الأحد، 4 ديسمبر 2022

( كم من فئةٍ قليلة غلبتْ فئةً كثيرة بإذن الله )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في الكتاب الضخم ذائع الصيت (قصة الحضارة) للمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت نجد أن المجلد الثامن حمل اسم (عصر لويس الرابع عشر) بينما المجلد الحادي عشر حمل عنوان (عصر نابليون) وهذا يعكس الثقل السياسي والعسكري لأمة الفرنسية التي سيطرت على التاريخ الحديث من نهاية القرن السابع عشر وحتى بداية القرن العشرين عندما انتصرت فرنسا مع بريطانيا في الحرب العلمية الأولى. ومع كل هذه السيطرة والحضور السياسي والحربي لفرنسا إلا أنه وفي مطلع الحرب العالمية الثانية انهارت أسطورة التفوق الفرنسي بشكل سريع ومريع بالرغم من دعم قوات الحلفاء لها. في يوم الخامس من شهر يونيو من عام 1940م دخلت القوات الألمانية النازية الحدود الفرنسية وبعد تسعة أيام فقط تم احتلال العاصمة باريس ثم خلال الأربعة الأيام التالية أي في يوم 18 يونيو انهارت تماما الحكومة الفرنسية والمقاومة العسكرية.

قارن هذا الأمر بالصمود والبسالة التي أظهرتها القوات العسكرية والقيادة السياسية الأوكرانية في مقاومة الغزو الغاشم للجيوش الروسية الكاسحة منذ 24 فبراير وحتى اليوم ونحن نقترب من نهاية الشهر الثامن من هذه الحرب العبثية. حرب المقاومة الأوكرانية بالجملة تعتبر تمثيلا للحروب غير المتكافئة والتي تنشب بين طرف أو (فئة) قليلة العدد وأحيانا ضعيفة العتاد ومع ذلك تستطيع وبشكل عجيب وبطولي الانتصار على طرف أو (فئة) غفيرة العدد وكثيفة العتاد وذات قوة ضاربة ومع ذلك تهزم بشكل مهين ومفاجئ.

أعلم أن حدة القتال العسكري الدامي بين روسيا الإتحادية وبين أوكرانيا ما زالت في ذروتها ولم تضع الحرب بعد أوزارها وقد تحصل تغيرات في المدى المنظور، ولكن والعلم عند الله أن المشهد العالم لن يتغير بشكل جذري بمعنى أن تنتهي الأحداث بزوال تام للقوات الأوكرانية. وعليه سوف ننتقل من عالم الفنون العسكرية ومجال التحليل الحربي الذي لا أفقه فيه شيئا إلى مجال أكثر رحابة وأكثر متعة وتسلية وهو مجال التاريخ لمحاولة سبر ورصد قصص التاريخ وأحاديثه عن الوقائع التي انتصر فيها جيش مقزم على جيش عرمرم.

في تراثنا الإسلامي العظيم جميعنا ندرك مفهوم أن (النصر من عند الله) وأن الله قد كتب وقضى الغلبة والتمكين لرسله ولأتباع دينه وأنهم إذا أخذوا بأسباب النصر فلهم الظفر المؤزر حتى مع قلة عددهم وضعف سلاحهم. وهذا ما تكرر في التاريخ الإسلامي بشكل يعرفه الجميع كما في غزوة بدر ومعارك اليرموك والقادسية ونهاوند وعين جالوت وحطين وملاذ كرد وغيرها كثير وأغلب هذه المعارك نسبة عدد جنود جيش المسلمين إلى أعدائهم نسبة الخمس أو السدس.

في الواقع الآية الكريمة التي استعرناها كعنوان لهذا المقال (كم من فئةٍ قليلة غلبتْ فئةً كثيرة بإذن الله) ورد ذكرها كما هو معلوم في آخر سورة البقرة وذلك في خبر بني إسرائيل عندما خرجوا بقيادة ملكهم طالوت لقتال العمالقة من أهل كنعان بقيادة جالوت. ولأن بني إسرائيل هم أهل الحق والتوحيد في ذلك الزمن فقد نصرهم الله نصرا عجيبا عندما ثبتت القلة القليلة منهم وهم مئات فقط أمام جيش عدوهم الطاغي وختم الأمر بالتمكين المبين (وقتل داود جالوت).

وفي الواقع يمكن أن نجد في أخبار التوراة أمثلة أخرى عن انتصار القلة المستضعفة على جنود العدو الكاسح ففي سفر القضاة وهو السفر السابع من كتاب التوراة نجد تفاصيل ما تسمى (معركة جبل طابور) التي وقعت بالقرب من مدينة الناصرة وهي ربما أقدم معركة حصلت بين بني إسرائيل وأهل فلسطين وذلك في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد. منذ البداية كانت كفة الجاهزية الحربية تميل بشدة لصالح الكنعانيين ليس فقط لأن عددهم أضعاف عدد بني إسرائيل، ولكن لحيازة الجيش الكنعاني سلاح فائق التطور في ذلك الزمن إلا وهو (عربة القتال). في العصور القديمة كان العربة الحديدية Chariot هي بمثابة دبابة الأبرامز الأمريكية المنيعة في وقتنا الحاضر وقد كان جيش الكنعانيين يمتلك حوالي 900 عربة قتالية تكفي لإبادة إي جيش تقليدي. وبعد فترة من الزمن في حصار اليهود في قمة جبل طابور اتخذ قائد الجيش الكنعاني المدعو سيسرا خطأ عسكري غريب عندما قاده غروره لشن الهجوم في توقيت خاطئ وذلك بعدما هطل مطر شديد على أرض المعركة وبالتالي لم تعد العربات الحربية الثقيلة تستطيع الحركة بعد أن علقت في الطين. وفي التراث اليهودي هذه المعركة كانت نصر من الله بل ورد في التوراة في سفر القضاة (من السماوات حاربوا، الكواكب من حُبكها حاربت سيسرا). هل ما حدث فتح من الله أن نصر تقليدي، الله أعلم بما حدث وما لنا إلا التوقف والامتثال بما ورد في الحديث الشريف (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم).

 هل يُهزم 300 مقاتل من قلة ؟!!

يقول أهل التفسير أن أداة (كم) في الآية الكريمة (كم من فئةٍ قليلة غلبتْ فئةً كثيرة) هي كم الخبرية التي تفيد التكثير بمعنى أن هذا الحدث يقع كثيرا ويتكرر دائما وذلك لأن أسباب النصر والهزيمة متعددة ومتنوعة. وعليه نجد في القديم والحديث (الكم) الغفير من هذه الأحداث الفريدة التي تقع جميعها (بإذن الله) والبعض منها هو نصر حقيقي من الله للفئة المؤمنة ولهذا في تكملة الآية (والله مع الصابرين) بينما في البعض الآخر قد يكون الأمر مجرد انتصار أهل الباطل على أقوام آخرين لا يقلون عنهم ظلما وضلالا.

في مطلع عام 1941م كان الجيش النازي الألماني يجهز لوضع خطة معقدة لغزو يوغوسلافيا واقتحام العاصمة بلغراد مع توقع حصول قتلى بالآلاف في صفوف جنوده. لكن الغريب أن ضابط ألماني شاب ومغامر قرر أن يخالف الأوامر ويتسلل خفيه مع خمسة جنود فقط إلى بلغراد واستطاعوا عن طريق الخداع أن يوهموا عمدة المدينة أنهم طليعة كتبة ضخمة تتغلل في المدينة وهنا قامت الحامية اليوغسلافية بتسليم المدينة لهؤلاء الجنود الستة المغامرين والمخادعين في قصة هي أغرب من الخيال.

وعلى ذكر (الحقيقة والخيال) لعل من الملائم استدعاء الأسطورة (السينمائية) التي روج لها فلم أمريكي شهير يحمل اسم (300) ويزعم فيه أن ثلاثمائة جندي يوناني من إسبرطة استطاعوا إعاقة تقدم جيش فارسي هائل يزيد عدد جنوده عن الثلاثمائة ألف مقاتل. في حين إن الحقيقة التاريخية تشير أنه في عام 480 قبل الميلاد حصلت معركة ترومبيل على الساحل الشرقي لأرض اليونان وبالفعل تصدى عدد (قليل) من الجنود بزعامة القائد الإسبارطي ليونيداس لمسيرة تدفق جيش الإمبراطورية الفارسية وذلك في موقع الممر الضيق المسمى ترومبيل. لكن الرقم الهوليودي الزائف عن 300 مقاتل فقط يقفز في كتب التاريخ شبه الموثوقة مثل ذاك الذي ألفه أبو التاريخ هيرودوت، يقفز رقم الـ 300 إلى سبعة آلاف جندي يوناني مقابل ما لا يقل عن سبعين ألف جندي فارسي (هيرودوت أبو الأكاذيب يقول إنهم ربع مليون).

لا شك في أن للرقم (300) جاذبيته في صفحات تاريخ المعارك الحربية ففي عام 1694م حصلت في أسيا موقعة حربية تسمى (معركة هودو Hodow) نشبت بين جنود دولة التتار التي كانت توجد في شبه جزيرة القرم وبين كتيبة من الجيش البولندي. المؤرخ البولندي المعاصر ميروسواف يقدر أعداد القوات البولندية المدافعة عن قرية هودو بحولي 300 مقاتل بانسيرني مدرع مع 100 فارس هوسار محترف في حين أن أعداد القوات التتار الغازية كانت لا تقل عن 40000 محارب. ومع ذلك استطاعت تلك القلة البولندية في صد الهجوم على القرية ورد خصومهم على أعقابهم.

الاشتباك في معركة حربية حامية الوطيس وأنت في حماية وحضور جنود وفرسان النخبة أمر يعزز الروح المعنوية المؤهلة للنصر فالعبرة بالجودة وإن كان العدد قليلا وليس بكثرة المقاتلين الضعفاء والجبناء. يقال إنه في معركة صفين التي دارت بين الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين لم يكن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه راضي بالكفاءة القتالية لجنوده من أهل الكوفة.  ولهذا تذكر كتب التاريخ والأدب أن علي بن أبي طالب قال لأهل الكوفة (وددت والله أن لي بجميعكم وأنتم مائة ألف، ثلاثمائة من بنى فراس بن غنم، صرف الدينار بالدرهم). والمعنى أن أبا ألحسن كان يتمنى أنه عوضا من أن يكون له جيش جرار من مائة ألف مقاتل من أهل الكوفة أن يستبدلهم بثلاثمائة مقاتل فقط، ولكن من فرسان قبيلة كنانة المغاوير من سلالة فراس بن غنم. بقي أن نعلم أن فرسان بنو فراس بن غنم الكناني كانوا من أشجع فرسان العرب في الجاهلية وكان الرجل منهم يعدل عشرة من غيرهم وأكثر وخير من عرف حقيقة هذه الأمر (إن صحت القصة) قوم بؤساء من بني قومي. في زمن الجاهلية غزا جمع من قبيلة غامد على مضارب بني فراس بن غنم من قبيلة كنانه فقالوا حين شارفوا الحي: كم ترون يلقانا ونحن مئتا رجل؟ فلقيهم فارس واحد فقط وهو ربيعة بن مكدك الكناني فهزمهم.

ما سبق كانت أمثلة محدودة لظاهرة (نصر الأقلية) والطائفة المستضعفة والأمثلة في صفحات التاريخ وافرة وعجيبة وتشمل جميع المعارك البرية والبحرية والجوية وفي جميع العصور ولمختلف الأديان والشعوب. ربما كتيبة (300 مقاتل) لا تهزم من قلة لكنها من المستحيل أن تسقط امبراطورية، ولكن ماذا عن ضعف ذلك العدد. ولهذا سوف نتخم بذكر معركة غريبة وفريدة تسببت في انهيار إمبراطورية كبرى وهذا ما حصل في عام 1519م عندما نزل المغامر الإسباني كورتيز بيزارو على الساحل الشرقي للمكسيك برفقة 630 جندي وبعض الخيول وستة مدافع. وعن طريق الخداع ومحاولة حشد الحلفاء من أعداء امبراطورية الأزتيك تمكن بيزارو من السيطرة على العاصمة المكسيكية وأسر الإمبراطور مونتيزوما ونهب كل ثروات وذهب المدينة التي كان يدافع عنها أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل.

ألم أقل إن التاريخ غريب وشيق وماتع أكثر من علوم الفنون العسكرية ومجال التحليل الحربي.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق