د/ أحمد بن حامد الغامدي
الحَيَاء ليس فقط فضيلة راقية ولكنه أيضا رأس مكارم الأخلاق ولهذا ورد في الحديث الشرف أن الحياء لا يأتي إلا بخير ومع ذلك قد توجد حالات ومواضع لا يستحب فيها الحياء منها المقولة المشهورة (لا ينال العلم مُستحي ولا مُستكبر). إن من يستحي ويخجل عن طرح السؤال لن يتمكن من التعلم واكتساب المعرفة الكاملة ولهذا يقال في الحكم الشائعة (لا حياء في العلم). وعلى نفس النسق تقريبا تعتبر فضيلة وخلق المسالمة والسلام واللين من الخلق الرفيع المحمود لدرجة أنه ورد في الحديث النبوي الصحيح الذي رواه الإمام مسلم (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانهُ ولا ينزع من شيء إلا شانهُ). ومع ذلك هذه أحكام وأخلاق شريعة مطلقة قد يتم تقييدها في بعض المواقف والمواضع فكما هو معلوم حال القتال وجهاد الأعداء وتنفيذ الحدود ليس المقام هنا مقام الرفق والمسالمة.
وما أود الوصول له أنه كما لا حياء في العلم
ففي بعض الحالات (لا سلام في العلم) وهذا ما جال في بالي هذا الأسبوع وذلك بمناسبة
حلول (الأسبوع الدولي للعلم والسلام) والذي أقرته الجمعية العامة لأمم المتحدة بأن
يعقد بشكل دوري في كل سنه خلال الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر. الدول في العالم
الغربي مدججة بالسلاح حتى أسنانها ولديها ترسانة جهنمية من أسلحة الدمار الشامل وقد
جربتها كلها وتأكدت من فعاليتها وفعالية الأسلحة الجديدة التي قد تطورها وهي ومن موقع
الأمان والتحصن والتترس بالسلاح تطالب الآخرين بمكر وخداع أن يقصروا استخدام العلم
فقط في (الجوانب السلمية).
قد أكون فهمت رسالة (الأسبوع الدولي للعلم
والسلم) بشكل خاطئ ومع أني أتفق تماما مع توجه أن تكرس العلوم لما فيه خير البشرية
والمحافظة على البيئة وتوفير الغذاء والدواء والأمن للشعوب الإنسانية. ولكن في
المقابل أنا لا أقبل أن يتم تثبيط وتخدير شعوب وحكومات العالم الثالث من امتلاك القوة
العسكرية والأسلحة القتالية تحت شعارات براقة وزائفة من مثل معاهدة (الحد) من
انتشار الأسلحة النووية أو اتفاقية (حظر) الأسلحة الكيميائية أو تحديد مناطق
بعينها – مثل منطقة الشرق الأوسط - بأن تصبح (خالية) من أسلحة الدمار الشامل بينما
الدول ذات النفوذ غير ملزمة بهذا (الحد) أو (الحظر) أو (الخلو/التخلي).
ينبغي على العلماء وأهل الاختراع والتقنية
والعلوم الهندسية في الدول العربية والإسلامية المثابرة أولا في رفع رصيد شعوبهم
من القاعدة الذهبية (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ثم بعد تحقيق الحد الكافي لردع
ودحض وإرهاب وتخويف العدو ننتقل إلى مرحلة الرفاهية والترف بأن نخصص أغلب وجلّ جهودنا
العلمية والبحثية لتكون في خدمة (السلام). في مرحلة ما عندما كانت بعض الدول
الغربية في حالة قلق من خطورة تفرد عدوهم الجيش الألماني النازي بالقوة العسكرية المطلقة
أي القنابل الذرية لم يكن من الحكمة تسخير (العلم من أجل السلم) وإنما تم حشد المئات
من كبار مشاهير العلماء من كل الدول لتصنيع القنبلة الذرية. في عام 1939م أرسل
عالم الفيزياء أينشتاين رسالة مشهورة إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ينبه
فيها إلى ألمانيا النازية بصدد تصنيع قنبلة فائقة القوة ولهذا حث أينشتاين الرئيس
الأمريكي أن تطور الولايات المتحدة هذه القنبلة الذرية قبل أن يسبقها هتلر لامتلاك
ذلك السلاح الخطير. وبعد تدخل رئيس الوزراء البريطاني تشرشل تضافرت جهود دول
الحلفاء لتنفيذ (مشروع مانهاتن) لتصنيع القنبلة الذرية الذي وعلى خلاف الشائع لم
يشارك فيه أينشتاين بشكل فعلي (لأسباب أمنية لم يكونوا يثقون تماما به ولهذا لم
يمنح تصريحا بالدخول إلى المناطق العسكرية التي بها المختبرات). ومع ذلك لقد شارك
بالفعل حوالي أربعة آلاف عالم ومخترع من مختلف الجنسيات والتخصصات العلمية المئات
منهم من أبرز العلماء لدرجة أنه كان منهم حوالي 20 عالما ممن حصلوا على جوائز نوبل
(بعضهم كانوا بعد في مرحلة الشباب وسوف يحصلون على جائزة لاحقا).
الجميع يعلم أن القنبلة الذرية من أسوء وأشنع
الاختراعات البشرية على مدار التاريخ وربما لا يقاربها شناعة إلا اختراع الأسلحة
الكيميائية مثل الغازات السامة وهنا مرة أخرى نجد عددا من كبار وأبرز العلماء يشارك
في المجهود الحربي لتصنيع ذلك السلاح الرهيب. المجهود العلمي لتصنيع غاز الكلور
السام أقل بكثير من تصنيع القنبلة الذرية ومع ذلك نجد ثلاثة من علماء الكيمياء
الألمان الحاصلين على جائزة نوبل يشتركون مع العشرات من العلماء والفنيين لضمان
تفوق الأمة الألمانية ضد أعدائها في الحرب العالمية الأولى. كما يوصف عالم
الفيزياء الأمريكي روبرت أوبنهايمر بأنه أبو القنبلة الذرية فإن عالم الكيمياء
الألماني فرتز هابر الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1918م يوصف بأنه أبو الأسلحة
الكيميائية وعلى خلاف أوبنهايمر الذي حرص على تجميع أكبر عدد ممكن من مشاهير علماء
الفيزياء في فريق عمله نجد أن هابر يخشى منافسة علماء الكيمياء البارزين له. ولهذا
عندما تم تعيين هابر كمدير لدائرة الكيمياء في الجيش الألماني رفض أن يشترك معهم
عملاق الكيمياء العضوية العالم الألماني أدولف باير (الحاصل على جائزة نوبل لعام
1905م) والخبير في الصناعات الكيميائية وذلك حتى يحتكر هابر النفوذ السياسي
والمالي لنفسه فقط. وهذا يعني أنه حوالي أربعة من علماء الكيمياء الألمان ممن
حصلوا على جائزة نوبل كان لهم ارتباط بتطوير وتصنيع الأسلحة الكيميائية المريعة. والقصة
لا تتوقف هنا فعلى الجانب الآخر من ساحة المعركة نجد لعالم الكيمياء الأمريكي روبرت
موليكين الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1966م ارتباط بتطوير الأسلحة
الكيميائية حيث إن موليكين كان أول موضوع عمل به بعد تخرجه من جامعة MIT
عام 1917م هو القيام بدراسات كيميائية عن الغازات السامة. وفي نفس السياق نجد أن
الكيميائي الفرنسي فيكتور جرينارد الذي نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1912م
سيشارك بعد ذلك بسنوات وأثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى في إنتاج أبحاث علمية
عن تصنيع الغازات السامة مثل غاز الخردل وغاز الفوسيجن.
ما أريد الوصول له من حشد وسرد الأمثلة
السابقة أنه في فترة ما من تاريخ تطور العلم نجد كبار ومشاهير العلماء من كل
الجنسيات ومن جميع التخصصات العلمية يتسابقون لتقديم واجب (خدمة المجهود الحربي)
وكأنهم يستشعرون أنه بل الفعل في بعض الظروف (لا شيء يعلو فوق صوت المعركة) أو
بعبارة أخرى: لا سلام في العلم. ولولا مخافة الإطالة لسردنا كذلك بعض تفاصيل
مساهمة مشاهير العلماء في المجهود الحربي، ولكن ليس في مجال تصنيع الأسلحة، ولكن
في التصدي لها. فمثلا في مجال تطوير وصناعة أجهزة الرادار للكشف عن الطائرات ساهم
في اختراعها ما لا يقل عن سبعة من العلماء الحاصلين على جائزة نوبل من أشهرهم عالم
الفيزياء وليم شاوكلي مخترع الترانزستور وعالم الفيزياء تشارلز تاونز مخترع جهاز
الليزر. وقريب من ذلك اشتراك كوكبة من رموز العلم في المجهود العسكري لاختراع أجهزة
السونار للكشف عن الغواصات وقد كان منهم رواد العلوم (أربعة منهم حصلوا على جائزة
نوبل) من مثل عالم الفيزياء البريطاني أرنست رذرفورد وزميلة بجامعة كامبريدج السير
لورنس براغ الحاصل على جائزة نوبل في عز الحرب العالمية الأولى أي عام 1915 ميلادي.
العلماء والمجهود الحربي .. إقدام أم إحجام
البعض منا قد (يتفهم) لماذا ينخرط أو حتى قل
يتورط بعض العلماء للمشاركة في تطوير وإنتاج الأسلحة الفتاكة ومع ذلك العديد من
الأشخاص العاديين ومن العلماء والمخترعين أنفسهم لا (يتقبلون) مساهمة العلماء في
تصنيع أسلحة الدمار الشامل وبالخصوص تلك الأنواع الشنيعة وسيئة السمعة مثل القنابل
الذرية والغازات السامة والأسلحة الجرثومية والأسلحة الإشعاعية. وفي هذا الإطار
ندرك لماذا أشتهر عن (بعض) العلماء الذين شاركوا في تصنيع القنبلة الذرية مسارعتهم
للتبرّي منها كما هو الموقف المشهور لأينشتاين الذي تزعم الأسطورة أنه بعد أن عرف
بهول الدمار الذي تخلفه القنبلة النووية تمنى أنه كان يعمل صانع أحذية. العالم
البريطاني الخجول والصامت جيمس تشادويك مكتشف النيوترون بعد مشاركته في مشروع
مانهاتن يذكر عن نفسه أنه بعد الحرب وإلقاء القنبلة المشؤومة على رؤوس الأبرياء أصبح
يعتمد طوال حياته الباقية على استخدام الحبوب المنومة للحصول على الراحة النفسية
في النوم. وهذا عالم الفيزياء الأمريكي ريتشارد فاينمان الحاصل على جائزة نوبل عام
1965م والذي يعد أحد أبرز علماء الفيزياء على الإطلاق في النصف الثاني من القرن
العشرين وأكثرهم تأثيرا في جذب أجيال من آلاف الشباب لدراسة العلم إلا أنه يصف
نفسه بأنه بعد إلقاء القنابل الذرية على المدن اليابانية ظل لعدة سنوات بعد الحرب
وهو فاقد الإحساس بالمتعة في تعليم الفيزياء.
أما العالم الألماني الأصل هانس بيتا الحاصل
على نوبل في الفيزياء عام 1967 وبعد المشاركة الفعالة في تصنيع قنبلة اليورانيوم
الذرية نجده يعارض بشدة إنتاج القنبلة الهيدروجينية. قصة تصنيع القنبلة الذرية
بدأت بخطاب أينشتاين المشهور أما قصة النضال من قبل كوكبة من العلماء لحظر تطوير
وتصنيع مزيد من القنابل النووية فتبدأ مع الفيزيائي الدنماركي المعروف نيلز بور
(صاحب النموذج الشهير لتركيب الذرة والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1922م)
والذي كان منذ البداية من فئة العلماء الذين عارضوا الإسقاط الحقيقي للقنبلة
الذرية على المدن حيث كانت رغبتهم فقط استخدامهم للردع والتخويف. وكاستمرار لنهجه
وأفكاره السلمية قام نيلز بور عام 1950م بكتابة خطاب مفتوح شهير موجه للأمم
المتحدة يدعو فيه لنشر أفكار السلام والتخفيف من أخطار السلاح الذري كما أنه قام
بتنظيم أول مؤتمر من مؤتمرات الذرات من أجل السلام.
وكما تبرأ وتنصّل نفر من العلماء (لاحقا) عن
دورهم في تطوير القنبلة الذرية نجد عددا قليلا من علماء الكيمياء ينفرون (ابتداءً)
من المشاركة في تطوير أسلحة الغازات السامة وإن كان سبق وأن ذكرنا أن ثلاثة من
علماء الكيمياء الألمان الحاصلون على جائزة نوبل شاركوا في تصنيع هذا السلاح
المريع بينما رُفض طلب رابع للمشاركة نجد أن عالما خامسا من علماء نوبل هو الذي
يمتنع عن المشاركة. بدأ مشروع تطوير الغازات السامة في ألمانيا في عام 1915م وبحكم
الكيميائي الألماني ريتشار فيلشتيتر حصل على جائزة نوبل
في تلك السنة فقد تقدم إليه زميله الكيميائي الألماني الذي سبق ذكره فرتز
هابر وطلب منه أن ينظم إليه في مشروع إنتاج
الغازات السامة إلا أن فيلشتيتر وافق على
شرط أن يكون عمله مقتصرا فقط على تطوير أقنعة واقية من الغازات السامة. أما رائد عالم
الكيمياء الألماني إميل فيشر وهو ثاني شخص في التاريخ يحصل على جائزة نوبل في
الكيمياء فقد اعترف أنه وبكل إخلاص وطني كان يتمنى أن تفشل محاولات هابر في إنتاج
سلاح الغازات السامة لأنه كان يخشى ردة فعل القوات الإنجليزية والفرنسية على جنود
بلاده إذا تم قصفهم بهذا السلاح الرهيب. بقي أن نقول إن عالمة الكيمياء الألمانية
السيدة كلارا إميرفار والتي كانت من أوائل النساء اللاتي حصلن على درجة الدكتوراة
في علم الكيمياء وكانت كذلك زوجة فرتز هابر ونظرا لمعارضتها إسهام زوجها في تصنيع سلاح
الغازات السامة قامت بالانتحار في عام 1915ميلادي. ومع ذلك لم يؤثر ذلك في تفاني زوجها
هابر في المجهود الحربي لدرجة أنه في صباح اليوم التالي للانتحار زوجته سافر إلى
جبهة القتال الشرقية لتنظيم هجوم بالغازات السامة ضد الجيش الروسي.
من هذا وذلك نعلم أن العلاقة بين العلم والسلم قد تكون شائكة وتتعرض للمد والجزر فطورا نهلّل ونُثني على دور العلماء وإسهامهم في خدمة شعوبهم من خلال تأمين السلاح وأدوات الأمن لتلك الشعوب والمجتمعات. وطورا قد لا نعترض كثيرا على اعتراض وتشنيع البعض ضد جحافل العلماء الذين انخرطوا في تطوير وتصنيع أنواع شنيعة ومريعة من الأسلحة الفتاكة. ومع هذا تبقى حقيقة أن أمتنا العربية والإسلامية اليوم في حالة الاستضعاف ومرحلة التيه ولذا نرحب بأي مجهود يساهم في تعزيز مكانتها ولو بتصنيع أبسط سلاح حتى ولو كان مجرد (خشم البندق). وبالمناسبة أمتنا ولادة ولا نحتاج لعلماء الصف الأول وأهل الاختراع من الطراز الرفيع فهذا المهندس الفلسطيني يحي عياش أثار الذعر لسنوات في الكيان الإسرائيلي الغاشم بتصنيع قنابل بدائية من شخص لا يملك إلا شهادة جامعية في الهندسة الكهربائية. ومن الهندسة الكيميائية إلى الهندسة الميكانيكية التي وفرت الخبرة العلمية للمهندس التونسي محمد الزواري الذي طور طائرات بدون طيار والتي بالفعل كان لها من اسمها نصيب فقد كانت كمثل الطير الأبابيل على رؤوس جنود العدو الصهيوني. وإن كان الغالبية العظمى قد سمعت في الفترة الأخيرة بطائرات الدرون القتالية التركية (الطائرة المُسيرة بيرقدار TB2) فلعل من المناسب الإشارة أن تسميتها هي نسبة إلى مخترعها الشاب التركي سلجوق بيرقدار الحاصل على شهادة جامعية في مجال الهندسة الكهربائية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق