د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1446/8/2
في عام 166 ميلادي تم تعيين الجنرال والقاضي الروماني سولبيسيوس دالوس في منصب قنصل الإمبراطورية الرومانية وهو منصب رفيع يماثل حاليا منصب رئيس الحكومة أو رئيس السلطة التنفيذية في أي دولة. وفي تلك السنة نفسها قام ذلك القنصل الروماني بحدث غريب تم تسجيله في كتب التاريخ وذلك أنه قام بتطليق زوجته لأنها خرجت من بيته بدون حجاب وهو ما تسبب في غضبه لأنها سمحت للآخرين برؤية شعرها وهو شيء يفترض ألا يراه إلا هو فقط. والزائر لمتحف المتروبوليتان للفنون في مدينة نيويورك يمكنه أن يشاهد تمثال رأس المرأة الإغريقية (المنقبة) وهو أحد التماثيل الجصية التي وجدت في جزيرة قبرص ويتوقع أنها في الأصل صنعت في بلاد اليونان في القرن الرابع قبل اليونان. وبالمناسبة في الأساطير الإغريقية كثيرا ما يتم تصوير الآلهات والرّبات Goddesses وهن يرتدين الحجاب دلالة على أنهن مقدسات لأن غطاء الرأس يدل في حقهن على سلطة الإلهة وحكمتها وقوتها. ولهذا تماثيل عدد من ربات الأولمب تم نحتهن أو تصويرهن وهن يغطين شعرهن بالحجاب كما نجد ذلك مع الربة هيرا (زوجة كبير الآلة زيوس) أو الإلهة العذراء هيستيا أخت زيوس. وفي حين أن إلهة الحكمة أثينا ابنة زيوس ربما لو لم تكن تعتمر دوما خوذة الحكمة لكان من المحتمل أن ترتدي أحيانا الحجاب المقدس ومع ذلك من كل رّبات الأساطير الإغريقية اللاتي لبسن الحجاب وغطاء الشعر أحيانا من الغريب أن نجد من ضمنهن أفروديت ربة الجمال والحب والإغواء.
كما هو معلوم للجميع الحجاب في الغالب غير مرحب به في بعض الدول الأوروبية وبالخصوص في فرنسا العلمانية المتطرفة ونظرا لأن الحضارة الغربية أخذت شيئا فشيئا تنسلخ من تراثهم المسيحي المحافظ والعودة لأصولها اليونانية والرومانية ولهذا حرص العديد من الباحثين في العقود الماضي على استقراء وسبر أغوار جميع مناحي حياة وطبائع وعادات الإغريق القدماء. وعندما أصدر الباحث البريطاني لويد جونز أستاذ التاريخ القديم في جامعة كارديف، كتاب (سلحفاة أفروديت .. النساء المحجبات في اليونان القديمة) تسبب ذلك في موجه من النقاش والجدل. في ذلك الكتاب الضخم ذو 358 صفحة والذي صدر عام 2003م استعرض لويد جونزر أدلة وشواهد متعددة على وجود ظاهرة ارتداء شرائح من نساء المجتمع اليوناني القديم للحجاب وغطاء الرأس. وبحكم أن بعض نساء الإغريق كنّ يرتدين الحجاب بهدف أن تظهر الواحدة منهن في هيئة محتشمة ومحافظة وبذلك تحمي نفسها وتصون جسمها من الغرباء كما تحمي السلحفاة جسمها بالعيش داخل قوقعة منيعة ومن هنا كان العنوان الغريب لذلك الكتاب. وجزء من الجدل الذي أثاره هذا الكتاب أن المؤرخ البريطاني لويد جونز حاول التأكيد أن نساء الطبقة المخملية في المجتمع الإغريقي القديم كان من عادتهن عند الخروج من المنزل ليس فقط الحرص على تغطية الرأس والشعر بل وحتى تغطية الوجه أو جزء منه وهذا يفسر ربما وجود بعض رؤوس التماثيل الإغريقية القديمة لنساء منتقبات أو ملثمات.
والمقصود أن النظرة الغربية المتعصبة والمحتقرة للحجاب والخمار الإسلامي ربما تتغير بعض الشيء في بعض البلدان الغربية بسبب اكتشاف البعض أن الحجاب veil وغطاء الشعر كان له وجود في الحضارات الأوروبية القديمة. بل وصل الأمر ببعض في الفترة الأخيرة قيام بعض نساء ديانة الدرويد Druid الوثنية التي كانت منتشرة في بريطانيا وفرنسا قبل وصول المسيحية، قيامهن بشكل مستمر بارتداء الحجاب الأبيض الشائع الاستخدام في طقوس تلك الديانة. ولهذا بحكم أن اليوم السبت الأول من شهر فبراير يتوافق مع (اليوم العالمي للحجاب) وهو كذلك أول أيام أسبوع الوئام العالمي بين الأديان المعتمد من الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وعليه لعل من الملائم اهتبال هذه المناسبة وتوظيفها لتعزيز القبول والاحترام لعادة ارتداء الحجاب من قبل النساء المسلمات في المجتمعات الغربية استناد لثقافة القبول بالآخر وسياسات التسامح. وبحكم أن بعض الدول الغربية تتشدق بقبولها وتبنيها لما يسمى (الإعلان العالمي بشأن التنوع الثقافي) المعتمد من مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ولهذا يمكن أن يكون ذلك الإعلان الأممي بابا ومنفذا لتسهيل انتشار ارتداء الحجاب وغطاء الرأس في جميع المرافق والأماكن وأن ذلك من أبسط حقوق الإنسان التي تنتهكها فرنسا وغيرها بمنع الحجاب في المدارس والمؤسسات الحكومية. وفي حين أن سياسات التنوع الثقافي والتي تهدف إلى الاعتراف بتعدد الثقافات والأفكار والتجارب الإنسانية يمكن أن توفر قاعدة لقبول الحجاب في الدول الغربية نجد في المقابل أن حضارات وشعوب وأديان أخرى غير الإسلام لديها ارتباط وثيق بالسلوك الاجتماعي المتمثل في تغطية الشعر للمرأة خارج المنزل.
بلغة الأرقام أكثر انتشارا للحجاب خارج الدول الإسلامية
كل من زار أندونيسيا أو ماليزيا أو شاهد أفراد الشعب المسلم الإندونيسي أو الماليزي في مختلف دول العالم سوف يلاحظ مباشرة انتشار الحجاب المحتشم لدى النساء المسلمات في دول جنوب شرق آسيا. وبالرغم من أن عدد النساء في أندونيسيا يبلغ أكثر من مئة مليون امرأة والغالبية العظمى منهن محجبات إلا أن أكثر بلد في العالم يمكن مشاهدة النساء اللاتي يغطين شعورهن ليس بلدا مسلما وإنما في دولة الهند. بالجملة الشعب الهندي بجميع طوائفه الدينية المسلمة والهندوسية والسيخية بل وحتى البوذية هو شعب محافظ ومحتشم وأغلب النساء في الهند يغطين شعورهن عند الخروج من المنزل. وحسب إحصاءات مركز بيو Pew للأبحاث (مركز دولي مقره في واشنطن ومتخصص في استقراء الاتجاهات المتعلقة بالقضايا الاجتماعية والرأي العام) فإن نسبة النساء في الهند من جميع الطوائف اللاتي يلبسن غطاء الرأس هي %61 بل أن هذه النسبة قد تصل في ولاية راجستان ذات الأغلبية الهندوسية إلى رقم عالي جدا يبلغ (%89). وحسب نفس تلك الإحصاءات واستطلاعات الرأي فإن نسبة النساء الهندوسيات اللاتي يرتدين الحجاب تبلغ %59 وإذا علمنا أن عدد سكان الهند حاليا يزيد عن 1445 مليون وبحكم أن نسبة نساء الهند الهندوسيات %40 من إجمالي السكان فهذا يعني أن العدد التقريبي لمن يستعمل غطاء الرأس من نساء الهندوس قد يصل لحوالي 340 مليون امرأة هندوسية. وعليه أن صحت هذه الأرقام فهذا يعني بالعربي الفصيح أن عدد النساء المحجبات في الهند من جميع الطوائف هو أكثر من عدد سكان العالم العربي مجتمعين رجالا ونساءً !!.
الجميع يعلم أن ملابس النساء في الهند بالجملة محتشمة وتسمى الساري وهو قماش يغطي أغلب جسد المرأة، ولكن فيما يتعلق بغطاء الرأس فله تسمية خاصة به فهو يعرف عندهم إما باسم شال الدوبتة أو وشاح القونقهات أو بالتسمية الأخرى البديلة واسعة الانتشار وهي كلمة Purdah والتي هي في الواقع مشتقة من الكلمة العربية (البردة) لأنه كما هو معلوم توجد كلمات عربية كثيرة تسربت للغة الهندية. لقد دخل الإسلام إلى القارة الهندية منذ زمن الخلافة الأموية وظل الإسلام مسيطرا على القارة الهندية لمدة ثمانية قرون ونصف وبلغ أوج سلطانه وتأثيره الحضاري والثقافي والعمراني زمن الإمبراطورية المغولية المسلمة (سلطنة مغول الهند). صحيح أن عادة تغطية الشعر والوجهة كانت موجودة في الحضارة الهندية منذ القدم، ولكنها كانت مقصورة لتمييز المرأة العروس المتزوجة حديثا ومع ذلك ففي الغالب العادة السلوكية بأن تستعمل أغلب نساء الهندوس خمار تغطية الشعر طوال الوقت هي عادة مستحدثة كانت بتأثير من الحضارة الإسلامية بالذات زمن حكم سلاطين المغول المسلمين.
الجدير بالذكر أن كلمة Purdah بردة في اللغة الهندية لا تعني غطاء الرأس فقط، ولكن تعني حجب النساء وعزلهن عن الرجال الأجانب ولذلك أثناء حكم المغول للهند دخل مفهوم ومصطلح جديد في فن عمارة المنازل وفي الحياة الاجتماعية الهندية وهي كلمة (زنانة zenana) وهي شبيه إلى حد ما بمفهوم (الحرملك) عند الأتراك وهو المكان المخصص في المنزل لإقامة النساء بشكل معزول عن غيرهم. في السلوك الاجتماعي البشري كثيرا ما يحصل بين الشعوب والحضارات المتداخلة والمتقاربة ما يسمى بظاهرة اكتساب الثقافة أو التطبع الثقافي (التثاقف acculturation) حيث في الغالب تتعرض الحضارة الأضعف أو الجماعة الأقل للتغير الثقافي القادم لها من الحضارة المهيمنة. وفي حديثنا الحالي عن عادة ارتداء الحجاب يمكن أن نفهم كيف انتقلت هذه الظاهرة من المجتمعات المسلمة في الهند إلى جيرانهم الهندوس وهو نفس الأمر الذين نجده للمجتمعات الدينية أو الأقليات العرقية التي خضعت تحت هيمنة الحضارة الإسلامية كما نجده مثلا مع الأقباط في مصر والأشوريين واليزيديين في العراق وشعوب القوط والمستعربين النصارى (Mozarabs) في الأندلس.
من الأمثلة اللطيفة لموضوع المثاقفة الحضارية في مجال احتشام المرأة وفصلها عن الرجال نجد أنه رواية (أحمد بن طولون) للأديب المسيحي اللبناني جورجي زيدان تعطي نموذجا وصورة على تأثر الأقباط في مصر بعادات العرب المتعلقة بالمبالغة في صيانة المرأة. وذلك أن بطلة الرواية دميانة وهي فتاة قبطية عندما كانت في منزلها تتحدث مع والدها مرقص وضيفه الشاب القبطي اسطفانوس إذا دخل عليهم الخادم يخبرهم بأن جارهم العربي أبا الحسن يريد أن يسهر عندهم. وهنا طلب الأب مرقص من ابنته دميانة أن تغادر إلى داخل المنزل لئلا يراها الجار وهنا يعلق الرواي داخل القصة بأن الحجاب لم يكن شائعا عند القبط ولكن لما أصبح القبطي إذا زار جاره المسلم رآه يحجب عنه امرأته وسائر نسائه فأصبح القبطي هو كذلك يفعل ذلك إذا زاره المسلم فيحجب أهله عنه. ثم يقول الرواي (أي الكاتب جورجي زيدان) ما معناه أنه تلك العادة تناقلت في الأعقاب بتوالي الأجيال حتى صار عادة محكمة فرضتها تقليد المحكوم للحاكم.
وبما أننا في مصر وامتدادها في النوبة والسودان وبقية القارة الأفريقية لذا لعل من الملائم متابعة التأثير الحضاري لتعاليم الإسلام فيما يتعلق باحتشام المرأة حيث إن بعض الشعوب الأفريقية شبه البدائية كان ينتشر فيها تكشف المرأة لدرجة أن بعضهن كانت لا تغطي الأثداء بينما نجد في الزمن المعاصر اختفاء هذه الظاهرة تماما فالغاب أن ذلك حصل من تأثير اختلاط الأفارقة والزنوج بالقبائل المسلمة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى وفي الساحل الشرقي لأفريقيا. من الشائع جدا مشاهدة النساء الأفريقيات المحتشمات في دول وسط وجنوب أفريقيا والتي تشهر بلبس نوع خاص من الأوشحة أشبه ما يكون بأربطة الرأس head wrap واللفات العريضة التي تغطي أغلب الشعر.
الحجاب من أفريقيا إلى هوليوود
الجدير بالذكر أن طريقة تغطية الشعر الشائعة هذه في أفريقيا أخذت في العقود الماضية تجد طريقها إلى النساء الأمريكيات ذات الأصول الأفريقية كنوع من البحث عن الذات علما بأنه قديما في زمن الرق واستعباد السود في أمريكا كان هذا النوع من أغطية الرأس يفرض على جميع النساء الزنجيات. وفي القرون الماضية عندما كانت المرأة السوداء في الأراضي الأمريكي تجبر على ارتداء أربطة ولفات الرأس كانت المرأة الأمريكية البيضاء تعتمر دائما عند الخروج من المنزل نوع خاص من القبعات القماشية يسمى بونية Bonnet وشكلها شائعا ومعروفا في أفلام هوليوود المسماة أفلام الغرب الأمريكي. اللافت للنظر أنه كما بدأ ينتشر بين النساء الأمريكيات الأفريقيات عادة لبس أربطة الرأس كذلك رجعت (موضة) لبس قبعة البونية وذلك بعد أن تم تطويرها للنوع الحديث والأنيق من القبعات المسماة القبعة أو العمامة الملفوفة (draped turban). وبعد أن كانت عادة لبس الأشكال المطورة من قبعة التوربان شائعة لدى فتيات الهبييز في الستينيات أصبحت شرائح من النساء في علية القوم لا يترددن عن لبسها في المناسبات والحفلات الباذخة بل وصل الأمر أنها أصبح يحتفى بلبسها في فعاليات عروض الأزياء. ومن هنالك بدأت تظهر هذا القبعات وأغطية الرأس المتنوعة في العديد من الأفلام السينمائية حيث تعتمرها مشاهير ممثلات أفلام هوليوود وبطلات مسلسلات التلفزيون الأمريكي. وبما أن سيرة الأفلام السينمائية ورد ذكرها في سياق الحديث، تجدر الإشارة إلى أنه انتشر في السنوات الأخيرة ظهور بعض شخصيات الفتيات أو النساء المسلمات المحجبات في ضمن مشاهد وأحداث الأفلام وذلك ضمن أدوار سينمائية
مقبولة وليس فيها سخرية أو تشويه للمرأة المسلمة المحجبة ويبدو أننا في بداية تغير الصورة النمطية الشنيعة التي كانت هوليوود ترسخها قديما عن المرأة المسلمة.
بل وصل الأمر لدرجة أن شركة ديزني للأفلام والمسلسلات أطلقت في صيف عام 2022م مسلسلا تلفزيونيا تدور أحداثه عن فتاة مسلمة تدعى كمالا خان هي من شخصيات الأبطال الخارقين superheroes الذين يحاربون الشر وهي أحد أبطال فرقة مارفل Marvel الخارقين مثل الرجل العنكبوت والرجل الأخضر والرجل الحديدي. إن اختيار شركة مارفل كومكس لشخصية فتاة مسلمة لكي تكون ثم قائمتها لأبطال الخارقين، بل وإعطاء هذه الفتاة اسم مميزا (الآنسة مارفل Ms. Marvel) هو أمر مثير للاهتمام. ولكن الأغرب من ذلك أنه وصل الأمر لتقبل الحجاب في بعض شرائح المجتمع الأمريكي (خصوصا لدى تيار اليقظة اليساري wokeism) بعد أن انتشرت أفكار المساواة الاجتماعية ومناهضة التميز العنصري، أدى ذلك لظهور شخصية كرتونية لفتاة مسلمة ليس فقط محجبة بعباءة سوداء بل هي منقبة كذلك. فمن ضمن الشخصيات الإضافية للأبطال الخارقين لمجموعة مارفيل نجد فتاة مسلمة تدعى Dust لقدرتها على التحكم في الرمال والغبار لكي تحارب الأشرار وهي متشحة بالعباءة السوداء والنقاب الأسود.
كلمة أخيرة قبل أن نغادر وبعد هذا الاستعراض العام لظاهرة الحجاب وأنها متجذرة بل ومتجددة في العديد من المجتمعات والحضارات والأديان وليس فقط لدى الشعوب العربية والإسلامية، وبحكم أن العديد من نساء العالم كنّ وما زلن يفخرن بعاداتهن المجتمعية وعباداتهن الدينية المتعلقة بالحجاب وغطاء الرأس. ولذا أود أن أهمس في آذان الفتيات اليافعات والسيدات الكريمات أن موجات القبول والاعتزاز بالحجاب في مختلف المجتمعات والدول هي موجة متنامية ومتصاعدة وإن كان يشوبها الكثير من الغبش، ولذا ينبغي أن تكون ظاهرة التمسك بالحجاب عندنا أقوى وأرسخ وألا يقعن في خطيئة المجاهرة بكشف الشعر والاستخفاف بالحجاب والنفور منه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق