الاثنين، 7 يوليو 2025

( أول سائح عربي من يكون ؟! )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1447/1/10 الموفق 5 من يوليو

من يسافر للولايات المتحدة للسياحة هذه الأيام لا شك بأنه سوف تثير انتباهه كثرة الاحتفالات التي تمت يوم أمس الجمعة بمناسبة عيد الاستقلال الأمريكي في يوم (الرابع من يوليو) ومع ذلك غالبا سوف يمر على هذا السائح يوم (الخامس من يوليو) مرور الكرام ولن ينتبه إلا أنه يوم على درجة عالية من الأهمية في تاريخ (السياحة) بمفهومها الحديث. في الواقع اليوم السبت الخامس من يوليو يتوافق مع تاريخ تنظيم أول رحلة سياحة في التاريخ والتي نفذتها (وكالة توماس كوك للسفر) وهي الشركة التي أنشئها رائد أعمال السياحة والسفر البريطاني توماس كوك. في عام 1841م تم افتتاح أول مكتب للسفريات والعطلات وذلك في مدينة ليستر في وسط إنجلترا وذلك بعد أن قام توماس كوك بتنظيم عطلة للعائلات لمدة يوم واحد في أحد أيام الصيف البهيجة (طبعا هو يوم الخامس من يوليو) عن طريق السفر بالقطار من مدينة ليستر إلى مدينة لفبرا التي لا تبعد إلا حوالي 18 كيلومترا. في الوقت الحالي تشير التوقعات أن متوسط عدد السياح الذين يسافرون كل يوم على مستوى العالم يبلغ حوالي 3.3 مليون سائح بينما في أول رحلة سياحية نظمها توماس كوك بين ليستر ولفبرا كان عدد المشتركين معه حوالي 485 سائح دفع كل واحد منهم مبلغ شلن فقط لتغطية تكلفة استأجرا القطار ومصاريف الرحلة الأخرى.

وبالمعذرة من القارئ الكريم أود أن أشير لأمر شخصي يتعلق بي مع وكالة توماس كوك للسفريات وكذلك بمدينة لفبرا Loughborough التي يحق لها أن تفتخر بأنها أول محطة ووجهة سياحية (tourist destination) في التاريخ. أول رحلة لي للخارج كانت إلى بريطانيا بهدف الدراسة ولهذا قضيت في مدينة لفبرا سالفة الذكر مدة خمس سنوات لدراسة الماجستير والدكتوراه بينما أول (رحلة سياحية دولية) لي كانت من مدينة لفبرا إلى مدينة باريس وكانت من خلال الرحلات الأسبوعية التي ينظمها مكتب وكالة توماس كوك في مدينتي الجامعية لفبرا. وبالمناسبة بعد أن ظلت وكالة توماس كوك تنظم لعقد من الزمن المئات من رحلات السياحية الداخلية بين المدن البريطانية بدأت في عام 1855م وبمناسبة (معرض باريس الدولي) في تنظيم أول رحلة سياحية دولية للشعب البريطاني بين لندن وباريس. ولهذا بعد قرن ونصف من بداية ظاهرة وموجة السياحة الدولية التي أطلقتها وكالة توماس كوك للسياحة والسفر كان من حسن حظي أن قمت ومن خلال وكالة توماس كوك برحلة سياحية بين مدينة لفبرا وباريس وهي رحلة متعبة لأنها كانت باستخدام الحافلة ثم الباخرة عبر القنال الإنجليزي إلا أنها من أجمل الرحلات في حياتي لأنها كانت مع زوجتي وبرفقة أطفالي الصغار سارة وعبدالرحمن الذين أخذتهم لزيارة مدينة ملاهي ديزني لاند باريس.

بالرغم من إقامتي لمدة خمس سنوات في مدينة لفبرا إلا أنني في سنوات الغربة كانت فقط أُعتبر مسافرا ولست سائحا أو رحالة لأنه في دنيا (السياحة والرحلات والعطلات) نجد أن مصطلح السائح له معنى محدد. فحسب الأمم المتحدة وكذلك منظمة السياحة العالمية فإن (السائح الدولي) هو أي شخص يسافر إلى بلد غير بلد إقامته بهدف المتعة أو من أجل الاستجمام. والمشكلة التي تظهر الآن أنه من الناحية التاريخية لو أردنا أن نحدد متى بدأت السياحة في مفهومها الحديث أو من هو أول سائح (بالمعنى الحديث) في التاريخ البشري. في الواقع منذ فجر التاريخ والبشر ينتقلون من مكان لآخر لكن لأهداف متعددة مثل البحث عن الغذاء أو لأجل التجارة أو الغزو والقتال أو لدوافع دينية تعبدية ولأسباب الاستكشاف وحب المغامرة. هذا في السابق أم في العصور الحديثة فأصبح الهدف من السفر للغالبية العظمى لأجل الاستجمام والترفيه ولهذا دائما ما يسأل المسافر السؤال المتكرر: هل أنت مسافر للعمل أو للمتعة (Business or Pleasure). وعلى خلاف الاعتقاد السائد بأن البشر في القديم نادر ما كانوا يسافرون لأجل الترفيه والمتعة يكفي أن نشير إلى أنه في تاريخ اليونان القديم ومنذ عام 776 قبل الميلاد كانت تقام الألعاب الأولمبية كل أربع سنوات في مدينة (أوليمبيا) وبالتالي كان الآلاف من المسافرين من مختلف أقاليم اليونان القديمة يرتحلون لمسافات طويلة بهدف الترفيه والمتعة إلى هذه المدينة اليونانية المميزة. وفي التاريخ الإسلامي تشتهر مقولة للخليفة معاوية بن أبي سفيان تنص على أن (أسعد الناس عيشاً، عبدي سعد يشتو بمكة ويربع بجدة ويصيف بالطائف) وعليه منذ القديم كان يوجد في جزيرة العرب من يسافر بين المدن بهدف الاستجمام ومتعة العيش في الأجواء الجميلة.

وبسبب الكتابة والتوثيق وتسجيل المشاهدات أثناء يوميات السفر يسهل نسبيا أن نعرف في تاريخ أغلب الشعوب والأمم من كانوا رواد الرحلات والاستكشاف في الزمن القديم. فكما هو معلوم المؤرخ الإغريقي هيرودوت كان يوثق في القرن الخامس قبل الميلاد مشاهدات رحلاته في كتابه الشهير (تاريخ هيرودوتس). بينما الراهب البوذي الصيني شوانتسانغ سجل في كتابه (سجلات المناطق الغربية) تفاصيل رحلته التي استمرت لمدة ست عشرة سنة عندما سافر في منتصف القرن السابع الميلادي من الصين إلى الهند لإحضار المئات من النصوص الهندية البوذية ونقلها وترجمتها للغة الصينية. توثيق وتسجيل مشاهدات الرحلة التي يكون هدفها التجارة أشهر من يمكن ذكره من الأمثلة هو كتاب (وصف العالم) للرحالة والتاجر الإيطالي البارز ماركو بولو وبحكم أنه نقل للأوروبيين معلومات وأخبار لم يتعودوا عليها لذا وصفوه بالكذب وتم تحريف عنوان كتاب رحلاته إلى (المليون كذبة il milione). بينما لو كانت الرحلة بهدف دبلوماسي أو سياسي لتوثيق العلاقات مع الدول الأخرى فعندها يتحول الرحالة المغامر من (مسافر) إلى (سفير) كما نجد في كتاب (رسالة ابن فضلان) وفيه توصيف رحلته إلى بلاد الخزر والروس والصقالبة كسفير للخليفة العباسي المقتدر.

عميد السيّاح العرب من يكون ؟!

والمقصود فيما يتعلق برواد الأفاق من أجل السفر والرحلة العلمية أو الدينة أو التجارية أو الدبلوماسية لدينا توثيق غزير لمشاهير أوائل الرحالة ورواد المغامرين والمسافرين ولكن فيما يتعلق بمحاولة معرفة من هم أوائل (السياح) أو المسافرين بهدف التنزه والاستجمام فيصعب تحديد ذلك لأنهم بكل بساطة لم يسجلوا مشاهداتهم اليومية ولم يؤلفوا كتبا ولذ لم يكتب لأسمائهم الخلود والشهرة وذلك وفق القاعدة المشهورة في المجتمع الأكاديمي (publish or perish) بمعنى النشر أو التلاشي. على كل حال يصعب التحديد بدقة من كان أول سائح أوروبي بالمفهوم الحديث (بمعنى السفر لأجل المتعة والترفيه) وإن كانت بعض المصادر تشير إلى أن الرحالة الإيطالي سيرباكوس من أنكونا Cyriacus of Ancona ربما كانت سفرياته المتعددة خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر بدافع السياحة في الأرض والاستكشاف وليس لأهداف علمية أو دينية أو تجارية أو دبلوماسية. في سن الثلاثين بدأ سيرباكوس في عام 1420م رحلاته الاستكشافية والسياحية في مختلف المدن اليونانية وجزر البحر الأبيض المتوسط مثل قبرص وصقلية وكريت كما وصل إلى القسطنطينية ولاحقا توجه إلى القاهرة والإسكندرية ودمشق كما زار كذلك دول أخرى مثل أرتيريا وألبانيا ومقدونيا. وبالجملة قام سيرباكوس بحوالي ثمان أو تسع رحلات مختلفة قام بتوثيق مشاهداته ومذكراته اليومية في كتاب ضخم من ستة أجزاء حمل اسم (التعليقات). 

ومن أول سائح أوروبي (محتمل) ننتقل بعد هذه المقدمة المطولة إلى السؤال في عنوان مقال اليوم: من هو أول سائح عربي (محتمل) ؟. وكما هو متوقع الإجابة على هذا السؤال ليس بالأمر السهل لأن أغلب رواد الأفاق من العرب حتى نهاية القرن التاسع عشر هم من الرحالة وليسوا من السياح. ولعلنا نبدأ بالرحالة الشامي الأصل إدوارد باشا إلياس والذي أقام في مصر وتولى فيها مناصب حكومية فهو وإن كان يشير في كتابه الضخم والثري في أدب الرحلات (مشاهد الممالك) إلى أنه حضر المعرض الدولي لعام 1876م في مدينة فيلادلفيا الأمريكية ضمن وفد حكومي رسمي مصري لمشاركة أمريكا احتفالاتها بمناسبة مرور مئة عام لاستقلالها. ومع ذلك نجد الرحالة إدوارد إلياس يشير بشكل واضح إلى أنه زار مدينة باريس خمس مرات وأن زيارته لها في عام 1900م كانت بهدف سياحي لزيارة (معرض باريس الدولي). وفي مقدمة كتابه عن السياحة والسفر (مشاهد المماليك) يكرر إدوارد إلياس ذكر عبارة (السياحات) للدلالة على السفريات المتعددة والمتكررة خلال سنوات طويلة لعدد كبير من الدول الغربية مثل النمسا وألمانيا والدنمرك والنرويج وفنلندا وروسيا وسويسرا وهولندا وبلجيكا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وإنجلترا وإيطاليا والولايات المتحدة ومالطا واليونان ورومانيا وبلغاريا وصربيا. أما فيما يخص الدول والمدن العربية والإسلامية فقد زار رائد السيّاح العرب إدوارد إلياس دول تركيا والجزائر وتونس والمغرب وليبيا وسوريا ولبنان.

وفي حين أن رائد السيّاح العرب إدوارد (باشا) إلياس استعان بمنصبه الحكومي في تسهيل سفرياته ورحلاته الخارجية بدليل أنه حصل على رتبة (البشوية) واللقب الرسمي التشريفي (الباشا). وبلا شك المنصب الحكومي الرفيع للباشا إدوارد إلياس في وظيفة مفتش في وزارة الداخلية المصرية وفر له دخلا ماليا وفيرا كما ساعد في اختياره لمشاركة في تمثيل الوفود المصرية الرسمية في عدد من الدول الخارجية. وفي المقابل نجد أن السائح المصري (الهاوي) محمد ثابت هو خير مثال للمسافر العربي العاشق للسياحة والاستكشاف حتى ولو لم يكن شخص ثري أو مسؤول حكومي يتمتع بمزايا متعددة عند السفر يوفرها له منصبه الرسمي.

ربما كان من الملائم أكثر نشر هذا المقال في شهر يونيو من صيف العالم المقبل بمشيئة الله وذلك لكي يتزامن مع (مئوية) بداية أهم رحلات سياحية عربية في العصر الحديث وذلك عندما قام الشاب المصري محمد ثابت في صيف عام 1926م مع اثنين من رفقائه (علي الأهواني وعبدالرحمن السيد) برحلة سياحية بالباخرة من الإسكندرية إلى إيطاليا. ولاحقا قام محمد ثابت وزملائه بزيارة بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وسويسرا وإنجلترا وهو ما ذكر تفاصيله في أول كتاب ألّفه عن أدب الرحلات وحمل عنوان (جولة في ربوع أوروبا). في الواقع عندما بدأ الشاب المصري محمد ثابت سلسلة رحلاته لجميع دول قارات العالم كان يعمل كمدرس للمرحلة الثانوية في القاهرة ومن ثم بدأت معه (عادة) أن يقوم في عطلة الصيف من كل سنة برحلة لدول وأقاليم جغرافية مختلفة. وفي رحلته الثانية للقارة الأوروبية في صيف عام 1930م لم يجد من زملائه من يرغب أن يرافقه ولهذا سافر منفردً إلى أثينا وتركيا ورومانيا ويوغوسلافيا والمجر والنمسا والتشيك وألمانيا وهولندا والدنمارك وأسكوتلندا والسويد والنرويج وأيسلندا.

وهكذا وخلال عشرين سنة منذ عام 1926م وحتى عام 1946م قام السائح والرحالة الفريد (محمد ثابت) بحوالي 13 رحلة سياحية صيفية تستمر كل واحدة منها أكثر من أربعة أشهر طاف وجال فيها في جميع قارات الأرض. وحسبما ذكر الرّحالة والسائح محمد ثابت عن نفسه فقد قطع خلال رحلاته مسافة يزيد مجمعها عن مائتي ألف كيلومتر ثم علق بقوله إن هذه المسافة هي (مدى الطواف حول الأرض خمس مرات) علما بأن أغلب رحلاته البعيدة كانت تتم باستخدام الباخرة قبل شيوع الطيران المدني التجاري. وقد أخرج السائح محمد ثابت أكثر من عشرة من كتب أدب الرحلات التي توثق سفرياته المذهلة والمتنوعة مثل كتاب (جولة في ربوع آسيا) وكتاب (جولة في ربوع أفريقيا) وكتاب (جولة في ربوع الشرق الأدنى) وكتاب (جولة في ربوع أستراليا) وكتاب (جولة في ربوع العالم الإسلامي) وكتاب (جولة في ربوع الدنيا الجديدة) أي في أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية. وهذه الكتب المفردة تم طباعة بعضها على شكل سلسلة تحمل عنوان عام ومشترك هو (العالم كما رأيته) وتتكون من ستة مجلدات وهي عندي ولله الحمد في نسختها المطبوعة. ولكن بحكم أنها سلسلة طويلة ومن المشهور عن الرحالة محمد ثابت الاستطراد أثناء استعراض مشاهداته السياحية وملاحظاته الجغرافية ومعلوماته التاريخية والسياسية ولهذا أنصح بشدة قراءة كتابه المختصر (رحلاتي في مشارق الأرض ومغاربها) وهو كتاب لطيف في 200 صفحة فقط. 

وكلمة أخيرة قبل أن نغادر القصة العجيبة لرائد السياحة العربية الحالة محمد ثابت أنه في تاريخ الرحلات العربية قديما وحديثا يبرز اثنان من الرحالة العرب بشكل متكرر وهما: أشهر رحالة في التاريخ البشري (أي المغربي ابن بطوطة) وعميد الرحالين العرب معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمة الله. وفي حين أن العديد من المصادر التاريخية تقدر المسافة التي قطعها ابن بطوطة بحوالي 120 ألف كيلومتر ومن هنا نعلم أن السائح المعاصر محمد ثابت عندما سافر لمسافات تزيد عن 200 ألف كيلومتر كان قد تفوق على ابن بطوطة الذي لم تصل رحلاته إلى أوروبا والأمريكيتين أستراليا وجنوب القارة الأفريقية. صحيح أن الرحالة الكبير الشيخ العبودي فاق هو الآخر في سفرياته ما وصل له ابن بطوطة وحسب ما يقال بأنه الرحالة العبودي قد زار حوالي 160 دولة. ومع ذلك يتميز السائح محمد ثابت بأنه أول شخص عربي ومسلم في التاريخ طاف جميع قارات وبلدان العالم قبل شيوع استخدام الطائرة كما أن كتب محمد ثابت في أدب الرحلات تغطي بلدان على درجة عالية من الأهمية لم تناقشها أي من 120 كتاب في أدب الرحلات التي نشرها الشيخ العبودي. ومما يحيرني أنه ولأسباب غير مفهومة لا نجد في كتب الرحالة العبودي أو حتى في المقابلات والندوات الفضائية مع الشيخ العبودي أي إشارة واضحة وصريحة لتفاصيل زيارته لدول مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وكندا بالرغم من أن فيها أهم الجاليات الإسلامية على الإطلاق. الأمر الآخر الذي تجدر الإشارة إلى أن السائح محمد ثابت كان يدفع تكاليف رحلاته من جيبه الخاص وهو كما ذكر مبلغ ثلاثمائة جنية في كل سفرية صيفية (وهذا مبلغ كبير بمقاييس ذلك الزمن لمدرس راتبه الشهر بضع جنيهات معدودة). كما أن محمد ثابت كان يعتمد على نفسه في ترتيب سفرياته وتنقلاته خلاف مشاهير رحالة وسائل التواصل الاجتماعي المعاصرين الذين توجد شركات راعية لسفرياتهم. بل الرحالة السعودي عبدالله الجمعة في برنامج (حكايا سفر) خصصت له قناة روتانا خليجية فريق عمل كبير يرافقه في سفرياته وهذا ما حصل كذلك مع الرحالة الفلسطيني حازم أبو وطفة مقدم برنامج (المسافر) الذي تنتجه قناة الجزيرة أو الرحالة الإماراتي علي آل سلوم مقدم برنامج (دروب) على قناة دبي.

والمقصود أننا وفي نهاية الأسبوع الأول من الإجازة الصيفية وبداية موسم الرحلات والهجرة إلى الشمال نود أن نقرر بأن الرحالة الكبير محمد ثابت يستحق لقب (عميد السيّاح العرب) كما يستحق الشيخ العبودي بكل جدارة لقب (عميد الرحالة العرب) ولذا أقترح العالم القدم بمشيئة الله وبمناسبة مرور مئة سنة على بداية سفريات محمد ثابت الصيفية أن يتم اختيار أحد أيام شهر يونيو من عام 2026م لكي يصبح مناسبة سنوية يحتفل بها تحت اسم (اليوم العالمي للسياحة العربية).


 

( 28 يونيو وذكرى بداية ونهاية الحرب العالمية الأولى )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت  1447/1/3 الموافق 28 يونيو

كالعادة في الأجواء السياسية المشحونة يميل البعض للتشاؤم المبالغ فيه وتوقع الأسوأ (لدى علماء النفس مطلح لهذه الظاهرة: الانحياز التشاؤمي pessimism bias) ولهذا ارتفعت الأصوات قبل سنوات بأن الصراع الروسي الأوكراني لا شك بأنه سوف يشعل أوار ونار الحرب العالمية الثالثة. وكذلك الأمر مع الصراع الصهيوني الفارسي هذه الأيام تشاءم البعض إلى أن المنطقة العربية سوف تحترق من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، ولكن الله سلّم ومرّت الأمور مؤقتا لمرحلة فك الاشتباك.

ومع ذلك الراصد لحركة التاريخ ومسارات الحروب البشرية الكبرى يجد تناقضات هائلة فأحيانا أحداث سياسية وقلاقل حربيه كبرى تتلاشى وكأن لم تكن وفي المقابل قد يكون الحال في بعض الحالات كما في المثل الدارج (معظم النار من مستصغر الشرر). وفي زمننا المعاصر تعتبر الحروب العالمية الأولى والثانية أهم أحداث سياسية على الإطلاق ومن المصادفات أنني وفي سفريات سياحية بحته عاصرت ذكرى نهاية الحرب العلمية الثانية وذكرى انطلاقة الحرب العالمية الأولى. العالم الماضي وبتخطيط مسبق رتبت جدول سفري لكي أكون في مدينة هيروشيما اليابانية في تمام الساعة الثامنة والنصف من صباح السادس من أغسطس بحيث أقف أمام (القبة الذرية) لكي أعيش أجواء إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما والنهاية الحاسمة للحرب العالمية الثانية.

وفي المقابل وبدون ترتيب مسبق حصل في عالم 2018م أن وصلت إلى مدينة سراييفو في تاريخ لم انتبه في بداية الأمر أنه على درجة عالية من الأهمية حيث كان يتوافق مع اليوم الذي انطلقت فيه شرارة الحرب العالمية الأولى أو ما كانت في حينه تسمى بكل بساطة وبكل دلالة في نفس الوقت (الحرب العظمى Great War). يا سادة يا كرام اليوم السبت الموافق 28 من شهر يونيو يتزامن مع الذكرى 115 لحادث اغتيال الأرشيدوق فرناز فرديناد ولي عهد الإمبراطورية النمساوية في أحد شوارع سراييفو وعلى يد متعصب صربي. في يوم 28 يونيو من عام 2018م وعندما سكنت في المنطقة التاريخية المذهلة في وسط سراييفو بالقرب من جامع الغازي خسرو بك ذهبت للتجول حول النهر وبالذات لمنطقة الجسر اللاتيني لمعرفتي المسبقة أنه الموضع الذي وقعت حوله حادثة اغتيال ولي عهد النمسا. وإذا بي أشاهد تجمهرا للسياح والمارة حول سيارة كلاسيكية سوداء مكشوفة السقف وإذا رجال ونساء يقفون بالصف لكي يصل دورهم في ركوب تلك السيارة الكلاسيكية السوداء ولبس بدلة زرقاء رجالية أو حمل شمسية نسائية ومن بعد ذلك تلتقط لهم الصور وهم يمثلون دور الأرشيدوق النمساوي عندما تم اغتياله هو وزوجته الأميرة صوفي.

لاحقا في مساء ذلك اليوم (الخميس 28 يونيو 2018م) وبعد أن تنبهت أن ذلك اليوم يتوافق مع موعد انطلاق شرارة الحرب العالمية الأولى ودور البوسنة والهرسك في هذا الشأن وبحكم أنني كنت قد أطلعت على تاريخ الصراع السياسي والتاريخي القديم في إقليم البلقان وشاهدت عبر السنين العديد من الأفلام الوثائقية عن حادثة اغتيال ولي عهد النمسا الغريبة جدا لهذا لم أنم تلك الليلة إلا بعد أن كتبت ونشرت المقال التالي:

 ( في السياسة .. معظم النار من مستصغر الشرر )

 إذا أراد الله سبحانه أمراً هيأ أسبباه 

 التاريخ البشري حافل بأحداث القتال والمعارك، ولكنها في الغالب معارك معزولة بين دول وشعوب محدودة. هذه القاعدة الحربية تغيرت بشكل حاد بعد اندلاع الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى WWI) والتي انطلقت شرارتها في مثل هذا اليوم أي ( يوم 28 يونيو ) قبل حوالي قرن من الزمان وذلك من جراء حدث ليس بالجلل تم في شارع عادي في مدينة منسية (في ذلك الوقت) تدعى سراييفو. في ذلك اليوم من عام ١٩١٤م تمت الحادثة الغريبة لاغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية فرانز فرديناد في مدينة سراييفو ولحكمة شائها المولى عز وجل كُتب على البشرية أن تندلع أشرس حرب عسكرية وأخطر زلزال سياسي سوف يعيد تشكيل خارطة دول وشعوب وإمبراطوريات وكل ذلك من جريرة حادثة كل الظروف الاعتيادية تحتم ألا تقع.

كانت الإمبراطورية النمساوية المجرية تحكم بلاد البلقان حيث كانت الأقلية الصربية مغالية جدا في تعصبها الديني ومعارضتها السياسية وعليه كانت زيارة الأرشيدوق وريث عرش النمسا لمدينة سراييفو خطأ فادحا ما كان ينبغي أن يقع. وفي حال تمت تلك الزيارة كان من الخطأ كذلك أن تتم في توقيت عيد القديس فيتوس الذي يتوافق مع معركة حربية خسراها الصرب وبالتالي كان من الحماقة استفزاز مشاعرهم بمثل تلك الزيارة في ذلك التوقيت. الغريب في الأمر أن المحاولة الأصلية للاغتيال الأرشيدوق تمت من خلال الشروع في تفجير سيارته عن طريق رمي قنبلة يدوية عليها وهو ما تم بالفعل، ولكن شاء الله أن تتدحرج القنبلة ولا تنفجر إلا في السيارة التي خلفها وبهذا نجى الأرشيدوق وزوجته من موت محتوم. وكان من المفترض بعد ذلك أن يتم التشديد في حماية الأرشيدوق لأن شكوك الاستخبارات المسبقة قبل زيارته كانت في محلها، ولكن تدخل قدر الله فبعد أن غادر الموكب مكان الحدث طلب الأرشيدوق أن يزور المستشفى الذي به الجرحى الذين أصيبوا من حادث التفجير الذي تم صباح ذلك اليوم وهنا تحدث المفاجأة الكبرى.

في الواقع كان أحد المتعصبين الصرب الذين شاركوا في محاولة التفجير قد غادر الموقع قبل أن ينتبه له رجال الأمن وبحكم أنه أعتقد أن محاولة الاغتيال قد كتب لها الفشل لذا حاول أن يبعد عن نفسه الشبهات فتوجه وكأنه زبون عادي لاحتساء القهوة في شارع فرانز جوزيف قرب الجسر اللاتيني على نهر سراييفو. وهنا ساق الله الأرشيدوق ليذهب بنفسه إلى حتفه وليقع بين يدي قاتله وذلك أنه حصل خلاف بين قائد شرطة سراييفو والقائد العسكري للمنطقة حول خطة تأمين شوارع المدينة وبالتالي كان شارع فرانز جوزيف غير مأمن بشكل جيد. ولسبب غير معروف توقف موكب سيارات الأرشيدوق أمام ذلك المقهى وهنا وبكل بساطة أخرج الشاب الصربي المدعو غافريلو (عضو جماعة القبضة السوداء المتعصبة) مسدسه وأطلق النار على الأرشدوق وزوجته فأرداهم قتلى. وما تلا ذلك أصبح من التاريخ كما يقال:

أعلنت النمسا الحرب علي صربيا

تدخلت روسيا لمساندة الصرب

أعلنت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا دعمهم لروسيا

أعلنت ألمانيا تحالفها ومساندتها للإمبراطورية النمساوية وتم جر رجل الدولة العثمانية معهم

وبهذا حصلت كارثة الحرب العالمية الأولى

البوسنة والهرسك أرض البؤس والهرس

ما حصل بين دول وشعوب وإمبراطوريات ذلك الزمان معقد وإن أمكن تبريره وتفسيره بشكل مختزل فربما يتم إرجاعه لعوامل: (الاحتقان العرقي) و (التنافس السياسي)   و (استرجاع التاريخ). ما تم في بلاد البلقان في مطلع القرن العشرين تكرر مرة أخرى بمأساوية مفجعة في نهاية ذلك القرن، فبسبب الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واسترجاع التاريخ تم مرة ثانية إشعال حرب عرقية سياسية في أرض يوغوسلافيا التي تشكلت من مزيج عرقي وديني متنافر من الصرب والكروات والبوسنويين وغيرهم من الأعراق الأرثوذكسية والكاثوليكية والاسلامية.

 ولهذا ليس من الغرابة بمكان أنه لم تندلع حرب في القارة الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلا في يوغوسلافيا بالذات فهي أرض خصبة دائما للتشرذم والصراع. وهكذا تحولت فجأة (أرض عدم الانحياز) زمن الزعيم البارز جوزيف تيتو إلى بلاد التشظي والانحياز السياسي والديني والعرقي وذلك بعد سنوات قليلة من وفاة تيتو في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين. ونتيجة للاستحضار والاستجرار الصارخ للتاريخ حصلت الكارثة البقعاء في أرض البلقان فكما تسببت زيارة الأرشيدوق سابقا زمن ذكرى هزيمة الصرب في اندلاع الحرب العالمية الأولى تسببت ذكرى هزيمة أشنع وأقدم للصرب في اندلاع الحرب الأهلية اليوغوسلافية. إرهاصات زلزال هذا الانقسام حصلت في عام ١٩٨٩م عندما أحتفل التيار المتطرف من القومية الصربية بمرور ستة قرون على (معركة كوسوفو) عام ١٣٨٩م والتي أنتصر فيها الجيش العثماني وتم فتح بلاد البلقان ودخلها الإسلام.

ولهذا بدأت الأحزاب المتطرفة الصربية من عام ١٩٨٩م في التصريح بكل صفاقة بطلب (تطهير) الأراضي الصربية من المسلمين وإعادة تهجيرهم إلى تركيا وأرض البشناق ومن هنا اندلعت لاحقا حرب البلقان. ولهذا كان الصراع داميا وجرائم الإبادة الإنسانية أبشع في حرب الصرب للمسلمين في البوسنة وحصارهم الرهيب والطويل لمدينة سراييفو وما حصل في هذه الحرب أشنع بما لا يقاس بما حصل من حرب بين الكروات الكاثوليك والصرب الأرثودوكس. 

للأسف لا أحد يتعلم من التاريخ الذي ما برح يكرر نفسه حيث إن أسباب وعوامل (الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واستجرار التاريخ) هي نفسها التي تسببت في حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا وحرب الثلاثين عام بين فرنسا والإمبراطورية الألمانية القديمة فضلا عن كوارث الحربين العالميتين وما بعدها. وخط التاريخ الاستطرادي المستقبلي ما زال في عنفوان صعوده وللأسف تاريخ البشرية في القديم والحديث (سلسلة متواصلة من الأخطاء) التي تبدأ أحيانا بمسببات تافهة هي مستصغر الشرر والذي سرعان ما يشعل مستعظم الضرر.

 اليوم الخميس الثامن والعشرين من شهر يونيو من عام ٢٠١٨م أقف في (بؤرة الحدث) الذي تم في نفس هذا اليوم قبل حوالي قرن من الزمن وأسترجع كيف تسبب (تراكم الأخطاء) البسيطة في قصة اغتيال ولي عهد النمسا في تغيير واقع التاريخ البشري بصورة غير مسبوقة. مخاض قاسي عانته البشرية جمعاء جراء الحروب العالمية وظهور الشيوعية ومع ذلك يمكن استشراف الخير من خضم الشر. فها هي ذا سراييفو ذاتها والبوسنة من خلفها قد (تعافت وصحٓت) بعد بؤس ولهذا ليس لي إلا أن أترنم بقول طيب الذكر المتنبي عندما فلسف حكمة احتمالية وقوع البلاء :

لعل عتبك محمودٌ عواقبهُ

                    وربما صحٓت الأجسام بالعللِ

 

يوم 28 يونيو وذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى

الفقرات السابقة كانت إعادة نشر للمقال الذي كتبته بشكل مستعجل في يوم 28 يونيو من عام 2018م عندما تنبهت بأنه يتوافق مع (ذكرى انطلاق شرارة) الحرب العالمية الثانية والغريب في الأمر أنني في الفترة الأخيرة تنبهت مرة أخرى أنه ربما يتوافق كذلك مع (اللحظة الرسمية) لإعلان نهاية الحرب العالمية الأولى. منذ سنوات وأنا أعلم أن نهاية (القتال) والعمليات العسكرية في الحرب العالمية الأولى تمت في توقيت مميز جدا حيث حصل وقف إطلاق النار في تمام: الساعة الحادية عشرة صباحا من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر من عام 1918م (1918/11/11: 11:00 am). ومع ذلك ظل الاحتقان السياسي سائد بين الدول الأوروبية المتنافسة والمتصارعة حتى تم في نهاية المطاف الإعلان بشكل رسمي عن نهاية الحرب العالمية الثانية وذلك في لحظة توقيع (معاهدة فرساي). هذه المعاهدة المشهورة التي اجتمعت وفود دول العالم الكبرى لمناقشتها وتوقيعها في ضواحي مدينة باريس حصلت في توقيت مميز كما كان موعد هدنة وقف إطلاق النار في موعد مميز. في يوم 28 يونيو من عام 2018م عندما وصلت لمدينة سراييفو لم أنتبه إلا لاحقا بأنني وصلت في توقيت ذكرى اندلاع الحرب العالمية الأولى واليوم أعلم أنن في نفس تلك اللحظة كنت في الواقع تقريبا في توقيت الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى والتي تمت بشكل رسمي في يوم 28 يونيو من عام 1919م.

ولهذا كلمتي الأخيرة للسياح السعوديين والعرب الموجودين اليوم (28 يونيو) في مدينة سراييفو سوف أسدي لهم نصيحة سياحية وثقافية بأن يتوجهوا اليوم إلى مبنى (Riverside Residence) المقابل للجسر اللاتيني على نهر سراييفو وهنالك غالبا سوف يجدون سيارة كلاسيكية سوداء يتزاحم حولها السياح وعشاق التاريخ لكي يعيشوا تجربة استشعار أجواء بداية الحرب العالمية الأولى وكذلك ذكرى نهايتها.