د/ أحمد بن حامد الغامدي
د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1447/4/12
يوم الثلاثاء القادم سوف تمر علينا ذكرى (السابع من أكتوبر) وعملية طوفان الأقصى وبداية السنة الثالثة للمقاومة والنضال الفلسطيني ضد البربرية والهمجية الإسرائيلية الصهيونية التي فاقت كل حدود الخيال والخبال. بلا شك عانى أهلنا في غزة وفي كامل أرض فلسطين من ويلات وتبعات التنكيل والعدوان الصهيوني الغاشم والفاتورة المدفوعة غالية الثمن جدا جدا ومع ذلك بدأت منذ فترة بواكير المباشرات أن هذه المعاناة لم تذهب سدى. وبكل شفافية وواقعية لا أقول إنه في هذه المرحلة المقاومة تنتصر والعدو يندحر، ولكن أقول إن إرهاصات النهاية قد بدأت بالفعل وأوضح مظاهرها تغير وتبدل وجهات النظار العالمية حيال النضال والمقاومة الفلسطينية. حتى فترة ليست بالبعيدة كان النضال الفلسطيني يعتبر إرهابا وجريمة وإذا بنا قبل أسابيع قليلة نسمع من وسائل الإعلام الصدى الصاخب لاستطلاع للرأي الذي أجرته جامعة هارفرد الأمريكية وتوصلت فيه إلى أن 60% من جيل الشباب الأمريكي يدعم حركة حماس على دولة الاحتلال الصهيوني في الحرب القائمة بينهما وهذا تحول صادم وهائل في المجتمع الأمريكي.
أما على المستوى الدولي فقد كان أكثر إعلان نال ردود واسعة وتغطية إعلامية مكثفة هو ما قام به الرئيس الكولومبي غوستاف بيترو الأسبوع الماضي بالمشاركة في مظاهرة حاشدة في شوارع نيويورك طالب فيها صراح وعلانية بإنشاء جيش عالمي لتحرير فلسطين وبالفعل عندما عاد إلى بلاده أعلن عن فتح المجال لتسجيل قائمة أسماء المتطوعين للقتال من أجل تحرير فلسطين. قبل عدة سنوات وبالتزامن مع اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني كتبت مقالا حمل عنوان (النضال الفلسطيني وتعاطف الغرباء) حشدت فيه أمثلة متعددة لشخصيات وأفراد من جنسيات متعددة من الرجال والنساء الذين قدموا إلى أرض فلسطين لمشاركة الشعب الفلسطيني الأعزل نضاله ومقامته للمحتل الإسرائيلي. والأهم والأخطر من ذلك كان مشاركة بعض الجماعات الثورية الشيوعية الدولية من مثل الجيش الأحمر الياباني ومنظمة (بادر ماينهوف) اليسارية التابعة لحركة الجيش الأحمر الألماني والتي شارك بعض أفرادها بالقتال المسلح ضد الصهاينة في أرض فلسطين أو تنفيذ عمليات عنيفة مثل الهجوم على مطار اللّد الإسرائيلي أو اختطاف طائرة ألمانية تابعة لشركة لوفتهانزا للمطالبة بتحرير بعض الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
غالب الظن أن أكثر من سوف يسجل هذه الأيام في قوائم المتطوعين للقتال الفعلي من أجل تحرير فلسطين التي دعا لها الرئيس الكولومبي هم أصحاب الفكر الاشتراكي من المتعاطفين مع نضال الشعوب ضد الهيمنة الاستعمارية والرأسمالية للدول الغربية. ولهذا ومنذ عقود طويلة والعديد من دول العالم الثالث وخصوصا دول أمريكا اللاتينية لها دعم ملموس ومستمر للقضية الفلسطينية كما يستشف من الخطابات النارية للرئيس الفنزويلي تشافيز الذي طرد السفير الإسرائيلي عام 2008م ردا على العدواني الصهيوني على غزة في ذلك العام. وقبل ذلك وفي عام 2001م شارك الرئيس الكوبي البارز فيديل كاسترو بنفسه في مظاهرة ضخمة ضمت عشرة آلاف شخص في وسط العاصمة هافانا لتأييد القضية الفلسطينية واستنكار الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني.
وبالجملة يمكن أن نفهم هذا الدعم للقضية الفلسطينية من قبل الدول الشيوعية والاشتراكية بأنه مناكفة ومناهضة للدول الكبرى الرأسمالية مثل أمريكيا، ولكن في السنتين الأخيرة بدأت بلدان عديدة من دول العالم تنضم بشكل متزايد في دعم النضال الفلسطيني واستنكار العدوان الصارخ ضد الشعب العربي الأعزل. قطعا الرئيس البرازيلي الحالي لولا دا سيلفا لا يحسب على التيار اليساري وإن كان صاحب إيدلوجية ديمقراطية اشتراكية ولهذا عندما قام الأسبوع الماضي وفي اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتقبيل رأس غوستاف بيترو الرئيس الكولومبي لم يكن بهدف تأييده ومساندته في تصديه لاستفزازات الرئيس ترامب العسكرية لكولومبيا، ولكن غالبا لدعمه على خطابه التاريخي لتحرير فلسطين. وفي اجتماعات الأمم المتحدة الأسبوع الماضي لم يتردد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز من أن ينتقد بقوة الهمجية الإسرائيلية في غزة وهو بالفعل حاليا من أبرز رؤساء الدول الأوروبية الذي وصف ما يحصل في غزة بشكل صريح أنه إبادة جماعية وأعمال فضيعة.
بل وصل الأمر أن نجد أنه حتى رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني العنصرية واليمينة والمتناغمة مع إسرائيل ومع ذلك نجدها تصرح في خطابها أمام الأمم المتحدة بأن إسرائيل تجاوزت الحدود في حربها على غزة ولهذا سوف تدعم إيطاليا فرض بعض العقوبات الأوروبية على إسرائيل. وفي ذات السياق نجد أن ألمانيا وبسبب تورطها تاريخيا في مذابح اليهود على يد النازية لذا كانت من أكثر الدول الغربية التي كانت ولا زالت تقدم الدعم المالي والمناصرة السياسية للكيان الصهيوني ومع ذلك قبل أسابيع نجد أن المستشار الألماني فريدريك ميرتس أعلن إيقاف تصدير الأسلحة لدولة الاحتلال اليهودية. وطبعا من نافلة القول الإشارة إلى التصريح التاريخي لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الأسبوع الماضي عندما أعلن رسميا الاعتراف بالدولة الفلسطينية ولهذا أعاد (وعد ستارمر) للأذهان والذاكرة (وعد بلفور) الإنجليزي المشؤوم. وكذلك يجب أن نذكر ونشير للمساعي الحثيثة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرو في تنظيم مؤتمر حل الدولتين وكذلك إعلان فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية وهو ما تكرر مع دول أخرى غربية مهمة مثل كندا وإسبانيا وأستراليا والنرويج والبرتغال ونيوزلندا.
رياح التغيير وطوفان العزلة
منذ بداية القضية الفلسطينية قبل 77 عاما لحظة الإعلان عن قيام دولة الكيان الإسرائيلي في سنة 1948م وكذلك منذ انطلاق شرارة الصراع العربي اليهودي مع اندلاع ثورة البراق عام 1929م أي قبل حوالي 96 سنة لم يحصل على الإطلاق أن بلغ زخم المساندة للنضال الفلسطيني والتعاطف مع المأساة أهل فلسطين كما حصل الأسبوع الماضي. قديما كان التعاطف مع نضال الشعب الفلسطيني يتمثل في مؤازرة العشرات أو المئات من غير العرب والمسلمين مع القضية الفلسطينية كما أشرنا لبعض النماذج في مقال (النضال الفلسطيني وتعاطف الغرباء) ثم بعد السنة الأولى من طوفان الأقصى ومع الهمجية الصهيونية الشنيعة ضد المدنيين في غزة تعاطف مئات الآلاف من الشرفاء في مختلف دول العالم مع القضية الفلسطينية. أما في نهاية السنة الثانية بعد طوفان الأقصى وأحداث السابع من أكتوبر نجد أن العدوى انتقلت لشريحة واسعة من أعضاء البرلمانات الأوروبية والوزراء وأعضاء الحكومات الغربية لدرجة أن وزير الخارجية الهولندي مع مجموعة من الوزراء استقالوا من مناصبهم الحكومية احتجاجا أن دولتهم لم نفرض عقوبات على إسرائيل بسبب حربها على غزة. ومن يشاهد مقاطع التلفزيونية التي ترصد قيام مجموعة من أعضاء البرلمان الإيطالي بتوجيه توبيخ وانتقادات حادة لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بسبب عدم انتقادها لإسرائيل، من يشاهد مثل هذه المقاطع والمشاهد ربما يبدأ يفهم لماذا حصل تغيير ملموس في مواقف رؤساء الحكومات الأوروبية (التي أشرنا لهم في الأعلى مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا) حيال الحرب على غزة.
ونحن اليوم على مشارف بداية السنة الثالثة من ذكرى طوفان الأقصى وأحداث السابع من أكتوبر نتوقع بمشيئة الله أن مسار القضية الفلسطينية سوف يحصل له تغير كبير نحو الأفضل نتيجة لزيادة العزلة التي يشعر بها قادة العدو الصهيوني كما حصل من مقاطعة الاستماع لكلمة هتلر العصر النتن ياهو أمام وفود دول الأمم المتحدة. في الواقع قوة العدو الصهيوني تنبع من عوامل متعددة من ضمنها ضعف الوسط العربي الذي يوجد فيه وكذلك من الدعم غير محدود الذي حظيت به إسرائيل في العقود الماضية في جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والتقنية والعلمية. وسبحان الله بعد (طوفان الأقصى) انهمر على دولة العدو ما يمكن تسميته (طوفان العزلة) وهو أنه في مقابل التعاطف العالمي الجراف مع القضية الفلسطينية نجد على خلاف ذلك تولد تزايد وتنامي لكراهية اليهود وهو ما خصصت له مقالا قبل أكثر من سنة حمل عنوان (موجة إعادة إحياء كراهية اليهود ومعاداة السامية).
في الأشهر الأخيرة أعلنت أغلب دول العالم إيقاف شحن وإرسال الأسلحة إلى العدو الصهيوني وذلك تحت ضغط شعوبها التي تطالب وتلح بألا تكون مشاركة في أثم في الحرب على غزة. وعلى نفس النسق تزايدت العزلة الصهيونية من خلال المقاطعة الاقتصادية المتزايدة التي تفرضها شعوب العالم على الصادرات الإسرائيلية وكذلك قيام بعض الدول بالتهديد بفرض العقوبات الاقتصادية على إسرائيل كما حصل من المفوضية الأوروبية التي هددت بأنها سوف تفرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية ضد الحكومة الإسرائيلية إذا استمرت عملية حصار وتجويع أهل غزة. أما العزلة السياسية فيكفي لمعرفة الحضيض التي وصل لها رئيس الوزراء الإسرائيلي النتن ياهو أنه صدر بحقة قرار إدانته من المحكمة الجنائية الدولية ولذا صدر بشكل رسمي قرار بالقبض عليه ولهذا ومن باب الاحتياط قام ذلك المجرم المطلوب للعدالة في رحلته الأخيرة إلى نيويورك بتجنب الطيران فوق أجواء فرنسا وإسبانيا. والجدر بالذكر أن طوفان المقاطعة ضد الصهاينة وصل حتى إلى مستوى المقاطعة الثقافية والفنية والرياضية حيث أصبح من المتعذر على الإسرائيليين المشاركة في البطولات والفعاليات العالمية.
وعليه مع تزايد العزلة الدولية للكيان الصهيون ومع تصاعد وتنامي التعاطف والتضامن مع القضية الفلسطينية ليس من المستبعد أنه في خلال السنة الثالثة للمقاومة بعد طوفان الأقصى أن نجد أن دولا كبرى ومنظمات دولية مؤثرة مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية (أمزح بالطبع) تفرض عقوبات اقتصادية صارمة أو حتى تعتقل شخصيات حكومية إسرائيلية بارزة. وفي المقابل يمكن أن يحصل في الدول الغربية استقبال شخصيات فلسطينية مقاومة تتهم الآن بأنها إرهابية ومتطرفة كما حصل مع الرئيس السوري أحمد الشرع الذي استقبل في الأمم المتحدة واجتمع مع الجنرال ديفيد بتريوس المدير السابق للاستخبارات الأمريكية CIA والذي سبق وأن رصد مبلغ عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تساعد في القبض على الإرهابي أحمد الشرع.
في السياسة .. بقاء الحال من المحال
ربما المقطع السابق والذي أشير فيه أنه مع تحول رياح التعاطف والمؤازرة في المجتمعات الغربية من دعم اليهود والصهاينة إلى مناصرة النضال الفلسطيني ودعم القضية الفلسطينية لدرجة استقبال رجال المقاومة استقبال الأبطال، ربما هذا المقطع قد يراه البعض محضّ خيال ومع ذلك لعل من الملائم الإشارة إلى القصة العجيبة للزعيم البارز نيلسون منديلا وهو الإرهابي الذي منح جائزة نوبل للسلام !!. جميعنا يعلم أن هذا المناضل الكبير حصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1994ميلادي ولكن يجب أن نعلم أن نيلسون منديلا الشاب والثائر كان أبعد ما يكون عن السلام فقد كان قائد الجناح العسكري في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وبالفعل قام ذلك الجناح العسكري المسمى (رمح الأمة) بالعديد من العمليات التخريبية والقتل والتفجير وترويع الآمنين والأبرياء من البيض. صحيح أن مانديلا ورفاقه في فترة الستينيات من القرن العشرين كانوا يردون على إرهاب الدولة بالإرهاب المضاد لكن ينبغي أن ننبه أنهم في الواقع لم يكونوا يقاومون احتلالا خارجيا لدولتهم وإنما اضطهاد محلي وإقصاء داخلي ومع ذلك مع (الزمن) تحول الإرهابي إلى مناضل ثم مع الوقت أصبح رجل سلام.
وهذا ما أقصده وأرغب لفت الأنظار إليه أنه مع الزمن المتدرج وبمشيئة الله تتحول نظرة غالبية شعوب العالم عن النضال الفلسطيني فقد يكون البعض في زمن ماضي كانوا يعتبرونه نوعا من الإرهاب والتطرف، ولكن مع الزمن وكما يقول الإنجليز slow but sure بطيء ولكن أكيد ولذا مع تنامي رياح التغيير تتزايد نسبة الذي يتعاطفون مع النضال المسلح ويدعمون المقاومة الفلسطينية. وفي المقابل ومع الزمن التدريجي والبطيء ولكن أكيد المفعول يقتنع المجتمع الدولي أكثر وأكثر أن دولة العدو الصهيوني هي كيان سياسي غير شرعي ومحتل ومعتدي على حقوق الآخرين وأنه ليس فقط غاصب، ولكن أيضا همجي وخارج عن القانون. ومن العجائب أن فرنسا احتلت الجزائر لمدة 130 سنة وطوال هذه العقود الزمنية المتتالية كانت فرنسا والغرب من خلفها تصف المقاومة الجزائرية بأنها متطرفة وإجرامية وكان يتم تبرير كامل الإجراءات العنيفة والأثيمة التي يتخذها جيش الاحتلال الفرنسي لقمع النضال والجهاد الجزائري. ثم بعد استقلال الجزائر تغيرت الحقائق والمواقف في المشهد السياسي لدرجة يصعب تصديقها حيث نجد أن الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون صرح في عام 2017م بأن استعمار فرنسا للجزائر (جريمة ضد الإنسانية) كما أضاف بقوله (إنه أمر وحشي حقًا وهو جزء من الماضي الذي نحتاج إلى مواجهته بالاعتذار لأولئك الذين ارتكبنا ضدهم هذه الأفعال).
في الختام ومع بداية السنة الثلاثة للمقاومة الفلسطينية بعد طوفان الأقصى صحيح أننا لا نحلم أن يتم استقبال قادة المجاهدين الفلسطينيين في الدول الغربية استقبال الأبطال فضلا عن أن يمنحوا جائزة نوبل للسلام. كما لا نجرؤ أن نحلم أن يخرج علينا المجرم النتن ياهو يوم من الأيام لكي يصرح ويقول (الحرب الإسرائيلية على غزة كانت في الواقع جريمة ضد الإنسانية). ومع ذلك نجزم أن العالم من حوالنا تغير بدرجة كبير وأن المسألة مسألة وقت حتى يدعم أغلب شرفاء العالم بشكل فعلي وملموس النضال والمقاومة المشروعة لأهل فلسطين وحتى تتخذ بعض الحكومات الدولية إجراءات مؤثرة في معاقبة قادة وحكومة وجيش العدو الصهيوني بعد محاكمتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في محاكمات يخلدها التاريخ مثل محاكمات نورنبيرغ لمحاكمة مجرمي الحرب من النازيين ومحاكمات طوكيو لجرائم الحرب المرتكبة في الحرب العالمي الثانية ومحاكمات قادة صرب البوسنة على جرائم الإبادة الجماعية.