السبت، 4 أكتوبر 2025

( غزة والمجاعة في زمن الجاهلية )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1447/2/1

 الأصل في حال العرب في العصر الجاهلي أنهم كانوا يعيشون في فقر مدقع وشظف العيش بسبب طبيعة البيئة الصحراوية القاحلة ولذا لم يكن الجوع عيبا وإن كان بعضهم قد يتفاخر ليس فقط لأنه يأكل اللحم، بل لأنه يأكل الخبز. تنقل كتب الأدب العربي أن بني العنبر وهم قبيلة من تميم كانوا في الزمن الجاهلي يفتخرون بسيدهم عبد الله بن حبيب العنبري لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن بل كان يأكل الخبز، فكانوا إذا افتخروا قالوا: منّا آكل الخبز !!. وبسبب انتشار ظاهرة الكرم في المجتمعات العربية القديمة كان من الأمور المعيبة أن تشبع وجارك جائع لدرجة أن الأصمعي قال بأن (أهجى بيت للعرب) هو قول الأعشى في هجاء علقمة بن علاثة العامري:

تَبيتونَ في المَشتى مِلاءً بُطونُكُم            وجاراتكمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا

يُراقِبنَ مِن جوعٍ خِلالَ مَخافَةٍ               نُجومَ السَماءِ العاتِماتِ الغَوامِصا

 ومعنى الأبيات أن الأعشى يهجو علقمة عندما وصفه وقومه بأنهم يبيتون ليالي الشتاء في الدفء وبطونهم ممتلئة من طعام بينما جاراتهم من النساء يبتن ضامرات البطون ونحيفات من الجوع وليس لديهن ما يفعلنه في إلا مراقبة نجوم السماء. ولم تنته القصة عند هذا الأمر، بل يذكر المؤرخ والشاعر ابن بسام في كتابه (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) أن علقمة العامري عندما بلغته أبيات الأعشى بكى وقال: أنحن نفعل ذلك بجاراتنا.

وسبحان الله كم تغير حال العرب من الجاهلية الأولى إلى جاهلية القرن الحادي والعشرين فالعرب الأقحاح الأوائل كانت مروءتهم ونخوتهم لا تقبل أن يشبع العربي وجاره جائع وأن هذا قادح لمرؤته ونخوته بينما عرب اليوم البعض منهم لا يخجل من أن يشارك في جريمة تجويع جاره في العروبة الإسلام كما يحصل الآن في كارثة ومأساة غزة العزة فرج الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته عن أهلها.

العربي الأصيل في زمن الجاهلية كان يعتبر من أشد الإهانة والهجاء المقذع في حقه أن يوصف بأنه يرضى أن يشبع وجيرانه جياع وليس هذا فحسب بل وصل الأمر إلى عدم قبوع التجويع القصري في حق البهائم والحيوانات. فالعرب القدماء حفظت ذاكرتهم الجمعية المسبة الشنيعة لامرأة من العرب تدعى حَوملَ أجاعت كلبتها بكل خسة ولهذا أصبح من أمثال العرب قولهم (أجوع من كَلبةِ حَوملَ). وفي كتاب مجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني نجد قصة هذا المثل وكيف أن تلك المرأة كانت تُجِيعُ كلبةً لها فكانت تَرْبطها بالليل للحراسة وتطردها بالنهار وتقول: الْتَمِسِي لنفسك لا مُلْتَمَسَ لك، فلما طال ذلك عليها زعموا بأن الكلبة أكلت ذيلها من الجوع. ونظرا للانتشار هذه القصة في سوء الرعاية للضعفاء وتجويعهم وظفها الشاعر الشيعي الكُمَيت في هجاء بني أمية وأن رِعايتهم للأمة كرعاية حَوْمَل لكلبتها ولهذا قال يهجوهم وهو هجاء ساري المفعول والصلاحية حتى الآن لمن يَسمن من أهل السلطة وشعبه أو جاره هزيل:

فكيف ومن أنْى وإذ نحن خلفةً                 فريقان شتى تُسمنون ونَهزلُ

فتلك وُلاة السوءِ قد طال ملكُهُم                فحتّام م حتّام العناءُ المُطولُ

كما رضيَتْ بخلاً وسوءَ رِعاية               لكَلْبتها في سالِفِ الدهر حَوْمَلُ

نبَاحاً إذا ما الليلُ أَظْلَمَ دونَهَا                   وغنما وتَجْوِيعاً، ضلاَلٌ مضللُ

وما ضرب الأمثال في الجور قبلنا           لأجور من حكامنا المتمثلُ

 حتى في الجاهلية: ليس من من بات شبعان وجاره جائع

في الزمن الجاهلي وبالرغم من انتشار ظاهرة الجوع إلا أننا نجد أن العربي الأصيل لا يكتفي بأن يتألم ويتأثر من أن يبيت جاره بالقرب منه وهو جائع وضامر من المسغبة، بل نجد ذلك العربي الأصيل يبادر ويسعى لتخفيف آثار المجاعة. تذكر كتب التاريخ أنه كان للعرب في زمن المجاعة عادة غريبة تسمى (الاعتفار) وهي أن يقوم الرجل بأخذ أهل بيته زمن الفقر المدقع والجوع ويخرج بهم للصحراء لمكان يسمى الخباء ويمكثوا فيه حتى يموتوا من الجوع في صمت وعزله. وهذا ما قام به أفراد من بني مخزوم من عشائر قريش وهم من أعرق العرب نسبا ولذا عندما عرف العربي الأصيل (عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب) بما وصل به حال بعض أفراد بني مخزوم من الجوع والفقر وهم من أشراف قريش وكيف أنه سوف يعلم بحالهم ويشاهدهم بقية العرب في زمن الحج للبيت العتيق. وهنا أستشعر عمرو بن عبد مناف الفضيحة الكبيرة والخزي بأن يجوع أفراد من قبيلة قريش بالإضافة لاستشعاره لضرورة مد يد المساعدة للمحتاج ومن ضاقت به سبل العيش الكريم ولهذا جمع فقراء بني مخزوم وأشراف قريش وخاطبهم بشأن عادة (الاعتفار) السيئة والمسيئة وقال لهم (أنتم أحدثتم عادة تُذَلون بها بين العرب). وهنا أخذ عمرو بن مناف (جد الرسول صلى الله عليه وسلم) زمام المبادرة وقاده تفكيره الإيجابي لحل ظاهرة المجاعة ومشكلة الفقر في مكة إلى أن أقترح على أثرياء وتجار مكة أن يتقاسموا أموالهم بشكل طوعي مع فقرائهم كنوع من التكافل الاجتماعي داخل قبيلة قريش.

وبهذا تحولت تلك العادة الجاهلية السيئة (الاعتفار) إلى عادة سامية وظاهرة اجتماعية راقية في المجتمع المكي وهي التي تعرف بـ (المخالطة في الأموال) وهي أن يمنح الرجل الغني جزء وقسم من ماله لرجل فقير من عشيرته ويبدو أن هذه الظاهرة الإيجابية انتشرت في الجزيرة العربية فتوجد العديد من قصائد المديح التي يرد فيها ذكر مخالطة الرجل الممدوح ماله مع الفقراء. وهذا يذكرنا بالقصيدة بالغة الجمال التي أبدعها شاعر الرسول حسان بن ثابت في الطور الأول من حياته أي في العصر الجاهلي عندما مدح (أولاد جفنة) وهو أحد ملوك الغساسنة يدعى جفنة بن عمرو. وبحكم أننا في سياق ومساق الحديث عن (المجاعة في زمن الجاهلية) لعل من الملائم أن نعلم أن (جفنة) بن عمرو حصل على اسمه هذا لأنه ورث جفنة أبية وهي قدر ضخم كان يطبخ فيها الطعام الكثير للفقراء والغرباء. وهذه أبيات حسان بن ثابت المشهورة والتي ترد فيها الإشارة للعادة العربية الجديدة في (المخالطة في الأموال):

لله دَرُّ عِصَابَة ٍ نادَمْتُهُمْ                     يوْماً بجِلّقَ في الزّمانِ الأوَّلِ

الخالِطُونَ فَقِيرَهمْ بِغنيّهِمْ                   والمُنْعِمُونَ على الضّعيفِ المُرْمِلِ

أوْلادُ جَفْنَة َ حوْلَ قبرِ أبِيهِمُ                قبْرِ ابْنِ مارِيَة َ الكريمِ المُفضِلِ

بِيضُ الوُجُوهِ، كريمَة ٌ أحسابُهُمْ           شُمُّ الأنوفِ من الطّرَازِ الأوّلِ

 وبما أننا وصلنا إلى أطراف أرض الشام وأرض الغساسنة والتي تقع قريب منها مدينة غزة أرض العزة وهنا نكمل سرد أخبار المجاعة في الزمن الجاهلي ونعود بالحديث إلى ذكر جدر الرسول ذلك الرجل الأعرابي الأصيل (عمرو بن عبد مناف). فبالإضافة إلى أنه حاول القضاء على المجاعة في قريش من خلال نشر التكافل المالي بينهم نجده كذلك يرشد أهل مكة لفكرة التجارة مع الشام واليمن ورحلة الشتاء والصيف وهذا من شأنه أن يحقق الرخاء الاقتصادي لقريش. ومع ذلك تذكر كتب التاريخ أنه في سنة من السنوات أصابت مكة مجاعة مهلكة وقد علم بها عمرو بن عبد مناف وهو بأرض فلسطين وقد كانت مدينة غزة في طريق رحلاته وخط قوافل تجارته إلى الشام ولذا من فلسطين ومرورا بمدينة غزة جلب عمرو بن عبد مناف معه الدقيق إلى مكة. ونجد في كتاب تاريخ الطبري أن قريش أصابتهم لزبة وقحط وأن عمر بن عبد مناف رحل إلى فلسطين فاشترى منها الدقيق فقدم به مكة فأمر به فخبز له ونحر جزورا ثم اتخذ لقومة مرقة ثريد بذلك الخبز. وفي أول المقال سبق وأن ذكرنا أن الخبز كان نادر في جزيرة العرب ومع ذلك بلغ من كرم ومروءة عمرو بن عبد مناف أنه كان يفتت الخبز ويهشمه ويخلطه مع المرق لكي يصنع الثريد في زمن مجاعة مكة ومن تلك اللحظة أصبح عمرو بن عبد مناف يعرف بلقبه الجديد (هاشم) أي مفتت ومكسر الخبز ومطعم الجياع. ولهذا استحق بجدارة ذلك الرجل الجاهلي والعربي الأصيل المديح المتكرر من شعراء عصره لمرؤته وإغاثته للملهوف والمنكوب ومن ذلك قول الشاعر ابن الزعبري:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه        ورجال مكة مسنتون عجاف

هُوَ سنّ الرحلتين كليهمَا               سفر الشتَاء ورحلة الأصياف

 وبحكم أن هاشم بن عبد مناف كان هو أول من حمل الميرة والطعام إلى مكة محملة على الإبل لذا استحق المديح من أكثر من شاعر ومنهم وهب بن عبد قصي فمدحه بأنه جلب من أرض الشام الأكياس الضخمة الممتلئة (الغرائز متأقات) بالبر والقمح (النفيض) النظيف من الغبار وانه خلط الخبز باللحم (الغريض) الطري كي يصنع الثريد لأهل مكة الجياع:

تحمل هاشم ما ضاق عنه           وأعيا أن يقوم به ابن بيض
أتاهم بالغرائر متأقات               من أرض الشام بالبر النفيض
فأوسع أهل مكة من هشيم          وشاب الخبز باللحم الغريض

 يا عرب .. أنأكل الطعام وأهل غزة هاشم هلكى

في العصور المظلة لأهل مكة وجد رجل كريم كان ( يَلُتُّ ) سَويق الحاج بمعنى أن يخلط السويق (وهو دقيق القمح) بالعسل ويقدمه للحجاج ونظرا لهذا الفعل الجميل من هذا الرجل العربي النبيل بالغ أهل قريش في تقديره وتكريمه ولهذا لما مات صنعوا له تمثالا ثم عبدوه ومن هنا جاءت قصة صنم اللّات. وبسبب إطعام الطعام الفاخر مثل الثريد لأهل مكة والحجاج نال كذلك هاشم بن عبد مناف مكانه سامقة في المجتمع القرشي وإن لم يصنعوا له تمثالا ولم يقدسوه، ولكنهم رفعوه لأعلى مراتب الشرف في قريش عندما جمعوا له منصب (السقاية والرفادة). ومع ذلك للأسف بسبب العداء الديني الصارخ بين وثنية صناديد قريش وبين وحدانية أتباع دين الإسلام قامت قريش بمحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والعشيرة التي ينتمي لها.

وهنا تبدأ المفارقة الكبرى فهذا هاشم بن عبد مناف جد الرسول عليه الصلاة والسلام والذي كان رمز الكرم والنخوة والمروءة والذي أنقذ أهل مكة زمن المجاعة والذي أرشدهم لعادة التكافل الاجتماعي بينهم ومواساة الفقير والجائع، نجد أن قريش بسبب العداء الديني يقومون وبشكل متعمد بارتكاب الخطيئة الكبرى وهي التجويع المتعمد لأحفاد (هاشم) الذي كان يهشم الخبز ويخلطه باللحم ويصنع لهم الثريد. وهذا يقودنا للحديث لمجاعة وحصار شعب بني عامر. والقصة معروفة وهي أن كبار أهل الشرك من قريش اتفقوا على مقاطعة عشيرة الرسول صلى الله وسلم (بني هاشم وبني عبد المطلب) فلا يبيعون لهم ولا يشترون منهم ولا يخالطونهم أو يزوجهم وكتبوا بذلك وثيقة أو صحيفة علقوها في داخل الكعبة. ولهذا اضطر أحفاد هاشم بن عبد مناف مسلمهم وكافرهم أن يجتمعوا في شعب لهم هو شعب بني عامر حيث تم محاصرتهم وتجويعهم لمدة ثلاث سنوات متواصلة وقد اشتدت بهم المجاعة لدرجة أنهم أكلوا أوراق الشجر وجلود الحيوانات.

وكما في المثل الشائع (لو خليت خربت) لذا لم يكن من المستغرب أن يوجد رجال نبلاء من أهل قريش لا يرضون أن يتم تجويع الرجال والنساء والأطفال من (جيرانهم) وإن كانوا خارجين عن دينهم. وكما كان هاشم بن عبد مناف لديه روح المبادرة في تخفيف أثر المجاعة عن قريش نجد أن الرجل النبيل هشام بن عمرو (وهو في زمن حصار الشعب ومجاعة المسلمين ما زال على الكفر) يسعى في التخفيف عن جياع المسلمين بأن يهرب لهم الطعام في مخالفة صريحة لصناديد قريش. ويذكر المؤرخ ابن كثير أن هشام بن عمرو كان يأتي بالبعير ليلا وقد أوقره طعاما أي حمله بالطعام الكثير حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطام البعير وضرب على جنبيه فدخل الشعب عليهم ثم يكرر هذا الأمر في ليلة أخرى، ولكن هذه المرة يكون البعير محملا بالبِزّ والملابس. وتذكر كتب التاريخ أن نبيلا قرشي آخر وبالرغم من أنه كان على الكفر وهو زهير بن أبي أمية إلا أن النخوة والمروة العربية دفعته أن يطلق عبارته الشهيرة والمؤثرة (يا أهل مكة أنأكل الطعام وبنو هاشم هلكى .. والله لا أقعد حتى تُشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة). والباقي معروف من أنه تعاهد خمسة من نبلاء قريش حتى وهم على الكفر على نقض الصحيفة وإنهاء المحاصرة والتجويع للمسلمين فالعربي الأصيل لا يقبل أن يتم تجويع جاره العربي. الفرض القصري للمجاعة على الأطفال والنساء فعل دنيء وأمر حقير، ولكن هذا لا يعني ألا يقاتل العربي المخالف له في الدين أو السياسة فالحرب قد يكون لها مسوغاتها أم تجويع الأبرياء فتلك قصة مختلفة. وفي هذا السياق نفهم لماذا ساهم زمعة بن الأسود والعاص بن هشام في نقض الصحيفة وإنهاء مجاعة بني هاشم في الشعب، ولكن في المقابل قد شاركا في القتال مع كفار قريش ضد المسلمين في غزوة بدر.

على كل حال قبل أن نختم نود أن نذكر أن هاشم بن عبد مناف جد الرسول الكريم بعد أن أنقذ أهل مكة من المجاعة الأولى استمر بعد ذلك في رحلاته التجارية للشام وكان طريق تجارته يمر دائما على مدينة (غزة) حتى جاءه الأجل وتوفي فيها وقبره موجودا بها حتى الآن ولهذا من المشهور أن غزة من أسمائها (غزة هاشم). وكما كانت المأساة في صدر الإسلام أن أحفاد كريم العرب هاشم بن عبد مناف تم بشكل متعمد محاصرتهم وتجويعهم نجد في الوقت الحالي أن المدينة الوحيدة المرتبط اسمها بكريم العرب هاشم بن عبد مناف تحصل فيها حاليا الجريمة الشنيعة والأثيمة بحصار وتجويع الملايين وهم قرب قبر النبيل العربي الذي كان يخلط الخبز باللحم. وبعد أن استعراضنا في هذا المقال الطويل أخبار المجاعة في العصر الجاهلي وصور النخوة والمروءة التي قام بها نبلاء العرب الأقحاح لتخفيف من تلك المجاعات نود في الختام أن نذكر ببعض أخلاق وطباع وأمثال العرب في الجاهلية والتي تقول (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما). ولهذا من غرائب تغير الأحوال عبر الزمن أن نطلب في هذه الأوقات العصيبة التي يمر بها إخوتنا الجياع في غزة، نطلب أن نعود لبعض أخلاق الجاهلية فيما يخص نجدة الملهوف وفك أسر المحاصر المكفوف ونعيدها جذعه كما قال الجاهلي الأول (جندب بن العنبر):

يا أيها المرءُ الكريمُ المشكوم              انْصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوم


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق