د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1447/3/7 الموافق 30 أغسطس 2025
المصادفات والموافقات في تاريخ ولادة أو تاريخ وفاة بعض الشخصيات المشهورة قد يكون لها أحيانا جانب غريب وطريف فمثلا في التاريخ الإسلام حصل أنه في نفس اليوم الذي توفي فيه الخليفة العادل (عمر) بن الخطاب وقعت ولادة الشاعر الماجن (عمر) بن أبي ربيعة ولهذا لاحقا قال بعض الراصدين والمؤرخين عن تلك اللحظة العجيبة (أيّ حقّ رُفع وأيّ باطل وُضع). وبحكم أننا في اليوم السبت الموافق 30 أغسطس لذا من الملائم أن نشير لتوافق ومصادفة أخرى غريبة وقعت في دنيا العلوم حيث ولد في هذا اليوم عالم فيزيائي كبير وتوفي كذلك في هذا اليوم عالم فيزيائي بارز.
قبل عدة أسابيع وأثناء زيارة مدينة لندن حرصت بشكل كبير أن أزور كنيسة وستمنستر وذلك لمشاهدة قبر إسحاق نيوتن وقبر شكسبير وكذلك زيارة ما يسمى (ركن العلماء) وكذلك (ركن الأدباء) وذلك لأن أبرز الشخصيات السياسية والفكرية والعلمية والأدبية في الإمبراطورية الإنجليزية عبر القرون كان يتم تكريمها بدفتها في داخل كنيسة وستمنستر ولهذا تتاح الفرصة لمشاهدة قبور أشهر الشخصيات في التاريخ الحديث (هذا بالإضافة لزيارة ما يسمى مقبرة العظماء في باريس المعروفة باسم البانثيون). وفي ركن العلماء من كنيسة وستمنستر وتماما أمام قبر إسحاق نيوتن لفت نظري وجود بلاطتين متجاورتين لاثنين من أشهر علماء الفيزياء الذين يعرف اسمائهم طلاب المدارس وهما: السير جوزيف جون طمسون مكتشف الإلكترون والسير إرنست رذرفورد مكتشف تركيب الذرة. وبالإضافة لتقارب مرقد وقبر هذين العالمين البارزين فهما كذلك كانا متقاربين نسبيا في مجال اكتشافاتهما العلمية فأحدهما يمكن أن يوصف بأنه (أبو النظرية الذرية) في حين أن الآخر يمكن أن يعطى لقب (أبو الفيزياء النووية) والغريب في الأمر أنه في فترة من مسيرتهما المهنية والبحثية كانا يعملان في نفس المختبر العلمي وهو مختبر كافنديش بقسم الفيزياء في جامعة كيمبردج العريقة.
صحيح أن ج. ج. طمسون من ناحية العمر أكبر من راذرفورد وهو رسميا كان رئيسة في العمل في مختبر كافنديش ومع ذلك حصولهما على جائزة نوبل كان في سنوات متقاربة نسبيا فجوزيف طمسن حصل عليها في عام 1906م في مجال الفيزياء. بينما رذرفورد حصل عليها في عام 1908م في مجال الكيمياء بالرغم من أنه كان غير راض لتحويله من فيزيائي إلى كيمياء لأنه هو القائل (العلم كله إما فيزياء أو جمع طوابع). ومن صور التقارب الإضافية بين طمسون ورذرفورد أنهما تعاونا أثناء عملهما في جامعة كيمبردج في استقطاب أكثر العقول العلمية عبقرية وإبداعا ولهذا كونا (مدرسة) فيزيائية مميزة يكفي أن نقول إن حوالي ثمانية من الباحثين والدارسين معهم في مختبر كانفنديش حصلوا على جائزة نوبل أهمهم على الإطلاق عملاق علم ميكانيكا الكم الفيزيائي الدنماركي نيلز بور. وبالمناسبة وعبر السنوات منذ عام 1904م وحتى عام 2019م حصل 31 عالما فيزيائيا ممن عملوا في مختبر كافنديش بجامعة كيمبردج على جوائز نوبل. بل تجدر الإشارة والتنويه إلى أنه في سنة واحدة فقط تمكن بعض التلاميذ والباحثين مع ج. ج. طمسون وأرنست رذرفورد من إنتاج ثلاثة أبحاث علمية حققت لهم جوائز نوبل وهي الحادثة الشهيرة عند الفيزيائيين بسنة العجائب في مختبر كافنديش وهي سنة 1932 الميلادية وسوف نعود لهذا السنة لاحقا في نهاية المقال.
وبعد هذه المقدمة المطولة لأوجه التشابه والتناظر بين المسيرة العلمية والمهنية لكل من عمالقة علم الفيزياء الإنجليزي جوزيف طمسون وابن مزارع البطاطا النيوزلندي رذرفورد أود أن أشير أنه من غرائب المصادفات والموافقات أن تاريخ ولادة رذرفورد كان في يوم 30 أغسطس (عام 1871م) في حين أن تاريخ وفاة طمسون كان في يوم 30 أغسطس (1940م).
ومن أشهر المصادفات والموافقات في تاريخ الولادة وتاريخ الوفاة لأشهر العلماء في العصر الحديث إلى عمالقة العلوم جاليليو جاليلي وإسحاق نيوتن حيث كانت ولادة أحدهما ووفاة الآخر في نفس الشهر وهو شهر يناير. ففي الواقع عالم الفيزياء الإنجليزي نيوتن ولد في يوم 4 يناير من عام 1643م إي تقريبا خلال سنة من تاريخ وفاة العالم الإيطالي جاليليو الذي توفي في يوم 8 يناير من عام 1642 ميلادي. والأمر الأغرب من ذلك أن تاريخ وفاة جاليليو (8 يناير من عام 1642م) سوف يتوافق مع تاريخ ولادة أحد أشهر علماء الفيزياء المعاصرين وهو الإنجليزي ستيفن هوكينج الذي يعامل كأحد نجوم الإعلام الحديث بسبب عبقرياته وبسبب شلله التام وبقي أن نقول إنه ولد في يوم يناير من عام 1942م بمعنى أنه ولد بالضبط بعد ثلاثة قرون من وفاة جاليليو. ولا تنتهي هنا غرائب المصادفات والموافقات في روزنامة العلم والعلماء وذلك لأنه عندما توفي ستيفن هوكنج في يوم 14 مارس من عام 2018م انتبه البعض بأن ذلك التاريخ المميز في تاريخ العلوم (14 مارس) هو نفس اليوم الذي ولد فيه أسطورة العلم الحديث عالم ألبرت أينشتاين الذي كانت ولادته في ذلك التوقيت من عام 1879 ميلادي. وقبل أن نغادر هذا التوافق بين ألبرت أينشتاين وبين ستيفن هوكينج لعل من الملائم أن نشير كذلك إلى أن عمر كل منها عند الوفاة كان 76 سنة والأهم من ذلك أن تاريخ (14 مارس) كما هو معلوم يتوافق مع تاريخ مهم في علم الرياضيات حيث إنه (اليوم العالم للثابت باي International Pi Day). وبما أن قيمة الثابت الرياضي باي ( ) هي بعد التقريب (3.14) لهذا كان من الملائم اختيار اليوم 14 من الشهر 3 لكي يحتفل فيه بأهمية علم الرياضيات وكذلك الاحتفال بمشاهير العلماء مثل أينشتاين الذي ولد في هذا اليوم.
سنة العجائب في روزنامة تاريخ العلوم
غرائب المصادفات وعجائب الموافقات في تاريخ العلم والعلماء لا تقف أمثلتها ونماذجها عند تزامن توقيت ولادة أو وفاة مشاهير العلوم في يوم معين أو شهر محدد (على سبيل المثال 29 من علماء نوبل كانت ولادتهم في شهر يناير بينما توفي في شهر فبراير 11 من علماء نوبل). بل نجد كذلك أن بعض السنوات في تاريخ العلم تحمل تسميه خاصة هي باللغة اللاتينية: Annus Mirabilis والتي تعني حرفيا (سنة العجائب) وذلك لأنه حصل فيها طفرة معرفية زاخرة واكتشافات علمية باهرة. سبقت الإشارة إلى أن سنة 1932م تسمى في تاريخ علم الفيزياء بسنة العجائب في مختبر كافنديش وذلك لأن بعض تلاميذ طمسون ورذرفورد في جامعة كمبريدج توصلوا لثلاثة من الاكتشافات العلمية المميزة التي استحق كل واحد منها بشكل مستقل جائزة نوبل في الفيزياء. والإخوة الكرام من تخصص الفيزياء والكيمياء يدركون أهمية هذه الاكتشافات المحورية في تاريخ العلم: ففي عام 1932م اكتشف عالم الفيزياء الإنجليزي السير جيمس تشادويك جسيم النيترون بينما أجرى العالم الإنجليزي جون كوككروفت وزميلة الإيرلندي أرنست والتون أول تجربة لمحاولة الانشطار الذري عن طريق استخدام الجسيمات الذرية المسرعة اصطناعيا. كما قام في نفس تلك السنة عالم الفيزياء الإنجليزي باتريك بلاكيت باستخدام آلة الغرفة السحابية لتصوير التصادم النووي والتي أكد بها وجود جسيم البزيترون وهو الجسيم الأولي المعاكس للإلكتروني الذي اكتشفه في عام 1897م الأب الروحي لمختبر كافنديش الفيزيائي ج. ج. طمسون.
وغير بعيد عن موقع مختبر كافنديش في قسم الفيزياء بجامعة كيمبردج تقع كلية (ترينيتي) وهي أعرق وأشهر كلية في جميع الجامعات البريطانية وربما الجامعات العالمية كلها. وما يهمنا هنا أن الشاب إسحاق نيوتن قبل أن يكمل دراسته الجامعية في كلية ترينيتي بجامعة كيمبردج حصل انتشار لوباء الطاعون في الجزيرة البريطانية وذلك بداية عام 1665م مما أجبر الجامعة على إغلاق أبوابها. وهنا أضطر الشاب نيوتن للعودة إلى منزل عائلته في مدينة وولثورب الصغيرة وبهذا سوف تبدأ أحداث ما تسمى (سنة العجائب لنيوتن). في واقع وفي سنة نيوتن العجيبة وفي خلوته الريفية الإجبارية تمكن الشاب العبقري وهو في سن 23 أن يتوصل لبعض أعظم الاكتشافات في تاريخ العلم وهي: اكتشاف قانون الجاذبية وتطوير علم التكامل والتفاضل calculus في الرياضيات. بالإضافة لبعض الاكتشافات المميزة الأخرى في مجال علم البصريات ونظرية الألوان هذا فضلا عن إنجاز رياضي آخر يتمثل في إثبات نظرية ذات الحدين المهمة في علم الرياضيات.
ومن عبقري العلوم الشاب نيوتن ذي 23 ربيعا إلى عبقري العلوم في العصر الحديث الشاب ذي 26 عاما وهو ألبرت أينشتاين والذي كان هو الآخر له سنته العجيبة التي تفجرت فيها عبقريته العلمية بشكل عجيب. سنة العجائب لأينشتاين (البعض يسميها سنة العجائب للأوراق العلمية Annus Mirabilis Papers) كانت سنة 1905م وهي السنة التي نشر فيها الشاب أينشتاين أربعة أبحاث علمية على درجة عالية من الأهمية في تأسيس العلوم الفيزيائية الحديثة. هذه الأبحاث التي نشرها أينشتاين في مجلة العلمية الألمانية العريقة (حوليات الفيزياء Annalen der Physik) أحدثت ثورة علمية وقفزة في فهم العلماء للمفاهيم الأساسية للكتلة والطاقة والمكان والزمان. ولهذا لا غرابة أن هذه الأوراق العلمية التي نشرها الشاب أينشتاين ضمنت له الورقة الأولى منها جائزة نوبل في الفيزياء بعد ذلك بسنوات وهي الورقة التي تناقش تفسير ظاهرة التأثير الكهروضوئي. بينما الورقة الثانية طرحت فكرة النظرية النسبية الخاصة وهذا ما خلد اسم أينشتاين كأحد أبرز عباقرة العلوم في جميع العصور بينما الورقة العلمية الثالثة وردت فيها أشهر معادلة في تاريخ العلوم: الطاقة تساوي حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء (E = mc2). بينما الورقة العلمية الرابعة ناقشت ظاهرة فيزيائية تسمى الحركة البراونية وبالتالي كانت تأكيدا على حقيقة وجود الذرات التي كان بعض علماء الفيزياء يشككون في الوجود الحقيقي لها.
ونظرا لأن عبقرية أينشتاين في سنة العجائب تلك غيرت بشكل جذري طبيعة علوم الفيزياء الحديثة لهذا كان من الملائم احتفال علماء الفيزياء في زمننا المعاصر بمرور قرن من الزمان على سنة أينشتاين العجيبة عام 1905م باختيار عام 2005م لكي يتوافق مع (السنة الدولية للفيزياء) والتي سميت كذلك (سنة أينشتاين).

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق