/ أحمد بن حامد الغامدي
قبل ذلك نحتاج أن نعود بالتاريخ إلى صيف عام
1997م حيث نجد أن غرب الولايات المتحدة وبالتحديد في ولاية كاليفورنيا تعرضت
لكارثة هطول أمطار قياسية وفياضات جارفة بينما في المقابل وفي نفس التوقيت وعلى الطرف
الآخر من العالم يتم رصد موجات جفاف حادة جدا في الجزر الإندونيسية. من الناحية
الظاهرية قد يظن البعض أنه لا يوجد رابط بين تلك الأضداد والمتناقضات المناخية
الغريبة والمفاجأة بين أمريكا غرباً وإندونيسيا شرقاً ومع ذلك كانت تلك السنة وتلك
الأحداث المناخية المتناقضة من أهم اللحظات في تطور علم المناخ الحديث عندما أكتشف
العلماء ما يسمى بظاهرة (إل نينيو El Nino). في علم المناخ يقصد بظاهرة إل نينيو تلك
الدورة المناخية التي تحدث عبر المحيط الهادئ (ذلك المسطح المائي الهائل الذي يربط
كاليفورنيا بإندونيسيا) والتي لها تأثير هائل على حالة الطقس حيث قد تسبب فيضانات
مهلكة في دول غرب أمريكا الجنوبية مثل التشيلي والبيرو بينما تنتج جفافا وحرائق في
الأراضي الأسترالية والنيوزلندية. وبحكم أن هذه الظاهرة أصلا تحصل بسبب التغيرات الملحوظة
في درجة حرارة مياه المحيط الهادي والتي تبلغ ذروتها في فصل الشتاء. فقد لاحظ صيادو
الأسماك على سواحل البيرو أنه في بعض السنوات وفي فترة احتفالات عيد (الميلاد)
تنخفض بحدة وفرة محصولهم من الأسماك ولهذا كانوا يسمون ذلك الموسم الشتوي الفقير
بالصيد قرب زمن ولادة الطفل المسيح (بزعمهم) باسم (إلنينيو) وهي تعني باللغة
الإسبانية الطفل أو النونو كما هو شائع لدينا.
وبالمناسبة عندما تفطن علماء المناخ إلى حقيقة
وجود رابط وأسباب مشتركة بين ظواهر الطقس المتضادة عبر المحيط الهادئ توصلوا
للتفكير السليم للعودة للوراء لتفسير العديد من الكوارث المناخية التي حدثت في التاريخ
للدول المطلة على المحيط الهادي سواء في السواحل الغربية من الأمريكيتين أو دول جنوب
شرق آسيا. ليس هذا وحسب، بل عموم ظاهرة (ألنينو) المناخية لتشمل تقلبات الطقس
الحادة حول المحيط الهندي وبهذا تم الربط بين حالات الجفاف الحادة في دول القرن
الإفريقي وبين موجات الفيضانات العاتية في جنوب شبة القارة الهندية. بالنسبة لي
شخصياً شعرت بالكثير من الأم والحيرة في نهاية المرحلة الابتدائية عندما بدأت
مظاهر الجفاف تغزو قريتي الصغيرة في مدينة الباحة عندما جفت عبر السنين جداول وبرك
المياه. وتقريبا في نفس تلك الفترة (أي تقريبا بعد سنة 1983م) بدأنا نشاهد في
نشرات الأخبار مأساة الجفاف والمجاعة المهلكة التي حدثت في إثيوبيا وبعدها بسنوات
وصلتنا أخبار الفيضانات المدمرة التي كانت تتكرر على دولة بنجلاديش وما حولها.
واليوم نعرف تقريبا أن الجفاف النسبي الذي
أصاب قرى بلاد غامد وجنوب المملكة مع المجاعات الإثيوبية والصومالية المتكررة
بالإضافة لفيضانات بنجلادش يمكنها تفسيرها من خلال ظاهرة مناخية مشابه لظاهرة ألنينو
ولذا بعضهم يسميها (ألنينو الهندي) فيما يفضل البعض إطلاق اسم أكثر رصانة علمية وهو:
Indian
Ocean Dipole (ثنائية قطب المحيط الهندي). والمعنى من ذلك أن
التغير في درجات حرارة مياه المحيط الهندي تجعل الطرف (القطب) الشرقي منه مثلا أكثر
حرارة بينما يكون الطرف (القطب) الغربي من المحيط الهندي أكثر برودة. وهذه الاستقطابية
تسبب تحركات دائرية لتيارات مياه المحيط وبالتالي حركة الرياح والسحب مما يفرز في
النهاية تجمع السحب الماطرة في القطب الساخن بينما في المقابل يحل الجفاف والحرائق
والمجاعة بالدول الملامسة للقطب البارد.
وبالعودة إلى (الأجواء) التي نعيشها اليوم من
موجات الجفاف والحرائق التي عمّت أغلب الدول الأوروبية خلال هذا الصيف وانخفاض
مستويات مياه الأنهار لدرجة انكشاف ما يسمى أحجار الجوع أو السفن الغارقة في ضفاف
الأنهار. بينما في المقابل كلنا صدمنا بالكوارث الطبيعية التي أصابت المنطقة
العربية والإسلامية كما حصل مع الفيضانات غير المسبوقة التي شهدتها إمارات رأس
الخيمة والشارقة والدوحة وأجزاء من إيران وأخيرا خلال هذا الأسبوع من الطوفان
المائي المرعب الذي عانت من دولة باكستان.
وعليه هل ما نشاهده هذه الأيام من الأضداد
والمتناقضات المناخية ما بين جفاف أوروبا وفيضانات آسيا له نوع ارتباط وتأثير مشترك.
الإجابة صعبة وتحتاج إلى خبرة المختصين في علوم المناخ والأرصاد الجوية لأنه بصورة
مبدئية لا يوجد (جسم مائي واسع) يربط بين أوروبا وآسيا فكما لاحظنا ظاهرة ألنينو
الأصلية كانت تحدث حول المحيط الهادئ في حين أن ظاهرة ألنينو الهندي كانت مرتبطة
بالطبع بالمحيط الهندي. ومع ذلك ينبغي ألا نغفل أنه الشيء الذي كان يربط بين
القارة الأوروبية والقارة الآسيوية منذ فجر التاريخ هو التجارة عبر طريق الحرير في
الزمن الغابر وبواسطة السفن التجارية في نهاية العصور الوسطى. وهذا يقودنا للحديث عن
ظاهرة مناخية هامة تسمى (الرياح التجارية) التي كانت تساهم في حركة التجارة البحرية
من خلال دفع السفن الشراعية التي تحمل البضائع ما بين قارات العالم القديم. في المحيط
الهندي وبحر العرب ساعدت (الرياح الموسمية) قديما حركة السفن التجارية من جنوب
الهند إلى السواحل الشرقية لإفريقيا. في حين إن ما تسمى (الرياح الشرقية) التي تهب
عبر المحيط الأطلسي كانت تساعد في دفع السفن عبر الساحل الغربي لإفريقيا صعودا إلى
الأطراف الجنوبية الغربية للقارة الأوروبية.
لذا هل يصح التساؤل إن كان لهبوب وحركة
الرياح دور أكثر من تدفقات التيارات البحرية في ربط مناخ أوروبا الجاف بمناخ آسيا
الرطب. لو صح هذا الزعم المتفذلك مني فإنني أقترح أن تتم تسمية هذه الظاهرة
المناخية المتخيلة باسم (ريح العجوز) والتي هي باللغة اللاتينية: vetus ventus
فيتوس فينتوس. عندما اكتشفت ظاهرة (إل نينيو) كانت بالدرجة الأولى على سواحل
(العالم الجديد) أي قارة أمريكا اللاتينية وبحكم أن كل وليد هو جديد ومن هنا ظهرت
تسمية El
nino أي الطفل باللغة الإسبانية أو ظاهرة La nina
أي الطفلة باللغة الفرنسية. ونظرا لأن الظاهرة المناخية التي نشهد هديرها العاصف
هذا الصيف هي ظاهرة معقد جاد لذا لا يصح أن نفسرها أنها نتيجة لعمل ولعب الأطفال.
وبحكم إن القارة الأوروبية كما هو معلوم تسمى القارة العجوز ولأن الظاهرة المناخية
قد يكون سببها رياح السموم الحارة المرتبطة بتلك القارة لذا جاء الاقتراح بذلك
الاسم الكئيب (ريح العجوز) !!.
وفي نهاية المقال وبالعودة للحديث الجاد بعد
تلك المعابثة والفذلكة أود أن أؤكد أن ظواهر موجات الجفاف أو كوارث الفيضانات
بالرغم من تناقضها الظاهري إلا أنها قد تكون بالفعل مترابطة وهذا يقودنا للتذكير
بالحديث النبوي الشريف الذي يقول (ما من عام بأكثر مطرا من عام، ولكن الله يصرفه
بين خلقه). وهذا يدل على أن كمية الأمطار التي تهطل على سطح الأرض في كل عام ثابتة
بالجملة، ولكن كمياتها تختلف من منطقة إلى أخرى حسب مشيئة الله سبحانه وتعالى.
الجدير بالذكر أنه توجد قاعدة بيانات عالمية تسمى مشروع علم المناخ العالمي لهطول الأمطار
(GPCP)
يقوم بشكل شهري بنشر رصد كميات وتفاوت هطول الأمطار المسجلة من محطات رصد الأمطار
والأقمار الصناعية في جميع أنحاء العالم. وما يهمنا هنا أن البيانات والأرقام
المنشورة منذ عام 1979م حتى الآن تبين أن كلا من المتوسط اليومي لكميات هطول الأمطار
في جميع أنحاء الأرض (2.69 mm) وكذلك المتوسط السنوي للأمطار (990
mm) قيمها ثابتة تقريبا خلال سنوات الرصد الطويلة تلك.
العلم الحديث يثبت صدق مقولة الصادق المصدوق
- صلى الله عليه وسلم - في ثبات كمية هطول الأمطار في كل سنه وبقي أن نصدق مقولته
عليه الصلاة والسلام في حديث الخصال الخمس التي نهى عنها وكان مما حذر منه أن عدم
دفع الزكاة تكون عاقبته انقطاع المطر (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من
السماء). والمعاصي والذنوب لها شؤم وعواقب وخيمة دينية ودنيوية وفي تكملة ذلك
الحديث الشريف الصحيح (ولولا البهائم لم يمطروا). وفي حديث نبوي آخر يربط المطر بالذنوب
والفساد: وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك (أي قطر الأمطار) إلى غيرهم، فإذا
عصوا جميعاً صرف الله ذلك (أي المطر) إلى الفيافي والبحار. والمعاصي معروفة وغير بعيد
عنها الفساد والإفساد في الأرض والتخريب والتلويث للطبيعة وفي الحديث الشريف مرة أخرى
نجد أن الرسول الكريم يحذر صحابته وأمته بقوله: اتقوا اللعّانين قالوا: وما
اللعّانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم. وإذا كان التلوث
البصري يستوجب اللعن فكيف بمعصية التلوث والفساد البيئي الذي يصيب ضرره الشجر والبشر.
بعد أيام قلائل وبالتحديد في يوم الأربعاء
القادم تحل في السابع من شهر سبتمبر مناسبة اليوم الدولي لنقاوة الهواء وفي
الأسبوع الذي بعده وفي يوم 16 سبتمبر يحل اليوم الدولي لحفظ طبقة الأوزون وعليه
وفي ضوء ما شهدناه هذا الصيف من تقلبات مناخية صادمة يجب على الجميع التفكير بجدية
أكثر باحتمالية خطر كارثة الاحتباس الحراري والفساد الذي أنتجته الثقافة
الاستهلاكية واستنزاف الموارد الطبيعية والتوسع في الأنشطة الصناعية الملوثة
للبيئة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق