياسة أنتهجها كبار القادة المجاهدين في التاريخ الإسلامي من مثل محمود بن سبكتكين وألب أرسلان وأرطغرل وعماد الدين زنكي ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز والظاهر بيبرس. ولهذا المجاهد الكبير صلاح الدين عندما سيطر أولاً على مدينة القاهرة عام 567 هـ عزم قبل مجابهة الصليبيين على الهيمنة على مدينة دمشق وتم له ذلك في عام 570 هـ ثم توجهت نيته لتحرير حلب فضمها في عام 577 هـ وبعد ذلك أنتقل إلى مدينة الموصل فسيطر عليها عام 581 هجري. وهكذا بعد 14 سنة قضاها الناصر صلاح الدين في ترتيب البيت الداخلي العربي وتشكيل المحور الجهادي لردع العدوان والممتد بين المدن العربية الكبرى في ذلك الزمن (الموصل/حلب/دمشق/القاهرة) تمكن أخيرا من تحرير القدس في عام 583 هـ وكذلك من ردع عدوان الحملة الصليبية الثالثة التي حاولت إعادة احتلال أرض فلسطين.
وعلى أرض فلسطين وفي منتصف المحور بين دمشق والقاهرة حصلت ملحمة أخرى مذهلة في ردع العدوان المغولي هذه المرة ففي منتصف العشر الأواخر من شهر رمضان من عام 658 هـ وفي موقع معركة عين جالوت تمكن المماليك بقيادة سيف الدين قطز من دحر الجيش المغولي الجرار بقيادة كتبغا. وكما كان بداية ظهور الناصر صلاح الدين من مدينة القاهرة ووفاته ودفنه في مدينة دمشق عاصمة ملكة نجد كذلك بداية ظهور الظاهر ركن الدين بيبرس من مدينة القاهرة ووفاته ودفنه في مدينة دمشق عاصمة ملكه. في الأساطير الشعبية والموروث العربي القديم خُلدت سيرة البطل الناصر صلاح الدين قاهر الصليبيين، كما خُلدت كذلك سيرة البطل الظاهر بيبرس قاهر التتار وما كان لأي منهما أن يبلغ هذه المكانة من التوقير والتقدير لولا ارتباطهما بالجهاد وردع العدوان عن الأمة العربية استنادا على قاعدة شعبية وعسكرية راسخة في مدن عربية كبرى مثل القاهرة ودمشق وحلب والموصل.
كلمة أخيرة قبل أن نختم وهي أن السيطرة على هذه المدن العربية الكبرى في حال كان الحاكم مستبدا أو فاسدا أو جاهلا فإنها لا تغني عن صد العدوان الأجنبي وسيطرة الأعداء على أرض الشام ومصر كنانة الإسلام. فهذا جمال عبد الناصر كان له الكلمة العليا على أهل القاهرة ودمشق في الجمهورية العربية المتحدة زمن الوحدة بين مصر وسوريا ومع ذلك قاد استبداده وسوء حكمه للبلاد لوقوع أشنع هزيمة للعرب على يد الصهاينة في حرب 67 الكارثية. وقبل ذلك بستة قرون كان يحكم مصر والشام السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين برقوق مؤسس دولة المماليك البرجية وهو أحد أهم سلاطين المماليك وله سيرة حسنة في شعبة واستطاع أن يصد غزو المغول بقيادة تيمورلنك عن الشام ومصر بعد أن سقطت بغداد في أيديهم عام 795 هجري. ولكن عندما توفي هذا السلطان فجأة في عام 801 هـ وتولى بعده ابنه الطفل الصغير فرج بن برقوق وهو في سن 13 وهنا أتيحت الفرصة للمجرم تيمورلنك أن يعيد محاولة احتلال الشام. وهو ما تحقق له في عام 803 هـ بعد أن أوقع مجزرة هائلة وشنيعة في مدينة حلب حيث جمع رؤوس القتلى على هيئة أهرام صغيرة وعندما اجتاح تيمورلنك مدينة دمشق قتل جميع من فيها من الرجال والنساء حتى لم يبق بها إلا حوالي ألف طفل مشرد كما ورد في كتاب تاريخ الإمام المقريزي.
بدأنا الحديث بأن طريق حلب دمشق قد يكون في فترات من التاريخ طريق للكرامة والعزة والنصر وقد يكون في المقابل درب للذل والمهانة والنكسة فعجلة التاريخ تدور ولا تتوقف. حتى يأتي آخر الزمان ويتحقق ما ورد في الحديث الشريف (فسطاط المسلمين يوم الملحمة الغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق) ويقع ما ورد في الحديث النبوي الآخر (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ) ودابق هي والله أعلم موقع (مرج دابق) في شمال مدينة حلب.
د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/6/20
الطريق الدولي السريع بين مدينتي حلب ودمشق (طريق M5) يعرف أحيانا باسم (طريق العاصمتين) أي دمشق العاصمة الإدارية وحلب العاصمة الاقتصادية للقطر السوري الشقيق. وكما إن (طريق الشام) هو شريان الحياة للسوريين هو كذلك محور صناعة التاريخ العربي لمقاومة المحتل الأجنبي و (ردع العدوان) للقوى الدولية الغازية للتراب العربي والتراث الإسلامي. في خلال 11 يوما فقط استطاع الثوار السوريون التقدم عبر هذا الطريق الحيوي من حلب الشهباء إلى دمشق الفيحاء ثم ظاهريا توقفت المسيرة للانكفاء على الداخل السوري وترتيب أوضاع البيت الشامي. وبحكم إن مشكلة العدوان والاحتلال الصهيوني لهضبة الجولان السورية تفاقمت خلال الأيام الماضية بعد المزيد من التمدد الإسرائيلي في داخل الحدود الغربية السورية ولهذا عاجلا أو آجلا سوف تعود هذه (الأراضي السورية المحتلة) إلى دائرة الضوء وكأنها نقطة صدام وبؤرة تحفيز لتجديد الصراع مع العدو الصهيوني كمحاولة نهائية وحاسمة بمشيئة الله (لردع العدوان) بطول المسافة من أرض الشام إلى أرض فلسطين.
يشتهر عن أرض الشام بأنها (أرض الملاحم) والمعارك الكبرى ويبدو أن هذا هو قدرها في الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء. وأي باحث يستقرئ تاريخ المعارك الكبرى في تاريخ البشرية لن يجد بقعة على وجه الأرض شهدت كما هائلا من كبريات الحروب التاريخية والمعارك الحربية كما حصل على أرض الشام ابتداءً من معركة قادش بين الفرعون رمسيس الثاني وملك الحثيين ومعارك بني إسرائيل (يوشع بن نون ومن ثم نبي الله داود) ضد الكنعانيين ومرورا بغزو الملك البابلي نبوخذ نصر وتخريبه لمدينة أورشليم وسبيه لليهود. ومن ثم معارك الفتح الإسلامي لأرض الشام من معركة مؤتة إلى اليرموك وأجنادين وفتح بيت المقدس ولاحقا سطر المسلمون أمجاد البطولة على أرض الشام وأرض فلسطين في معارك حطين وعين جالوت كما دحروا الصليبيين وأعادوا فتح بيت المقدس. وأيضا على أرض الشام تغير التاريخ الإسلامي ببروز الدولة العثمانية بعد انتصارهم على المماليك في معركة مرج دابق بالقرب من حلب.
في الواقع في حال ضعف الأمة الإسلامية فإن طريق حلب / دمشق قد يكون هو ممر عبور الغزاة فللأسف من هنا مرت جحافل الحملة الصليبية الأولى في مسيرها إلى اجتياح القدس وفي ذات المساق كان المعبر البري من الشمال السوري (مدينة حلب) إلى الجنوب السوري (مدينة دمشق) هو نفس الطريق الذي سلكه المغول بقيادة هولاكو لمحاولة السيطرة على مصر بعد احتلال وتدمير العراق. أما في حال قوة الأمة الإسلامية وعزتها ومنعتها نجد المعبر والمحور الشرقي / الغربي هو جدار الصد الصلد الذي يقف حجر عثرة في مسيرة الغزاة. نحن لا نتحدث هنا عن المحور الشمالي الجنوبي (معبر حلب/دمشق) ولكن عن المحور الشرقي الغربي الواصل بين مدينتي الموصل وحلب. على خلاف طريق حلب/دمشق في نهاية القرن الخامس الهجري عندما مرت من خلاله الحملة الصليبية الأولى نجد أنه في منتصف القرن السادس الهجري عندما تمكن القائد المسلم عماد الدين زنكي من السيطرة على مدينة حلب بعد أن حكم مدينة الموصل، لذا استطاع أن يعوق تقدم الحملة الصليبية الثانية. ليس هذا وحسب بل لقد كان السلطان المظفر عماد الدين زنكي هو أول من نجح في (ردع العدوان) الصليبي عندما تمكن من تحرير إمارة الرُّها وبهذا حدث لأول مرة في تاريخ الحرب الصليبية أن سقطت إمارة صليبية (كونتية الرها) في يد المسلمين.
التوأمة بين المدن العربية ومحور المقاومة
لعل الفكرة العامة من استحضار التاريخ الإسلامي القديم أصبحت واضحة أنه عندما تتشكل محاور التكامل بين العواصم والمدن العربية الكبرى يستطيع العرب بصورة مؤكدة من (ردع العدوان) البيزنطي أو الصليبي أو المغولي أو الأوروبي أو حتى اليهودي. محور (الموصل / حلب) كما ذكرنا حقق في منتصف القرن السادس الهجري أول انتصار ضد الانتهاك الصليبي لسيادة العربية. وقبل ذلك بقرن كامل تعرض العالم الإسلامي لاستفزازات وحملات عسكرية متوالية من قبل الإمبراطورية المسيحية البيزنطية وكان جدار الصد لنا نحن العرب يتمثل في مملكة بني حمدان لسيف الدولة في حلب وأخيه ناصر الدولة في الموصل. حروب (ردع العدوان) البيزنطي هي المعارك التي خلد بعضها المتنبي في قصائده التي كان يمدح فيها سيف الدولة أو التي تكررت في شعر أبي فراس الحمداني في قصائده التي عرفت (بالروميات). صحيح أن سيف الدولة الحمداني حققا انتصارا هائلا في معركة (الحدث) التي خلدها المتنبي في قصيدته الميمية الشهيرة (على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ) والتي سخر فيها من القائد البيزنطي الدمستق (دومستيكوس) إلا أنه بعد ذلك بسنوات تعرضت مدينة حلب عاصمة بني حمدان للاجتياح والسقوط المريع على يد الإمبراطور البيزنطي نقفور الثاني. ولكن تذكر كتب التاريخ أن ما أنقذ حلب من كارثة العدوان البيزنطي سنة 351 هـ هو احتشاد المسلمين في دمشق والقاهرة وتعاهدهم على نصرة مدينة حلب والزحف إليها لطرد الروم والثأر منهم. وهذا يقودنا لتسليط الضوء على المحور الأكثر أهمية في (ردع العدوان) في التاريخ الإسلامي ألا وهو محور وطريق (دمشق / القاهرة).
سياسة المحاور وضرورة السيطرة على المدن العربية الكبرى كخطوة أولى في طريق النصر الحاسم في ردع العدوان الأجنبي، هي سياسة أنتهجها كبار القادة المجاهدين في التاريخ الإسلامي من مثل محمود بن سبكتكين وألب أرسلان وأرطغرل وعماد الدين زنكي ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز والظاهر بيبرس. ولهذا المجاهد الكبير صلاح الدين عندما سيطر أولاً على مدينة القاهرة عام 567 هـ عزم قبل مجابهة الصليبيين على الهيمنة على مدينة دمشق وتم له ذلك في عام 570 هـ ثم توجهت نيته لتحرير حلب فضمها في عام 577 هـ وبعد ذلك أنتقل إلى مدينة الموصل فسيطر عليها عام 581 هجري. وهكذا بعد 14 سنة قضاها الناصر صلاح الدين في ترتيب البيت الداخلي العربي وتشكيل المحور الجهادي لردع العدوان والممتد بين المدن العربية الكبرى في ذلك الزمن (الموصل/حلب/دمشق/القاهرة) تمكن أخيرا من تحرير القدس في عام 583 هـ وكذلك من ردع عدوان الحملة الصليبية الثالثة التي حاولت إعادة احتلال أرض فلسطين.
وعلى أرض فلسطين وفي منتصف المحور بين دمشق والقاهرة حصلت ملحمة أخرى مذهلة في ردع العدوان المغولي هذه المرة ففي منتصف العشر الأواخر من شهر رمضان من عام 658 هـ وفي موقع معركة عين جالوت تمكن المماليك بقيادة سيف الدين قطز من دحر الجيش المغولي الجرار بقيادة كتبغا. وكما كان بداية ظهور الناصر صلاح الدين من مدينة القاهرة ووفاته ودفنه في مدينة دمشق عاصمة ملكة نجد كذلك بداية ظهور الظاهر ركن الدين بيبرس من مدينة القاهرة ووفاته ودفنه في مدينة دمشق عاصمة ملكه. في الأساطير الشعبية والموروث العربي القديم خُلدت سيرة البطل الناصر صلاح الدين قاهر الصليبيين، كما خُلدت كذلك سيرة البطل الظاهر بيبرس قاهر التتار وما كان لأي منهما أن يبلغ هذه المكانة من التوقير والتقدير لولا ارتباطهما بالجهاد وردع العدوان عن الأمة العربية استنادا على قاعدة شعبية وعسكرية راسخة في مدن عربية كبرى مثل القاهرة ودمشق وحلب والموصل.
كلمة أخيرة قبل أن نختم وهي أن السيطرة على هذه المدن العربية الكبرى في حال كان الحاكم مستبدا أو فاسدا أو جاهلا فإنها لا تغني عن صد العدوان الأجنبي وسيطرة الأعداء على أرض الشام ومصر كنانة الإسلام. فهذا جمال عبد الناصر كان له الكلمة العليا على أهل القاهرة ودمشق في الجمهورية العربية المتحدة زمن الوحدة بين مصر وسوريا ومع ذلك قاد استبداده وسوء حكمه للبلاد لوقوع أشنع هزيمة للعرب على يد الصهاينة في حرب 67 الكارثية. وقبل ذلك بستة قرون كان يحكم مصر والشام السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين برقوق مؤسس دولة المماليك البرجية وهو أحد أهم سلاطين المماليك وله سيرة حسنة في شعبة واستطاع أن يصد غزو المغول بقيادة تيمورلنك عن الشام ومصر بعد أن سقطت بغداد في أيديهم عام 795 هجري. ولكن عندما توفي هذا السلطان فجأة في عام 801 هـ وتولى بعده ابنه الطفل الصغير فرج بن برقوق وهو في سن 13 وهنا أتيحت الفرصة للمجرم تيمورلنك أن يعيد محاولة احتلال الشام. وهو ما تحقق له في عام 803 هـ بعد أن أوقع مجزرة هائلة وشنيعة في مدينة حلب حيث جمع رؤوس القتلى على هيئة أهرام صغيرة وعندما اجتاح تيمورلنك مدينة دمشق قتل جميع من فيها من الرجال والنساء حتى لم يبق بها إلا حوالي ألف طفل مشرد كما ورد في كتاب تاريخ الإمام المقريزي.
بدأنا الحديث بأن طريق حلب دمشق قد يكون في فترات من التاريخ طريق للكرامة والعزة والنصر وقد يكون في المقابل درب للذل والمهانة والنكسة فعجلة التاريخ تدور ولا تتوقف. حتى يأتي آخر الزمان ويتحقق ما ورد في الحديث الشريف (فسطاط المسلمين يوم الملحمة الغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق) ويقع ما ورد في الحديث النبوي الآخر (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ) ودابق هي والله أعلم موقع (مرج دابق) في شمال مدينة حلب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق