الأحد، 4 ديسمبر 2022

( مرض هشاشة الاقتصاد )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 حتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن من المستغرب على عامة الناس في الدول الأوروبية أن يودع أحدهم ما يسمى سجن المدينين debtors prison بسبب وقوع الشخص في حالة الإفلاس وهذه الحالة شائعة في روايات الأدب الإنجليزي وبحكم أن والد الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز كان ممن رمي به في هذا السجن لذا لا غرابة أن معاناة هؤلاء المفاليس شائعة في روايات ديكنز. يقال إنه في تلك الفترة ربما تم سجن عشرة آلاف شخص كل سنة في بريطانيا بسبب الإفلاس وهذا في الغالب للأشخاص الفقراء أساسا أما كبار التجار فحالة الإفلاس المالي في حالتهم لا تحدث في الغالب إلا بعد حصول (كارثة) خارجة عن السيطرة مثل احتراق مصانعهم أو غرق السفن التجارية التي تحمل بضائعهم. في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير نجد أن التاجر الطيب والشهم أنطونيو يخسر كل ماله ويصبح مديونا لليهودي الجشع شايلوك وذلك عندما تعرضت كل سفن أنطونيو للغرق في البحر بعد عاصفة هوجاء. ولنتخيل الآن أن التاجر المفلس أنطونيو اجتمع في سجن المديين بأحد رجال الأعمال المفلسين من العصر الحالي وليكن الملياردير الشاب الأمريكي سام بنكمان فرايد وكعادة المساجين نتوقع أن يحدث بينهما حوار وسؤال عن أسباب دخول السجن. وهنا نجد تاجر البندقية يرد بكل حزن بأنه كان رجلا ثريا لكنه أفلس (فجأة) عندما غرق أسطول السفن التي تحمل بضائعه. وهنا نتوقع أن الشاب المغامر سام فرايد سوف يشعر بالحرج في كيفية أن يفسر لذلك التاجر القادم من (زمن تجارة الطيبين) أنه خسر كامل ثروته ليس لأنها غرقت أو احترقت أو انخسفت أو صودرت، ولكن لأنها وفجأة وبكل بساطة (تبخرت) ولم يبق لها أثر. في زمن (هشاشة الاقتصاد) المبني على التضخم والمعاملات المالية شبه الوهمية مثل المضاربة في بورصة العملات الرقمية يحصل أن يخسر خلال أيام الشاب سام فرايد كامل ثورته التي تبلغ 16 مليار دولار بعد أن كانت في الأصل قبل عدة أشهر تلامس سقف 26 مليار دولار.

نحن ما زلنا في عالم الخيال وفي سجن المدينين ولنفترض أن الرئيس التنفيذي لشركة الأدوية إيلي ليلي Eli Lilly السيد ديفيد ريكس كان يسترق السمع للحديث بين تاجر البندقية أنطونيو والملياردير المفلس سام فرايد. وإذا بالرئيس التنفيذي الأنيق يدخل على خط المحادثة ويوجه العتاب الممزوج بالتعجب ويخاطب الشاب المفلس بما معناه أنه إذا كنت أنت شاب مغامر واستثمرت وتربّحت مليارات الدولارات في مجال اقتصادي (وهمي) وهش مثل عملة البتكوين وغيرها من العملات الرقيمة التي خسرت في عام واحد فقط مبلغ2.5  تريليون دولار فنحن في قطاع الصناعات الصيدلانية كنا نتوقع أن عظمنا ناشف وعودنا صلب. وإذا بنسمة هواء صادرة من زقزقة تغريدة تويتر مزيفة تتسبب في لحظات بانهيار مريع للشركة. لا شيء أدل من أن الاقتصاد الحالي هش وفي مهب الريح من حادثة قيام شخص مجهول بأنفاق مجرد ثماني دولارات لتوثيق حساب وهمي في تويتر منتحلا بذلك اسم شركة الأدوية العملاقة وينشر تغريدة يزعم فيها أن عقار الأنسولين سوف يصبح مجانا فتخسر الشركة مقابل تلك الدولارات الثمانية حوالي 14 مليار دولار في لحظات قليلة.

حالات الخلل الجذرية والحادة في المعاملات الاقتصادية المعاصرة يمكن تشبيهها بضعف هشاشة العظام أو يمكن تشبيهها من جانب آخر بما يعرف في علم النفس بمشكلة (التقلقل العاطفي) أو عدم الثبات الانفعالي. ظاهرة التقلقل العاطفي معروفة عند الأطفال الصغار والذي تجده بعد أن يضحك ويبتهج وإذا به فجأة يبكي ويحزن وهذا السلوك الطفولي نشاهده بوضوح في بعض مظاهر الاقتصاد العالمي في الفترة الأخيرة وبالذات في أسواق البورصات العالمية. ليس من المستغرب أن تجد أسهم شركات كبرى ترتفع قيمتها بشكل جنوني أو تهبط بشكل غريب أما أن يحدث نفس الحدث (الارتفاع الحاد ثم الانهيار الهاد) في فترة متقاربة فهذا دلالة على حصول تقلقل عاطفي للاقتصاد الرأسمالي. في دنيا المال والأعمال يقال إنه في المتوسط يستطيع التاجر الصغير تحقيق المليون الأول من ثروته خلال 15 سنة، ولكن المشكلة أنه لتجميع (البليون الأول) ربما يحتاج إلى ضعف تلك المدة. وهنا تظهر المفارقة أن تحقيق (التريليون) الأول في ثروة أي رجل أعمال عمل صعب جدا وقد يحتاج زمن بالغ الطول من الدم والعرق والدموع.

في عالم الاقتصادي الهلامي والمتضخم الذي نعيشه اليوم ليس من المستغرب على شركة أمازون أن تحتاج في بداياتها لمدة خمس سنوات لكي تحقق ربح أول مليار دولار بينما حاليا تستطيع تلك الشركة تحقيق نفس ذلك المبلغ الملياري خلال يومين فقط. ولكن بحكم أن ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة كما يقال أول بسبب عدم الثبات الانفعالي (التقلقل العاطفي) في سوق الأسهم نجد أن مالك شركة أمازون السيد جيف بيزوس يصبح مثل الأطفال عندما يضحك ويبكي في نفس الوقت فهو قد يربح في أسبوع عشرة مليار دولار وقد يخسرها في الأسبوع التالي. في عز جائحة كورونا ومع التباطؤ العالمي لعجلة الاقتصاد الدولي وصلت فجأة شركة أمازون لنادي الشركات الكبرى التي تبلغ قيمتها السوقية مبلغ التريليون دولار. ثم في هذا الأسبوع العجيب الذي نحن فيه اليوم يتم الإعلان أن شركة أمازون هي أول شركة في التاريخ تخسر مبلغ تريليون دولار من قيمتها السوقية وكأن ما تأتي به الرياح تأخذه الزوابع في دلالة صارخة وواضحة لحالة الهشاشة الاقتصادية حيث خسرت هذه الشركة خلال ثلاثة أشهر فقط ذلك المبلغ الفلكي الهائل. ومن الأمثلة الإضافية للهشاشة العاطفية للاقتصاد وتذبذبه المفاجئ والسريع بين الضحك والبكاء أي الربح الفائق والخسران الماحق أنه قبل أشهر قليلة كان أغنى رجل في العالم وهو الثري المتعجرف إيلون ماسك يضحك ملء شدقيه بعد شرائه لموقع (تويتر) بمبلغ 44 مليار دولار وإذا به في هذا الأسبوع العجيب يصرح فجأة وربما بعد أن مسح دموعه بأن شركة موقع تويتر قد تعلن إفلاسها.

 تشخيص مرض هشاشة الاقتصاد

صحيح إن الأسبوع الحالي شهد توالي وتتابع أخبار غريبة ومفجعة عن الكوارث الاقتصادية التي تعرضت لها بعض الشركات الكبرى ومشاهير رجال المال والأعمال لكن في الواقع ما يحدث بكثافة هذا الأسبوع هو امتداد لم يحصل للاقتصاد العالمي من تقهقر وتراجع منذ جائحة الكورونا. يكفي أن نشير أنه خلال هذا العام فقط خسر كل ملياردير موجود في قائمة (أغنى 10 رجال أعمال في العالم) مبالغ طائلة ومهولة حيث كان أكثرهم خسارة هو برنار أرنو الذي فقد 42 مليار دولار وأقلهم مصيبة كان وارين بافيت الذي خسر فقط 9 مليار دولار من ثروته في حين كان مجموع ما خسره هؤلاء الأثرياء العشرة خلال العام المنصرم مبلغ 210 مليار دولار. وعلى نفس النسق نجد أن كبرى الشركات العالمية خصوصا تلك التي تعمل في مجال التقنية خسرت هذا العالم أكثر من 3 تريليون دولار كان أسوئهم شركة قوقل وشركة مايكروسوفت التي خسرت كل واحد منهما حوالي 700 مليار دور في حين خسرت شركة فيسبوك 588 حوالي مليار وشركة أمازون أكثر 540 مليار بينما بالمقارنة نجت شركة أبل بخسارة زهيدة تبلغ فقط 35 مليار دولار !!.

أما ظاهرة النمو الأغرب في تاريخ المال والأعمال فهي قصة صعود رجال الأعمال إيلون ماسك على عرش لقب (أغنى رجل في العالم) وذلك أنه في مطلع عام 2020م كانت ثروته الشخصية متواضعة نسبيا فهي بالكاد في حدود 25 مليار دولار. وفي هذا التوقيت وعندما كان أغلب سكان كوكب الأرض محبوسين في بيوتهم بسبب منع التجول المرتبط بوباء كورونا وعندما نقص بشكل ملموس تلوث الهواء بسبب عدم تحرك مئات الملايين من السيارات وإذا بنا فجأة نسمع عن شركة تيسلا للسيارات. من الناحية المنطقية لم تكن فترة الحجر المنزلي زمن الوباء توقيت مناسب لأي شركة سيارات ومع ذلك نجد أنه خلال خمسة شهور فقط قفزت ثروة إيلون ماسك من 25 مليار إلى ما يفوق 210 وبعد ذلك بأشهر ارتفعت حتى 340 مليار دولار وكل ذلك بسبب تضخم القيمة السوقية لشركة تسلا. الأمر بالغ الغرابة أنه بالرغم من أن شركة تسلا لم تكن تبيع في عام 2020م إلا أقل من 200 ألف سيارة كهربائية ومع ذلك نجد أن قيمتها السوقية في تلك السنة قفزت إلى 206 مليار دولار متخطية القيمة السوقية لعملاق صناعة السيارات شركة تويوتا التي كانت قيمتها 202 مليار دولار وكانت مبيعاتها في تلك السنة حوالي عشرة ملايين سيارة !!.

إن كنتَ شخص كحالتي لا يفهم في الاقتصاد فغالبا سوف تثير هذه الأرقام حيرة كبيرة في نفسك فكيف لشركة سيارات عريقة جدا وموثوقة مثل تويوتا التي لها حوالي 67 مصنعا ضخما حول العالم وعدد موظفيها يفوق 366 ألف شخص، كيف تكون ثروتها أقل من شركة سيارات حديثة في التاريخ وأقل بما لا يقارن في أرقام المبيعات وعدد المصانع والموظفين. كلمة السر لفهم ذلك هو أنه في سوق الأسهم والمضاربة في البورصة غالبا ما يكون الدافع والمحفز في اتخاذ قرارات المضاربة هو العاطفة وليس علم الإحصاء أو المعادلات الرياضية المنضبطة. المشكلة أنه حتى يربح المضارب في سوق الأسهم يجب أن يحاول (تخمين) ما يفكر فيه غالبية المشاركين في البورصة حتى يستطيع أن يحدد متى يشتري أو يبيع في الوقت المناسب. ولهذا طرح عملاق الاقتصاد المعاصر البريطاني جون كينز نظرية تسمى (مسابقة الجمال) وهي فكرة خطرت له من إعلان في جريدة عن تحديد صور أجمل النساء التي يراها أغلب الناس كذلك. ولهذا من يربح في البورصة هو ليس من يشتري أسهم الشركة الرابحة بالفعل مثل شركة تويوتا (المرأة الجميلة بالفعل) ولكن من يشتري أسهم الشركة التي يظن غالبية المضاربين أنها (سوف تربح) مثل الشركة الجديدة للسيارات الكهربائية تسلا والتي بالرغم من أنها شركة حديثة إلا أنه من المحتمل أن المستقبل لها. بسبب التأثيرات الهائلة من قبل بقية المضاربين على التفكير العقلاني للشخص الذي يدخل سوق الأسهم نجد أن عالم الاقتصاد الأمريكي روبرت شيلر الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2013م بدلا من أن يشبه البورصة بمسابقات الجمال النسائية كما فعل جون كينز، نجد شيلر يشبه البورصة بدنيا الموضة. في حين أن العديد من الاقتصاديين يفسرون سوق الأسهم باستخدام (نظرية القطيع) بمعنى أن الفرد (المضارب) يتصرف في البورصة بطريقة سلوك القطيع حيث يقلد سلوك الجماعة التي ينتمي لها بدون تفكير منطقي أو تخطيط عقلاني.

بشكل تقريبي نفس هذا السيناريو غير العقلاني نجده في سوق الأوراق المالية كما نجده في سوق الأسهم وبحكم أن من أهم ركائز قبول البشر لتداول النقود بينهم حتى وإن كانت ليست قطعة من الذهب أو الفضة وإنما مجرد ورقة (أو صدفة كما كان شائع في الشعوب القديمة)، أهم ركائز ذلك نشوء حالة من (الثقة المتبادلة mutual trust) بينهم أن هذه العملة مهم كان نوعها يمكن تداولها وقبولها. وإلى حدا ما ينشأ نوع من (الثقة المتبادلة) بين المضاربين في البورصة أن أسهم شركة ما جديرة بالثقة حتى وإن لم تكون أصولها المالية تغطي سعر السهم الذي تباع به. عندما تنتشر (الثقة المتبادلة) بين أفراد قطيع المضاربين يندفعون بجنون لشراء سهم شركة تسلا وعندما تتعرض الثقة المتبادلة للاهتزاز والتشكيك تندفع جموع أخرى من القطيع لبيع أسهم شركة إيلي ليلي الصيدلانية لمجرد تغريدة مزيفة.

ومن هنا نقول إن هذا الاقتصاد المالي المبني على سوق الأسهم هش وغير راسخ وفي مهب الريح ولهذا يتذبذب بشكل حاد وسريع بين الضحك والبكاء. قارن ذلك مع تاريخ أباطرة رجال الأعمال والشركات التجارية القديمة مثل شركة الهند لشرقية وهي الشركة التجارية البريطانية التي كانت تحتل الهند ويقال إنها كانت تمتلك جيش خاص بها يصل عدده إلى أكثر من ربع مليون جندي وبالتالي كانت استثماراتها مستقرة وراسخة ومستحيل تؤثر عليها تغريدة توتير. رجل الأعمال الأمريكي المعروف جون روكفلر ما زال حتى الآن يوصف بأنه أغنى رجل في التاريخ الأمريكي بالرغم من أن أقصى رقم لثروته كان في حدود 900 مليون دولار (أي تقريبا ما يقارب 25 مليار دولار حاليا) ولكن بحكم ان ثروته كانت قائمة على صناعة النفط فقد كانت راسخة وليست هشة. بينما نجد اليوم أن أغنى رجل في العالم اليوم وهو إيلون ماسك خسر خلال هذه السنة فقط حوالي مائة مليار دولار وربما مع الزمن تتلاشى شهرته كما تلاشت ثروته. في الواقع ما زلنا حتى اليوم نعرف اسماء كبار الأثرياء القدامى من مثل روكفلر ومورجان وروتشيلد وكارنجي وهنري فورد بينما سرعان ما يتم نسيان أسماء الأثرياء في الوقت المعاصر بمجرد سقوطهم من قائمة فوربس لأغنى عشر رجال أعمال.

 بالجملة ننحن الآن نشهد لحظة فارقة في تاريخ الاقتصاد الرأسمالي الذي يهتز بشدة تحت مطارق التضخم والذي يا للعجب يتنامى بالرغم من زيادة سعر الفائدة وهذا بتأثير من كارثة نقص موارد الطاقة وتداعيات الحرب الأوكرانية. لا شك أن للربا والمقامرة المجنونة في سوق الأسهم مع الجشع الليبرالي الاقتصادي المنفلت والمحارب لتدخل الدولة في ضبط التعاملات المالية، كل ذلك ساهم في هشاشة الاقتصاد الحالي. مصيبة المصائب أن تبيع ما لا تمك بالفعل فعندما يقال إن حجم التعاملات المالية على مستوى العالم حوالي 60 تريلون دولار بينما الأموال (الحقيقة) الموجودة في البنوك أو بين أيدى الناس هي فقط في حدود 6 ترليون دولار. وهذا يعني أن أي هزة في (الثقة المتبادلة) التي ذكرنها سابقا يمكن أن ُتنتج انهيار مزدوج للبنوك (كما حصل في الكساد الكبير في الثلاثينيات أو أزمة الرهن العقاري في عام 2008م) أو انهيار البورصات وأسواق العملات المالية كما تكرر كثيرا في التاريخ الحديث بعد إلغاء تغطية الدولار بالذهب. رحم الله طيب الذكر المتنبي عندما حذر من الاغترار بالوهم بالشيء المتضخم وأنه سمين وثمين:

أعيذها نظراتٍ منك صادقةً       أن تحسب الشحم فيمن شحمهُ ورمُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق