الثلاثاء، 7 أكتوبر 2025

( سنة 3 مقاومة )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1447/4/12

 يوم الثلاثاء القادم سوف تمر علينا ذكرى (السابع من أكتوبر) وعملية طوفان الأقصى وبداية السنة الثالثة للمقاومة والنضال الفلسطيني ضد البربرية والهمجية الإسرائيلية الصهيونية التي فاقت كل حدود الخيال والخبال. بلا شك عانى أهلنا في غزة وفي كامل أرض فلسطين من ويلات وتبعات التنكيل والعدوان الصهيوني الغاشم والفاتورة المدفوعة غالية الثمن جدا جدا ومع ذلك بدأت منذ فترة بواكير المباشرات أن هذه المعاناة لم تذهب سدى. وبكل شفافية وواقعية لا أقول إنه في هذه المرحلة المقاومة تنتصر والعدو يندحر، ولكن أقول إن إرهاصات النهاية قد بدأت بالفعل وأوضح مظاهرها تغير وتبدل وجهات النظار العالمية حيال النضال والمقاومة الفلسطينية.  حتى فترة ليست بالبعيدة كان النضال الفلسطيني يعتبر إرهابا وجريمة وإذا بنا قبل أسابيع قليلة نسمع من وسائل الإعلام الصدى الصاخب لاستطلاع للرأي الذي أجرته جامعة هارفرد الأمريكية وتوصلت فيه إلى أن 60% من جيل الشباب الأمريكي يدعم حركة حماس على دولة الاحتلال الصهيوني في الحرب القائمة بينهما وهذا تحول صادم وهائل في المجتمع الأمريكي.

أما على المستوى الدولي فقد كان أكثر إعلان نال ردود واسعة وتغطية إعلامية مكثفة هو ما قام به الرئيس الكولومبي غوستاف بيترو الأسبوع الماضي بالمشاركة في مظاهرة حاشدة في شوارع نيويورك طالب فيها صراح وعلانية بإنشاء جيش عالمي لتحرير فلسطين وبالفعل عندما عاد إلى بلاده أعلن عن فتح المجال لتسجيل قائمة أسماء المتطوعين للقتال من أجل تحرير فلسطين. قبل عدة سنوات وبالتزامن مع اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني كتبت مقالا حمل عنوان (النضال الفلسطيني وتعاطف الغرباء) حشدت فيه أمثلة متعددة لشخصيات وأفراد من جنسيات متعددة من الرجال والنساء الذين قدموا إلى أرض فلسطين لمشاركة الشعب الفلسطيني الأعزل نضاله ومقامته للمحتل الإسرائيلي. والأهم والأخطر من ذلك كان مشاركة بعض الجماعات الثورية الشيوعية الدولية من مثل الجيش الأحمر الياباني ومنظمة (بادر ماينهوف) اليسارية التابعة لحركة الجيش الأحمر الألماني والتي شارك بعض أفرادها بالقتال المسلح ضد الصهاينة في أرض فلسطين أو تنفيذ عمليات عنيفة مثل الهجوم على مطار اللّد الإسرائيلي أو اختطاف طائرة ألمانية تابعة لشركة لوفتهانزا للمطالبة بتحرير بعض الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

غالب الظن أن أكثر من سوف يسجل هذه الأيام في قوائم المتطوعين للقتال الفعلي من أجل تحرير فلسطين التي دعا لها الرئيس الكولومبي هم أصحاب الفكر الاشتراكي من المتعاطفين مع نضال الشعوب ضد الهيمنة الاستعمارية والرأسمالية للدول الغربية. ولهذا ومنذ عقود طويلة والعديد من دول العالم الثالث وخصوصا دول أمريكا اللاتينية لها دعم ملموس ومستمر للقضية الفلسطينية كما يستشف من الخطابات النارية للرئيس الفنزويلي تشافيز الذي طرد السفير الإسرائيلي عام 2008م ردا على العدواني الصهيوني على غزة في ذلك العام. وقبل ذلك وفي عام 2001م شارك الرئيس الكوبي البارز فيديل كاسترو بنفسه في مظاهرة ضخمة ضمت عشرة آلاف شخص في وسط العاصمة هافانا لتأييد القضية الفلسطينية واستنكار الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني.

وبالجملة يمكن أن نفهم هذا الدعم للقضية الفلسطينية من قبل الدول الشيوعية والاشتراكية بأنه مناكفة ومناهضة للدول الكبرى الرأسمالية مثل أمريكيا، ولكن في السنتين الأخيرة بدأت بلدان عديدة من دول العالم تنضم بشكل متزايد في دعم النضال الفلسطيني واستنكار العدوان الصارخ ضد الشعب العربي الأعزل. قطعا الرئيس البرازيلي الحالي لولا دا سيلفا لا يحسب على التيار اليساري وإن كان صاحب إيدلوجية ديمقراطية اشتراكية ولهذا عندما قام الأسبوع الماضي وفي اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتقبيل رأس غوستاف بيترو الرئيس الكولومبي لم يكن بهدف تأييده ومساندته في تصديه لاستفزازات الرئيس ترامب العسكرية لكولومبيا، ولكن غالبا لدعمه على خطابه التاريخي لتحرير فلسطين. وفي اجتماعات الأمم المتحدة الأسبوع الماضي لم يتردد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز من أن ينتقد بقوة الهمجية الإسرائيلية في غزة وهو بالفعل حاليا من أبرز رؤساء الدول الأوروبية الذي وصف ما يحصل في غزة بشكل صريح أنه إبادة جماعية وأعمال فضيعة.

بل وصل الأمر أن نجد أنه حتى رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني العنصرية واليمينة والمتناغمة مع إسرائيل ومع ذلك نجدها تصرح في خطابها أمام الأمم المتحدة بأن إسرائيل تجاوزت الحدود في حربها على غزة ولهذا سوف تدعم إيطاليا فرض بعض العقوبات الأوروبية على إسرائيل. وفي ذات السياق نجد أن ألمانيا وبسبب تورطها تاريخيا في مذابح اليهود على يد النازية لذا كانت من أكثر الدول الغربية التي كانت ولا زالت تقدم الدعم المالي والمناصرة السياسية للكيان الصهيوني ومع ذلك قبل أسابيع نجد أن المستشار الألماني فريدريك ميرتس أعلن إيقاف تصدير الأسلحة لدولة الاحتلال اليهودية. وطبعا من نافلة القول الإشارة إلى التصريح التاريخي لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الأسبوع الماضي عندما أعلن رسميا الاعتراف بالدولة الفلسطينية ولهذا أعاد (وعد ستارمر) للأذهان والذاكرة (وعد بلفور) الإنجليزي المشؤوم. وكذلك يجب أن نذكر ونشير للمساعي الحثيثة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرو في تنظيم مؤتمر حل الدولتين وكذلك إعلان فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية وهو ما تكرر مع دول أخرى غربية مهمة مثل كندا وإسبانيا وأستراليا والنرويج والبرتغال ونيوزلندا.

 رياح التغيير وطوفان العزلة

منذ بداية القضية الفلسطينية قبل 77 عاما لحظة الإعلان عن قيام دولة الكيان الإسرائيلي في سنة 1948م وكذلك منذ انطلاق شرارة الصراع العربي اليهودي مع اندلاع ثورة البراق عام 1929م أي قبل حوالي 96 سنة لم يحصل على الإطلاق أن بلغ زخم المساندة للنضال الفلسطيني والتعاطف مع المأساة أهل فلسطين كما حصل الأسبوع الماضي. قديما كان التعاطف مع نضال الشعب الفلسطيني يتمثل في مؤازرة العشرات أو المئات من غير العرب والمسلمين مع القضية الفلسطينية كما أشرنا لبعض النماذج في مقال (النضال الفلسطيني وتعاطف الغرباء) ثم بعد السنة الأولى من طوفان الأقصى ومع الهمجية الصهيونية الشنيعة ضد المدنيين في غزة تعاطف مئات الآلاف من الشرفاء في مختلف دول العالم مع القضية الفلسطينية. أما في نهاية السنة الثانية بعد طوفان الأقصى وأحداث السابع من أكتوبر نجد أن العدوى انتقلت لشريحة واسعة من أعضاء البرلمانات الأوروبية والوزراء وأعضاء الحكومات الغربية لدرجة أن وزير الخارجية الهولندي مع مجموعة من الوزراء استقالوا من مناصبهم الحكومية احتجاجا أن دولتهم لم نفرض عقوبات على إسرائيل بسبب حربها على غزة. ومن يشاهد مقاطع التلفزيونية التي ترصد قيام مجموعة من أعضاء البرلمان الإيطالي بتوجيه توبيخ وانتقادات حادة لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بسبب عدم انتقادها لإسرائيل، من يشاهد مثل هذه المقاطع والمشاهد ربما يبدأ يفهم لماذا حصل تغيير ملموس في مواقف رؤساء الحكومات الأوروبية (التي أشرنا لهم في الأعلى مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا) حيال الحرب على غزة.

ونحن اليوم على مشارف بداية السنة الثالثة من ذكرى طوفان الأقصى وأحداث السابع من أكتوبر نتوقع بمشيئة الله أن مسار القضية الفلسطينية سوف يحصل له تغير كبير نحو الأفضل نتيجة لزيادة العزلة التي يشعر بها قادة العدو الصهيوني كما حصل من مقاطعة الاستماع لكلمة هتلر العصر النتن ياهو أمام وفود دول الأمم المتحدة. في الواقع قوة العدو الصهيوني تنبع من عوامل متعددة من ضمنها ضعف الوسط العربي الذي يوجد فيه وكذلك من الدعم غير محدود الذي حظيت به إسرائيل في العقود الماضية في جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والتقنية والعلمية. وسبحان الله بعد (طوفان الأقصى) انهمر على دولة العدو ما يمكن تسميته (طوفان العزلة) وهو أنه في مقابل التعاطف العالمي الجراف مع القضية الفلسطينية نجد على خلاف ذلك تولد تزايد وتنامي لكراهية اليهود وهو ما خصصت له مقالا قبل أكثر من سنة حمل عنوان (موجة إعادة إحياء كراهية اليهود ومعاداة السامية).

في الأشهر الأخيرة أعلنت أغلب دول العالم إيقاف شحن وإرسال الأسلحة إلى العدو الصهيوني وذلك تحت ضغط شعوبها التي تطالب وتلح بألا تكون مشاركة في أثم في الحرب على غزة. وعلى نفس النسق تزايدت العزلة الصهيونية من خلال المقاطعة الاقتصادية المتزايدة التي تفرضها شعوب العالم على الصادرات الإسرائيلية وكذلك قيام بعض الدول بالتهديد بفرض العقوبات الاقتصادية على إسرائيل كما حصل من المفوضية الأوروبية التي هددت بأنها سوف تفرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية ضد الحكومة الإسرائيلية إذا استمرت عملية حصار وتجويع أهل غزة. أما العزلة السياسية فيكفي لمعرفة الحضيض التي وصل لها رئيس الوزراء الإسرائيلي النتن ياهو أنه صدر بحقة قرار إدانته من المحكمة الجنائية الدولية ولذا صدر بشكل رسمي قرار بالقبض عليه ولهذا ومن باب الاحتياط قام ذلك المجرم المطلوب للعدالة في رحلته الأخيرة إلى نيويورك بتجنب الطيران فوق أجواء فرنسا وإسبانيا. والجدر بالذكر أن طوفان المقاطعة ضد الصهاينة وصل حتى إلى مستوى المقاطعة الثقافية والفنية والرياضية حيث أصبح من المتعذر على الإسرائيليين المشاركة في البطولات والفعاليات العالمية.

وعليه مع تزايد العزلة الدولية للكيان الصهيون ومع تصاعد وتنامي التعاطف والتضامن مع القضية الفلسطينية ليس من المستبعد أنه في خلال السنة الثالثة للمقاومة بعد طوفان الأقصى أن نجد أن دولا كبرى ومنظمات دولية مؤثرة مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية (أمزح بالطبع) تفرض عقوبات اقتصادية صارمة أو حتى تعتقل شخصيات حكومية إسرائيلية بارزة. وفي المقابل يمكن أن يحصل في الدول الغربية استقبال شخصيات فلسطينية مقاومة تتهم الآن بأنها إرهابية ومتطرفة كما حصل مع الرئيس السوري أحمد الشرع الذي استقبل في الأمم المتحدة واجتمع مع الجنرال ديفيد بتريوس المدير السابق للاستخبارات الأمريكية CIA والذي سبق وأن رصد مبلغ عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تساعد في القبض على الإرهابي أحمد الشرع.

 في السياسة .. بقاء الحال من المحال

ربما المقطع السابق والذي أشير فيه أنه مع تحول رياح التعاطف والمؤازرة في المجتمعات الغربية من دعم اليهود والصهاينة إلى مناصرة النضال الفلسطيني ودعم القضية الفلسطينية لدرجة استقبال رجال المقاومة استقبال الأبطال، ربما هذا المقطع قد يراه البعض محضّ خيال ومع ذلك لعل من الملائم الإشارة إلى القصة العجيبة للزعيم البارز نيلسون منديلا وهو الإرهابي الذي منح جائزة نوبل للسلام !!. جميعنا يعلم أن هذا المناضل الكبير حصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1994ميلادي ولكن يجب أن نعلم أن نيلسون منديلا الشاب والثائر كان أبعد ما يكون عن السلام فقد كان قائد الجناح العسكري في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وبالفعل قام ذلك الجناح العسكري المسمى (رمح الأمة) بالعديد من العمليات التخريبية والقتل والتفجير وترويع الآمنين والأبرياء من البيض. صحيح أن مانديلا ورفاقه في فترة الستينيات من القرن العشرين كانوا يردون على إرهاب الدولة بالإرهاب المضاد لكن ينبغي أن ننبه أنهم في الواقع لم يكونوا يقاومون احتلالا خارجيا لدولتهم وإنما اضطهاد محلي وإقصاء داخلي ومع ذلك مع (الزمن) تحول الإرهابي إلى مناضل ثم مع الوقت أصبح رجل سلام.

وهذا ما أقصده وأرغب لفت الأنظار إليه أنه مع الزمن المتدرج وبمشيئة الله تتحول نظرة غالبية شعوب العالم عن النضال الفلسطيني فقد يكون البعض في زمن ماضي كانوا يعتبرونه نوعا من الإرهاب والتطرف، ولكن مع الزمن وكما يقول الإنجليز slow but sure بطيء ولكن أكيد ولذا مع تنامي رياح التغيير تتزايد نسبة الذي يتعاطفون مع النضال المسلح ويدعمون المقاومة الفلسطينية. وفي المقابل ومع الزمن التدريجي والبطيء ولكن أكيد المفعول يقتنع المجتمع الدولي أكثر وأكثر أن دولة العدو الصهيوني هي كيان سياسي غير شرعي ومحتل ومعتدي على حقوق الآخرين وأنه ليس فقط غاصب، ولكن أيضا همجي وخارج عن القانون. ومن العجائب أن فرنسا احتلت الجزائر لمدة 130 سنة وطوال هذه العقود الزمنية المتتالية كانت فرنسا والغرب من خلفها تصف المقاومة الجزائرية بأنها متطرفة وإجرامية وكان يتم تبرير كامل الإجراءات العنيفة والأثيمة التي يتخذها جيش الاحتلال الفرنسي لقمع النضال والجهاد الجزائري. ثم بعد استقلال الجزائر تغيرت الحقائق والمواقف في المشهد السياسي لدرجة يصعب تصديقها حيث نجد أن الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون صرح في عام 2017م بأن استعمار فرنسا للجزائر (جريمة ضد الإنسانية) كما أضاف بقوله (إنه أمر وحشي حقًا وهو جزء من الماضي الذي نحتاج إلى مواجهته بالاعتذار لأولئك الذين ارتكبنا ضدهم هذه الأفعال).

في الختام ومع بداية السنة الثلاثة للمقاومة الفلسطينية بعد طوفان الأقصى صحيح أننا لا نحلم أن يتم استقبال قادة المجاهدين الفلسطينيين في الدول الغربية استقبال الأبطال فضلا عن أن يمنحوا جائزة نوبل للسلام. كما لا نجرؤ أن نحلم أن يخرج علينا المجرم النتن ياهو يوم من الأيام لكي يصرح ويقول (الحرب الإسرائيلية على غزة كانت في الواقع جريمة ضد الإنسانية). ومع ذلك نجزم أن العالم من حوالنا تغير بدرجة كبير وأن المسألة مسألة وقت حتى يدعم أغلب شرفاء العالم بشكل فعلي وملموس النضال والمقاومة المشروعة لأهل فلسطين وحتى تتخذ بعض الحكومات الدولية إجراءات مؤثرة في معاقبة قادة وحكومة وجيش العدو الصهيوني بعد محاكمتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في محاكمات يخلدها التاريخ مثل محاكمات نورنبيرغ لمحاكمة مجرمي الحرب من النازيين ومحاكمات طوكيو لجرائم الحرب المرتكبة في الحرب العالمي الثانية ومحاكمات قادة صرب البوسنة على جرائم الإبادة الجماعية.

 



 

السبت، 4 أكتوبر 2025

( المرأة والكتاب .. وشيء عن تاريخ منسي )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1447/4/5

بحكم أنني أقيم حاليا في سكن جامعة الملك سعود ولهذا في الأعوام الماضية عندما كان (معرض الرياض الدولي للكتاب) يقام في رحاب الجامعة كانت تلك فرصة ذهبية لكي أكرر زيارة المعرض ولهذا كنوع من رد الجميل لاختيار شعار (وجهة ملهمة) لمعرض الكتاب في عام 2023 كتبت مقالا حمل عنوان (الجامعة والكتاب .. مسيرة متقاطعة). وبحكم أن سكني ليس بعيدا عن (مكتبة الملك سلمان) والتي هي مكتبة جامعة الملك سعود والتي في بدايات نشوئها كانت نواتها المكتبة الضخمة التي أهداها للجامعة المؤرخ والأديب الكبير خير الدين الزركلي وكذلك تتميز مكتبة الجامعة باحتوائها على مكتبة علامة الجزيرة حمد الجاسر ولهذا العام الماضي وبالتزامن مع معرض الكتاب الذي احتضنته جامعة الملك سعود كتبت مقالا آخر عن (المكتبات الخاصة وعشق اقتناء الكتب). أما وإن يوم الخميس القادم سوف يشهد افتتاح معرض الرياض الدولي للكتاب 2025 والذي سوف يقام هذه المرة في رحاب جامعة الأميرة نورة، لذا أجد أنه وفق العادة السنوية التي انتهجتها منذ سنوات أن أكتب مقالا متزامنا مع معرض الكتاب، وبحكم أن المعرض تحتضنه جامعة مخصصة للنساء وعليه ربما من الملائم أن نعرج على العلاقة التاريخية بين (المرأة والكتاب) ونحاول تسليط الضوء على التاريخ المنسي للمرأة عندما تلعب دور (الكاتب).

قبل فترة من الزمن مرت بي معلومة غير موثقة تقول إنه قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة ظهر في حضارة بابل في العراق بعض النساء التي يمكن وصفهن بـ (الكاتبات) ليس لأنهن كتبن وألّفن كتبا كاملة، ولكن من المحتمل أنهن عرفن مهارة الكتابة وكنّ بكل بساطة يساهمن في نسخ وكتابة النصوص المكتوبة باللغة المسمارية المنتشرة في بلاد الرافدين. وبالرغم من أنه المستحيل إثبات أن قطعة أثرية من الطين أو الصلصال المكتوبة باللغة المسمارية أن الذي نقشها هل هو رجل أو امرأة ومع ذلك لا توجد مشكلة في احتمالية أن من أنتج وألّف ذلك النص القصير قد يكون بالفعل امرأة من طبقة الكاهنات واللاتي لهن تاريخ موثق في أرض العراق منذ زمن الحضارة السومرية قبل حوالي خمسة آلاف سنة. وكالعادة المشكلة عندما يدخل (تيار النسوية) على الخط فعلى نسق شعار (في البدء كانت الأنثى) وبتأثير من نظرية الباحث الألماني يوهان باخوفن حول (النظام الأمومي) الذي استنبطه من الأساطير القديمة عن عشتار البابلية وإيزيس الفرعونية وأثينا الإغريقية وبالتالي قال إن الأصل في النظام الإنساني في (العصر الذهبي) أن الأنثى هي من كانت تقود المجتمع. وفي هذا المنظور ظهر من يقول إن الأنثى هي أصل المعارف البشرية لدرجة أن بعض غلاة النسوية يتبجحون بأن أول (كاتب) في التاريخ البشري ليس رجلا من شاكلة هيردوت اليوناني (أبو التاريخ) أو الوزير الفرعوني القديم بتاح حتب الذي ينسب له كتاب (الأمثال والتعاليم)، وإنما أول مؤلف وكاتب في التاريخ هي امرأة تدعى (أنخيدو أنّا). في الواقع هذه المرأة أو الكاتبة المزعومة هي كاهنة وشاعرة من زمن الحضارة السومرية قبل حوالي خمسة آلاف سنة وكل ما وجده علماء الآثار مرتبطا بها هو قطع من الصلصال مكتوب عليها بالغة السومرية لبعض الأشعار والقصائد المنسوبة لها.

كما نعلم أن وجود نصوص وقصائد للشاعر الجاهلي امرؤ القيس أو للخنساء أو طرفة بن العبد هذا لا يعني بأنه كانوا: كتّاب أو مؤلفون وكذلك نجد في الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية بعض الأسفار والأناجيل المنسوبة لبعض النساء مثل سفر أستير أو سفر راعوث في العهد القديم أو إنجيل مريم المجدلية ومع ذلك لا يوجد عاقل يقول إن مجرد وجود نص منسوب لرجل أو امرأة يعني أنه كتبه بيده وأخرجه على شكل كتاب. وعلى كل حال هنالك من يزعم أن الكاهنة والشاعرة السومرية أنخيدو أنّا كتبت أشعارا على الفخار مكرسة للإلهة إنانا  Inannaربة الجمال والحب (سوف تتحول إلى الإلهة عشتار عند البابليين) وبحكم أن الآلهة إنانا أو عشتار هي مجرد أسطورة فكذلك في الغالب أن قصة الكتاب المزعوم (تمجيد إنانا) لأنخيدو أنّا هي مجرد خرافة.

ومن الشاعرة أنخيدو (أنّا) والكتاب المزعوم لقصائد المديح للآلهة السومرية إنانا Inanna إلى الأميرة والمؤرخة البيزنطية آنا Anna ابنة الإمبراطور أليكسوس الأول كومنينوس (لهذا اسمها الشائع: آنا كومنينا) وهي التي عاشت في بداية القرن الثاني عشر الميلادي. وما يهمنا هنا فيما يتعلق بموضوع (المرأة والكتاب) أنه هذه الأميرة البيزنطية ربما بالفعل تكون واحدة من أوائل النساء في التاريخ البشري بأكمله التي ثبت أنها ألّفت وانتجت كتابا مطبوعا. لقد كانت هذه الأميرة مقربة من والدها الإمبراطور وبعد وفاته حاولت هي وزوجها الانقلاب على أخيها الأمير الصغير وتنحيته عن الحكم لكنها فشلت ولهذا تم سجنها لبقية حياته في أحد الأديرة وهنالك ولمدة عشر سنوات تفرغت لتأليف كتاب في التاريخ عن الأحداث المهمة في حياة والدها الإمبراطور (أليكسوس) الأول ولهذا سمت كتابها ذلك على اسم والدها (أليكسياد). وبالمناسبة هذا الكتاب بالذات مهم لنا لأنه يوثق مرور جيوش الحملة الصليبية الأولى من أوروبا عبر أراضي الإمبراطورية البيزنطية باتجاه الشام وأرض فلسطين.

تاريخ أول كتاب نسائي في التاريخ

لقد زعم وتبجح تيار النسوية أن أول (كاتب ومؤلف) في التاريخ البشري ليس رجلا وإنما امرأة شبه أسطورية تدعى أنخيدو أنّا حيث يعتقد علماء الآثار أنها عاشت قبل حوالي خمسة آلاف سنة. ثم إذا بنا على أرض الواقع وليس على أرض الأحلام والأساطير نجد أن كتاب التاريخ (أليكسياد) للأميرة البيزنطية آنا كومنينا هو أول كتاب ثابت تاريخيا أنه من تأليف امرأة ربما اكتملت كتابته في حدود 1148م أي بمعنى أنه كتب بعد حوالي ستة آلاف سنة من تاريخ كتاب ترانيم الشعر المزعوم للشاعرة السومرية أنخيدو أنّا. وعلى ذكر الشعر والشعراء والنساء لس بمستغرب أن تتمكن المرأة في وقت مبكر من التاريخ البشري أن تقول الشعر على خلاف محاولة امرأة تقول الفلسفة أو تبدع في الكتابة الطبية أو حتى التاريخية. ومن خلال هذا المنظور سوف نجد أن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن العديد من نساء الزمن السحيق بأنهن من أوائل الشاعرات في التاريخ البشري مثل الأميرة البابلية نينشاتابادا التي عاشت في القرن التاسع عشر قبل الميلاد وكما توجد عدة أسماء لنساء من الحضارة الهندية القديمة يقال بأنهن من أوائل الشاعرات، ولكن مرة أخرى تختلط هنا الحقيقة التاريخية بالأسطورة الخرافية. ومع ذلك يبقى أن أقدم شاعرة من المؤكد تاريخيا وجودها هي الشاعرة اليونانية صافو (سيئة السمعة) التي توفيت في عام 570 قبل الميلاد. ما أود الوصول له أنه منذ فجر التاريخ لطالما كان الشعر والأدب وسيلة المرأة لأثبات وجودها أمام الحضور الذكوري الطاغي ومن هنا تم التوظيف الأنثوي لمهارة السرد وقصّ الحكايات في أوائل الكتب التي أنتجتها النساء مثل كتاب التاريخ (أليكسياد) السالف الذكر التي سردت فيها الأميرة آنا ذكرياتها عن الأحداث السياسية في حياة والدها الإمبراطور.

وهذا يقودنا إلى التعريف ربما بأول رواية أدبية في التاريخ تؤلفها وتكتبها سيدة ونقصد بذلك كتاب (حكاية غنجي The tale of Genji) والذي أبدعته الشاعرة والأديبة اليابانية موراساكاي شيكيبو. لقد كانت تلك الأديبة اليابانية من طبقة النبلاء حيث كانت وصيفة في البلاط الإمبراطوري وكنوع من تسلية سيدات البلاط اخترعت موراساكاي تلك القصة المحبوكة والمسيلة وبحكم أنها نشرت بالضبط قبل ألف سنة من الآن (بالتحديد في عام 1021م) فهي بهذا تعبر واحدة من أقدم الروايات الأدبية في التاريخ الإنساني بالمطلق وليس فقط في تاريخ (الأدب النسوي). وإذا علمنا بأن أحد أقدم الأعمال الأدبية التي ظهرت في أوروبا وكتبت باللغة الإنجليزية القديمة هي مجموعة قصص الحجاج التي اشتهرت باسم (حكايات كانتربري) للأديب والمؤلف الإنجليزي المعروف جيفري تشوسر والذي نشرها في حدود عام 1400م فهذا يدل على أن الأدب النسوي متقدم على الأدب الإنجليزي بحوالي أربعة قرون كاملة.

وبعيدا عن (الكتابة الأدبية) المرتبطة بتاريخ علاقة النساء بتأليف الكتب لعل من المهم الإشارة إلى أن الكتابات المتنوعة التي أنتجتها القديسة الألمانية هايلدغارد التي عاشت في القرن الثاني عشر الميلادي. فبالإضافة لكتابتها مسرحية ذات أهداف أخلاقية عنوانها (وسام الفضائل) نجدها كذلك هي أول امرأة يعرف عنها بشكل موثق أن لها كتابات في المواضيع الدينية المسيحية والفلسفية بل وحتى الطبية وما يعزز ذلك قيام البابا (الألماني الأصل) بنديكت السادس عشر في عام 2012م بإطلاق لقب (طبيبة الكنيسة) على تلك المرأة المتدينة وثيقة الصلة بالكتابة والتأليف.

وقبل أن نختم هذا الملف عن علاقة (المرأة بالكتاب) لدى الشعوب والحضارات الأخرى لعل من الملائم الإشارة السريعة للحالة الفريدة للكاتبة والأديب الإنجليزية أفرا بن Aphra Behn والتي توفيت عام 1689م والتي بفضل مهارتها في كتابة الشعر والأعمال المسرحية بل وحتى في الترجمة من اللغة الفرنسية اشتهرت بأنها أول امرأة تتخذ من الكتابة مهنة وحرفة لها تكسب منها مصدر دخلها. وبحكم أن أفرا بن كانت ملهمة لأجيال متعددة من الكاتبات والأديبات لهذا اشتهر عن الروائية البريطانية المشهورة فرجينيا وولف قولها (على كل النساء أن يضعن معاً الورود على ضريح أفرا بن).

المرأة العربية والكتاب .. حضور متأخر

حتى الآن لعل أقدم كتاب في التاريخ قامت بتأليفه امرأة هو رواية (حكاية غنجي) للأديبة اليابانية موراساكاي والتي نشرته في عام 1022م وقبل ذلك بفترة قصيرة من الزمن وبالتحديد في عام 995م (الموافق 385 هجري) ظهر كتاب (الفهرست) للمصنف وجامع الفهارس المشهور (ابن النديم). وما يهمنا هنا أن كتاب الفهرست يحتوي أسماء وبعض المعلومات عن 8360 كتابا من تأليف حوالي 2238 كاتب وبالرغم من أن ابن النديم ذكر تحت عنوان (أسماء الحبائب المتطرفات) أسماء 12 كتابا من الكتب التي تنسب لنساء عاشقات مثل كتاب رقية وخديجة أو كتاب سكينة والرباب أو كتاب سلمى وسعاد ولكن هذا لا يعني أن من قام بتأليف هذه الكتب نساء وإنما هي كتب ذكورية مكتوبة عن عشق وشبق النساء. في الواقع وللأسف لا يوجد في كتاب الفهرست لابن النديم ولا في كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) للمؤلف التركي حاجي خليفة والذي نشر في زمن متأخر أي عام 1064 هجري واحتوى على أسماء أكثر من خمسة عشر ألف كتاب ونحو 9500 مؤلف وكاتب ومع ذلك لا نجد تقريبا في كتاب الفهرست أو كتاب كشف الظنون أي كتاب صريح وواضح أن من قام بتأليفه وكتابته امرأة عربية أو مسلمة.

 عبر التاريخ الإسلامي الطويل اشتهر عن العديد من النساء الفاضلات ممارستهن تدريس العلمي الشرعي وبعضهن كنّ فقيهات ومحدثات وواعظات ابتداءً من الصحابية الجلية زينب بنت أبي سلمة (التي كانت أفقه نساء زمانها بالمدينة وروى عنها الإمام البخاري عدد من الأحاديث النبوية) وانتهاءً بمئات من النساء في الزمن المعاصر من أستاذة الجامعات في مجال الفقه والشريعة. ومع ذلك وبالرغم من أن عدد النساء الفقيهات والنحويات والطبيبات والأديبات في التاريخ في التاريخ الإسلامي يبلغ عشرات الآلاف ويكفي فقط أن نشير إلى أن الإمام السخاوي في كتاب (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) سرد أسماء حوالي ألف امرأة من مشاهير النساء في القرن التاسع الهجري في الفقه وعلوم الدين ومع ذلك لا يعرف لهن كتب مطبوعة. وفي ذات السياق نجد أن كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة والمنشور في عام 650 هجري وبالرغم من أنه ذكر أخبار حوالي 414 طبيبا كانت واحدة فقط امرأة وهي طبيبة العيون (زينب الشامية) وربما عرفت وبقي ذكرها لأنه قيل فيها بيت من الشعر ورد في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني والغالب أنها كانت أشبه بالطبيبة الشعبية من كونها طبيبة محترفة درست الطب وطبعا لم يكن لها أي كتاب منشور.

لأمر غير مفهم تماما ظلت النساء العربيات من الفقيهات والمحدثات ثقافتهن وإنتاجهن العلمي (شفهي وصوتي) وليس (كتابي وورقي) ولذا لم يبق من أرثهن العلمي إلا أن الفقيهة البارزة شهدة بنت الفرج تلقب (بفخر النساء) وقبلها نفيسة بن الحسين تعرف بـ (نفيسة العلم) وعالمة الفلك السيدة مريم الجيلي تعرف بلقب (مريم الأسطرلابية) والطبيبة المصرية ابنة شهاب الدين الصايغ تولت مشيخة الطب في القاهرة.

على كل حال الإرث العربي فيما يتعلق بمجال (المرأة والكتاب) تغير بشكل جذري منذ حوالي قرن ونصف حيث بدء تظهر وتتزايد من الزمن الكتب والمؤلفات العربية التي أبدعتها النساء وربما أقدم سيدة عربية يعرف بشكل مؤكد أنها ألّفت وأصدرت كتاب هي الأديبة والكاتبة اللبنانية زينب فواز والتي نشرت في عام 1312 هجري كتابا تاريخيا كان عنوانه (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور). وهذا أمر غريب ومن المفارقات أن أول كتاب عربي (في غير مجال الأدب والشعر) من تأليف سيدة عربية يكون محاولة لرصد وحصر النساء في التاريخ العربي حيث جمعت معلومات عن 456 امرأة من نساء الشرق والغرب. والغريب في الأمر كذلك أن لهذه السيدة طفرة في إنتاج الكتاب فلها كتاب آخر في التاريخ مخصص لشقيق المرأة الرجل وحمل عنوان (مدارك الجمال في تراجم الرجال). ثم بعد ذلك توالت عبر السنوات الكتب والمؤلفات التي أبدعتها قرائح وأفكار النساء العربيات وأود أن أختم هذا المقال (المرأة والكتاب) إنه حسب أقصى ما توصلت إليه أن أول كتاب مؤلف من قبل سيدة عربية في كامل التاريخ العربي هو كتاب (الدر المنثور في طبقات الخدور) والذي نشر فمن قبل الكاتبة زينب فواز عام 1904 ميلادي. وبعد حوالي ثمانين عاما من ذلك التاريخ ربما أول كتاب سعودي (غير الروايات ودواوين الشعر) تم تأليفه من قبل امرأة - حسب علمي - هو ذلك الكتاب الذي أصدرته عام 1980م المؤرخة السعودية الدكتورة مديحة درويش بعنوان (تاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين).

كلمة أخيرة، في العادة عدد عناوين الكتب التي يحتويها معرض الرياض الدولي للكتاب تتخطى 200 ألف عنوان كتاب وبحكم أن معرض الكتاب يقام في جامعة الأميرة نورة وفي الغالب أغلب زوار المعرض من الفتيات والسيدات. لذا ليت من يتصدى من طالبات الجامعة أو الباحثات فيها ويحاولن أن يحصين ويرصدن من خلال الفهارس الإلكترونية للمعرض كمْ عدد الكتب المدرجة وهي لنساء عربيات سواء في القديم أو الحديث وكمْ من الكتب من غير الروايات ودواوين الشعر هي من تأليف كاتبات سعوديات. أتوقع أن الأرقام سوف تكون مخيبة للآمال والله أعلم.