د/ أحمد بن حامد الغامدي
في سياق مدخل هذا المقال ربما نبدأ نستوعب الآن
أن السيدة الروسية (فالنتينا تريشكوفا) التي نسأل عنها هي في الواقع أول امرأة في
التاريخ تصل للفضاء وذلك في عام 1963م أي بعد سنتين فقط من تحقيق رائد الفضاء
الروسي لهذا الإنجاز البشري الهائل. في المقابل إذا كان رائد الفضاء ألان شيبارد هو
أول أمريكي يصل للفضاء وذلك عام 1961م فإن التاريخ الأمريكي لن يشهد ظهور أول
رائدة فضاء أمريكية بعد سنتين من ذلك التاريخ (كما فعل الروس) وإنما بعد مرور أكثر
من عقدين من الزمن حيث حدث في عام 1983م انضمام السيدة الأمريكية سالي ريد لقائمة
رواد الفضاء.
الطريف في الأمر أن القائمين على برنامج غزو
الفضاء في الاتحاد السوفيتي ليس فقط كانوا أسرع بكثير من نظرائهم الأمريكيان في تمكين
المرأة من غزو الفضاء، ولكن أيضا عندما شرعوا في محاولة الوصول للقمر لم يترددوا في
أن يطلقوا على برنامجهم العلمي الهادف للهبوط على قمر اسم (برنامج لونا) وهذا الاسم
في الغالب مشتق من اسم لونا Luna وهي ربة القمر وفق الأساطير الرومانية.
بينما في المقابل نجد الأمريكان وبكل سخافة وصفاقة يطلقون على برنامجهم الفضائي للهبوط
على القمر الاسم المعلوم للجميع (برنامج أبولو) وبحكم أن أبولو Apollo
هو آلة الشمس في الميثولوجيا الإغريقية ونظرا لأن القمر يرتبط أكثر بالمرأة ومن
هذا اعتبر البعض أن تسمية برنامج أبولو تعكس ترسيخا للذكورة وتهميش متعمد ضد المرأة.
في العادة إذا تغيرت الظروف ومع مرور الزمن يستخدم
تعبير (مياه كثيرة جرت تحت الجسر) ولكن بحكم أن حديثنا عن الفضاء فالأفضل أن نقول (مع
سريان الفلك الدوار) تتغير الأحوال وتتبدل الأفعال وبعد الإقصاء والتهميش المبرمج
للعنصر النساء يأتي زمن التحيز الإيجابي مع المرأة وليس ضدها. وبعد التناقض في عنوان
البرنامج الفضائي الأمريكي للهبوط على سطح القمرة وتسميته باسم إله الشمس (أبولو)
يتم الآن التصحيح لهذه التسمية الشنيعة ويتم التجهيز لإطلاق برنامج جديد لهبوط الرواد
الجدد من رجال (ونساء) الفضاء الأمريكيان على سطح القمر. وفي زمن تمكين المرأة ليس
بمستغرب أن نجد أن هذا البرنامج الفضائي الجديد يحمل اسم: (برنامج أرتميس) وهو
برنامج رحلات فضائية تابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية
ويهدف بالدرجة الأولى لهبوط (أول امرأة) على سطح القمر. بقي أن نقول إن اسم البرنامج
الجديد هو توظيف لاسم ربة القمر أرتيمس Artemis وفق الأساطير الإغريقية
وهي بالمناسبة كذلك الأخت التوأم لإله الشمس أبولو بزعمهم.
وفي هذا السياق نفهم الأخبار المتلاحقة
والمتتالية عن الإعلان قبل عدة أشهر عن برنامج لاختيار أول رائدة فضاء تونسية وأول
رائدة فضاء إماراتية (السيدة نورا المطروشي) وبالأمس تم الإعلان عن التجهيز لبرنامج
سعودي لرواد الفضاء سوف تصل من خلاله أول سعودية إلى عالم الفضاء.
وبالعودة لسيرة السيدة الروسية فالنتينا
تريشكوفا والتي هي أول رائدة فضاء في التاريخ أليس غريبا أنها خارج روسيا هي في الغالب
شخصية مجهولة ولا يعرف اسمها إلا القليل لدرجة أنني وأنا الشخص المدمن لمشاهدة
البرامج الوثائقية العلمية لا أذكر أن اسمها قد مرّ في أي برنامج علمي على خلاف أسماء
العشرات والعشرات من رجال ورواد الفضاء من جميع الجنسيات. التهميش والإقصاء للمرأة
أمر غير مقبول، ولكن في المقابل التحيز الإيجابي للمرأة لمجرد أنها امرأة أمر لا يستلزم
منه أنها في نهاية المطاف سوف تحوز ما يحوزه الرجل من الاحتفاء والاحتفال. قبل عدة
سنوات وعند زيارتي لمدينة موسكو مع بعض الإخوة الكرام كان على رأس البرنامج
السياحي لنا زيارة ساحات ومتحف رواد الفضاء في وسط موسكو. في الساحة الخارجية لهذا
المتحف المميز يوجد تمثال نصفي ضخم لرائد الفضاء الروسي يوري غاغارين وبالقرب منه
مباشرة تمثال مشابه لرائدة الفضاء فالنتينا تريشكوفا وما لفت نظري وأثار استغرابي
أن تمثال يوري غاغارين مثبت عليه طوق كبير من الأزهار الجميلة في حين لا يوجد مثل
ذلك الطوق الزهري على تمثال فالنتينا ترشكوفا. لماذا هذا التباين في الاحتفاء
برائد الفضاء الرجل دون رائدة الفضاء المرأة أمر لا أعرف الإجابة عليه.
في المقابل وعلى ذكر وضع الزهور والورد على
النصب التذكارية والقبور نجد أن المرأة عندما تنال مكانتها بالتميز المحض وبقدراتها
البحتة وليس بالتحيز الإيجابي معها قد يفوق الاحتفاء والاحتفال بها ذاك الذي قد يصل
له الرجال. عندما زرت مبنى البانثيون (أو ما يسمى مقبرة العظماء) بالحي اللاتيني
في باريس والذي يضم قبور ورفات أشهر رجالات الأمة الفرنسية مثل فولتير وجان جاك
رسو وفيكتور هوغو وأميل زولا وألكسندر دوما وغيرهم كثير، وجدت أن الشخص الوحيد الذي
وضع على قبره زهور كبادرة للتقدير والإجلال هي فقط السيدة ماري كوري. كما هو معلوم
فإن (مدام كوري) هي الشخص الوحيد في التاريخ الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء
وكذلك في الكيمياء ولهذا أصبحت من مشاهير النساء وحتى الآن تحظى بتقدير وإعجاب
ومحبة الملايين وربما هذا يفسر لماذا كانت الزهور موضوعة على حافة قبرها ولم توضع كذلك
على حافة قبر زوجها بيير كوري الذي حصل هو الآخر على جائزة نوبل في الفيزياء.
وعلى ذكر جوائز نوبل لعل من المناسب أن نذكر
أن (أول امرأة) في التاريخ تحصل على جائزة نوبل في الأدب هي شخصية أدبية مجهولة
تماما الآن وهي السيدة سلمى لاغرلوف والتي حصلت عليها في تاريخ مبكر جدا من تاريخ
الجائزة إي في عام 1909م. حصول السيدة سلمى لاغرلوف على جائزة نوبل كان بكل تأكيد
بسبب (التحيز الإيجابي لصالحها) وذلك لأنها كانت بكل بساطة سويدية الجنسية ولهذا
رغبت الأكاديمية السويدية أن تمنح هذا الشرف لامرأة من بلد السيد ألفريد نوبل في
حين أنها كانت (ويا للفضيحة) تتعمد حجب هذه الجائزة المرموقة عن عملاق الأدب العالمي
الروائي الروسي تولستوي الذي توفي بعد عام واحد من منح الجائزة لتلك المرأة المجهولة.
وكأن تولستوي مات مقهورا وبذلك يتشابه مع عملاق العلم الروسي ديمتري مندلييف الذي
حجبت عنه جائزة نوبل في الكيمياء لعدة سنوات حتى توفي عام 1907م وهو يشعر بالألم والقهر
من العنصرية الأوروبية ضد الأدباء والعلماء الروس.
قبل قرنين من الزمان وبالضبط في عام 1818م
كتبت الأديبة الإنجليزية المشهورة جين أوستن (لقد كان للرجال الأفضلية الكاملة
علينا في أن يرووا قصتهم من دوننا، لقد كان التعليم ملكا لهم وكانت الأقلام في
أيديهم). عندما استشعرت الروائية جين أوستن عمق التحدي وصعوبة المنافسة الأدبية في
دنيا الحروف التي يسيطر عليها الرجال ولهذا بذلت أقصى جهد لها لكي تبرز بين هذه
القامات الشاهقة وعندما فعلت ذلك أصبحت مكانتها في دنيا الأدب النسوي مماثلة لمكانة
شكسبير بين بقية الأدباء. والمقصود بمختصر العبارة أنا أتفق تماما مع عبارة
الروائية الجزائرية المبدعة أحلام مستغانمي إذ تقول (كل ما يأتي على عجل يمضي سريعاً،
وكل ما نكتسبه بسرعة نخسره بسهولة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق