د/ أحمد بن حامد الغامدي
السبت 1477/3/21 الموافق 13 سبتمبر
في زمن الهيمنة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة كثيرا ما نسمع من الجهات والأشخاص المعارضين لسيطرة العم سام عبارات من مثل (العولمة) أو (الأمركة) وأحيانا في حالات نادرة مصطلح (استعمار الكوكا). في اللغة الإنجليزية مفردة الاستعمار هي colonization ولهذا الكلمة القريبة لها في النطق وهي Cocacolonization وهي طبعا عبارة من كلمتين إحداهما هي Coca ويقصد بها مشروب الكوكاكولا والكلمة الثانية هي مفردة الاستعمار سالفة الذكر. والمقصود أن انتشار السلع الأمريكية ممثلة في مشروب الكوكاكولا (في فترة ما كانت لوحة الدعاية لذلك المشروب موجودة في كل مكان) أصبحت رمزا للهيمنة الأميركية المؤثرة على عادات وثقافات وسياسات الشعوب الأخرى. والجدير بالذكر أنه في القرون السابقة عندما كانت الإمبراطورية البريطانية لا تغيب عنها الشمس كان كذلك للإنجليز دور مماثل في تحديد نوع المشروب الذي تتعاطه بقية شعوب العالم. والغريب في الأمر أنه في منتصف القرن السابع عشر وفي حدود عام 1650م وصلت إلى العاصمة البريطانية لندن ثلاثة مشروبات ساخنة هي القهوة والشاي والشوكولا ومن تلك اللحظة انتشرت بعد ذلك في مختلف أصقاع الأرض بسبب النفوذ البريطاني والعولمة الإنجليزية.
في منتصف القرن السابع عشر كان التاجر البريطاني دانيال إدواردز يقوم باستيراد بعض البضائع التركية ومن ضمنها القهوة ولهذا في عام 1650م تم افتتاح أول مقهى في بريطانيا في مدينة أكسفورد وحمل اسم (المقهى الكبير The Grand Cafe) والذي بالمناسبة ما زال موجودا حتى اليوم. وفي حين كان أول مقهى في مدينة لندن يقدم مشروب القهوة قد تم افتتاحه في عام 1652م نجد في المقابل أن أول مقهى بريطاني يقدم مشروب الشاي هو ذلك المقهى الذي افتتح عام 1657م في وسط المنطقة المالية لمدينة لندن. وكما يذكر كاتب اليوميات الإنجليزي توماس روجز أنه ما إن حلت سنة 1659 حتى أصبحت المقاهي في كل شارع من شوارع مدينة لندن تقدم وتبيع ثلاثة مشروبات ساخنة هي: القهوة والشوكولا والشاهي. سبق وأن أشرنا في مقال سابق إلى مقولة الأديب الأرجنتيني خورخي بورخيس (كرة القدم هي واحدة من أكبر جرائم إنجلترا) ويعني بذلك أن النفوذ السياسي والثقافي للإمبراطورة البريطانية ساهم ذلك في انتشار وشيوع شعبية كرة القدم في مختلف دول العالم. وعلى نفس النسق نجد أن إعجاب الإنجليز بتناول هذه المشروبات الساخنة الثلاثة ودخول ذلك في صميم الثقافة والعادات البريطانية ساهم ذلك في نقل هذه العادات إلى المستعمرات البريطانية ومن هنا انتشرت هذه المشروبات لدى مختلف الشعوب البشرية.
أود أن أقول هنا إن المحفز على موضوع مقال هذا الأسبوع هو أن تاريخ اليوم السبت (13 سبتمبر) يتوافق مع اليوم العالمي للشوكولاتة وبحكم أن تلك المادة الغذائية السمراء المحفزة للسعادة استخدمت في أغلب تاريخها الطويل على هيئة مشروب ساخن وليس على هيئة قطع حلوى باردة لهذا ربما كان من الملائم مقارنتها مع مشروبات السعادة الأخرى كالقهوة والشاهي. أمر آخر أود أن أذكره أنه فيما سبق وبمناسبة اليوم العالمي للشاهي كتبت مقالا حمل عنوان (الشاي في السياسة والحرب) بينما بمناسبة انطلاق الفعاليات الثقافية لـ (عام القهوة السعودية 2022) كتبت مقال (القهوة في سياق ثقافي) ولهذا جميل أن يتوافق تاريخ نشر مقال هذا السبت مع اليوم العالم للشوكولاتة وهذا يفتح مجالا لإعادة الحديث عن مشروبات السعادة الثلاثة.
فيما سبق أشرنا إلى أن هذه المشروبات الساخنة الثلاث ظهرت في تواريخ متقاربة في مقاهي مدينة لندن ولهذا يطرح سؤال دائم التكرار وهو لماذا الشعب الإنجليزي يعشق مشروب الشاي أكثر بكثير من تناول فناجين القهوة أو أكواب مشروب الكاكاو الساخن. صحيح أنه من الناحية التاريخية غالبا ما يتم تعليل شيوع عادة تناول الشاي في المجتمع البريطاني إلى النشاط التجاري الذكي لشركة الهند الشرقية التي كانت تحتكر استيراد الشاي إلى الإمبراطورية الإنجليزية وربط عادة تناول الشاي مع استخدام السكر على خلاف مشروب الشاي الصيني الأصلي الذي لا يضاف له السكر. في القرن السابع عشر كانت السلع الاستهلاكية مثل الشاي والسكر غالية الثمن جدا ويتم شراؤها بالذهب وهذا ما قاد إلى حرب الأفيون مع الصين، ولكن هذه قصة أخرى ليس مكانها هنا. ولهذا كان من أساليب التباهي والتفاخر في المجتمع البريطاني الحرص على تناول الشاي الأسود المحلى بالسكر (عادة إضافة الحليب جاءت في وقت متأخر) في فترة ما بعد الظهيرة وهذا ما زاد في انتشار شعبية تناول الشاي مقارنة بمشروب القهوة فضلا عن مشروب الشوكولا الساخنة.
صحيح أن هذا هو التفسير الاقتصادي والسلوكي هو توضيح صائب لسبب شعبية الشاي الطاغية ومع ذلك ومن باب المداعبة والملاطفة الثقافية خفيفة الظل لعلنا نشير للتفسير الآخر والتعليل الطريف الذي يسوقه بعض المؤرخين لتعليل عشق الشعب الإنجليزي لطقوس شاي فترة ما بعد الظهيرة. يقولون إن السبب في ذلك أنه في عام 1662م تزوج الملك الشاب الإنجليزي تشارلز الثاني بأميرة برتغالية تدعى كاثرين هي ابنة ملك البرتغال جون الرابع وبحكم أن الإمبراطورية البرتغالية في ذلك الزمن كان لها تجارة وثقيه مع الصين منذ سنين طويلة لهذا عرف الشعب البرتغالي مشروب الشاي قبل الإنجليز. وتقول القصة إن الأميرة الشابة كاثرين عندما وصلت إلى بريطانيا حملت معها من ضمن أغراض جهاز عرسها صندوق من أوراق الشاي السوداء وبحكم فضول المجتمع المخملي الإنجليزي للتعرف على طباع وعادات هذه الملكة القادمة من البرتغال أعجبت نساء علية القوم في لندن بعادة شرب الشاي التي أدخلتها الملكة كاثرين. ولهذا وفق المقولة المشهورة: الناس على دين ملوكهم (أو على دين ملكاتهم) يمكن أن نفسر ليس فقط سبب شيوع تناول شراب الشاي في بريطانيا، ولكن كذلك سبب شيوع تناول مشروب الشوكولا الساخن في فرنسا !!.
في الواقع أول شعوب العالم معرفة بشراب منقوع حبوب الكاكاو هم شعوب حضارة الأزتيك بأمريكا الوسطى، ولكن (شراب الآلهة) ذاك كما يطلق عليه الأزتيك منذ مئات السنين كان شرابا مقدسا علما بأن شراب الكاكاو (البارد) كان يحضر بخلطه بالفلفل الحار وبعض التوابل وطبعا لم يكن طعم هذا الشراب المقدس مستساغ المذاق. وعندنا وصل الإسبان في بداية القرن السادس عشر إلى أمريكا الوسطى واحتلوا أرض المكسيك نقلوا ثقافة تناول شراب الكاكاو إلى الإمبراطورية الإسبانية، ولكن مع بعض الإضافات الهامة. ومن ذلك مثلا أنه بهدف تخفيف المرارة الشنيعة لشراب الكوكا أضاف الرهبان الإسبان العسل والحليب والسكر لمشروب الكاكاو والذي من ذلك الوقت أصبح يعرف أكثر بشراب الشوكولا والذي يفضل تناوله ساخنا على خلاف شراب الكاكاو البارد لدى شعب الأزتيك. ويقال إن الإسبان احتفظوا لمدة قرن من الزمان بسر وصفة مشروب الشوكولا حتى عام 1615م عندما حصل زواج ملكي بين الأميرة الإسبانية آن Anne وهي الأبنة الكبرى للملك الإسباني فيليب الثالث والتي تزوجت من الملك الفرنسي صغير السن لويس الثالث عشر. وكما تقول القصة الشائعة سالفة الذكر إن الأميرة البرتغالية كاثرين أخذت معها صندوقا من الشاي إلى مدينة لندن فكذلك نجد هنا من يقول بأن الأميرة الشابة لإسبانية آن عندما انتقلت إلى مدينة باريس لتصبح ملكة فرنسا أخذت معها صندوقا من حبوب الكاكاو وبهذا نقلت معها (سر) وصفة طريقة تحضير شراب الشوكولا. وكما تلقف مجتمع النبلاء بسرعة في بريطانيا عادة شرب الشاي حصل نفس الشيء في المجتمع المخملي الفرنسي الذي سارع هو الآخر بدوره بتقليد ملكته الجديدة العاشقة لمشروب الكاكاو.
تهريب النباتات وإعادة تشكيل التاريخ
على خلاف المتوقع بأن قصة انتشار تناول مشروبات الشاهي والقهوة بدأت من الجزر البريطانية أو من المزارع البرازيلية وإذا بنا نكتشف أن لها ارتباط بالعائلات الملكية في إسبانيا والبرتغال وهذا يقودنا إلى عصر الاستكشافات الجغرافية الكبرى والرحلات البحرية التي قام بها كولومبوس وماجلان وفاسكو دي قاما مما جعل الإمبراطورية الإسبانية والإمبراطورية البرتغالية هما القوى العظمى superpowers للقرن السادس عشر. وكعادة القوى السياسية العظمى التي تحاول السيطرة والاحتكار على جميع الموارد الطبيعية لهذا لا غرابة أن الإمبراطوريات الأوروبية العارمة في ذلك التاريخ تتصارع على السيطرة على الأقاليم الزراعية في مختلف أنحاء العالم التي تنتج السلع الزراعية الاستهلاكية مثل السكر والتوابل والقهوة والشاي والقطن. وهذا يقودنا بمناسبة الحديث عن مشروبات السعادة الثلاثة (القهوة والشاي والشوكولا) للحديث عن الظاهرة الطريفة والغريبة في تاريخ (النباتات المهاجرة) وكيف كان تتم محاولة سرقة بعض الشتلات أو البذور وتهريبها خارج البلدان الأصلية التي كانت تحتكر زراعتها.
ولنبدأ بمشروبي المفضل وأقصد بذلك كوب الشاي المنعنش فبعد أن كان البرتغاليون يحتكرون خطوط تجارة الشاي مع الصين وبعد أن كانت الصين تمنع أي رحالة أوروبيين من دخول الأقاليم الداخلية للصين لمعرفة (أسرار) طريقة تحضير الشاي الأسود أو الشاي الأخضر نجد أن التاريخ تغير عندما أرسلت بريطاني جاسوس في هيئة عالم نبات. حصل ذلك في عام 1848م عندما جندت الشركة البريطانية الكبرى (شركة الهند الشرقية) عالم النبات الأسكتلندي روبرت فورتشن للذهاب إلى الصين بهدف جمع المعلومات حول طريق معالجة وتخمير أوراق الشاي. ليس هذا فحسب، بل تمكن ذلك المغامر والمقامر من تهريب حوالي عشرين ألف شتلة شاي أرسلها إلى الهند وسيرلانكا ومن تلك اللحظة أصبحت شبه القارة الهندية هي ثاني أهم موقع زراعي في العالم في إنتاج الشاهي بعد أن كانت لا يوجد بها ولا شجرة شاي واحدة. وبما أن سيرة الهند انفتحت في سياق ذكر مشروب الشاي تجدر الإشارة إلى أن الهند حاليا هي سابع دولة في العالم في إنتاج القهوة حيث تنتج سنويا أكثر من 350 ألف طن من حبوب البن والغريب مرة أخرى أن الهند كانت قبل قرون قريبة خالية تماما من أشجار القهوة بينما هي حاليا تحتوي على حوالي ربع مليون شجرة قهوة.
تقول الأسطورة إنه في القرن السابع عشر الميلادي قام رجل صوفي مسلم من الهند يدعى بابا بودان بالسفر لأداء فريضة الحج في مكة المكرمة وهنالك تعرف على مشروب القهوة الذي كانت تجلب حبوبه من اليمن. وكما كان للرهبان الإسبان دور في انتشار عادة تناول مشروب الشوكولا يقال إن العباد والمتصوفة في اليمن هم أول من استخدم مشروب القهوة لأنه كان يساعدهم التعبد بقيام الليل. ولذا عندما شعر الصوفي الهندي بابا بودان بفائدة وبركة حبوب البن لهذا أخذ من سبع حبات من حبوب القهوة من ميناء المخا في اليمن وقام بتهريبها عندما خبأها في صدره ويقال في لحيته أو داخل عصاته. وعندما وصل ذلك الحاج الهندي إلى بلاده قام بزراعة بذور القهوة في إقليم شيكماجالور بجنوب الهند وحتى اليوم توجد سلسلة جبال تشتهر بزراعة البن في الهند تعرف باسم جبال بابا بودانجيري على اسم صاحبنا الحاج (بابا بودان).
كما هو معلوم تعتبر حاليا البرازيل أكبر دولة في العالم فيما يخص إنتاج محصول القهوة وتشير التوقعات أن يوجد بها أكثر من سبعة بليون شجرة بن (7250000000) والغريب في الأمر أنه بالضبط قبل حوالي ثلاثة قرون لم يكن في البرازيل ولا شجرة واحدة من أشجار البن. الذي حصل أنه في عام 1727م أرسلت الإمبراطورية البرتغالية التي كانت تحكم البرازيل ضابطا يدعى فرانسيسكو بالهيتا في مهمة تجسسية إلى دولة غويانا الفرنسية التي تقع في شمال قارة أمريكا اللاتينية وكانت في حينها مستعمرة فرنسية مخصصة لزراعة السكر والتوابل وأشجار القهوة. تقول القصة إن الفرنسيين كانوا يمنعون نقل أي من هذه الأشجار خارج حدود المستعمرات الفرنسية ويحاولون احتكار المتاجرة بهذه السلع الزراعية الثمينة وبحكم أنهم سوف في الأصل ارتكبوا جريمة سرقة وتهريب بذور القرنفل أو شتلات بهار جوزة الطيب من جزر التوابل الهولندية لهذا كان عند الفرنسيين الحس الأمني العالي ضد أي محاولات لتهريب شتلات القهوة بالذات. ولهذا تقول الأسطورة إن الضابط البرتغالي فرانسيسكو بالهيتا عندما وصل إلى مستعمرة غويانا الفرنسية قدم نفسه كأمير من المكسيك ثم مع الزمن حاول إغراء زوجة الحاكم الفرنسي على المستعمرة لتقع في غرامه. من المحتمل أن زوجة الحاكم الفرنسي ساعدت الجاسوس فرانسيسكو على أن يحصل على بعض بذور أو حتى شتلات شجرة البن لكن الأسطورة تقول إنه في حفل وداع هذا الأمير المكسيكي المزعوم والدون جوان قامت زوجة الحاكم بإهدائه باقة زهور مخبأ في داخلها بذور شجرة البن وبهذا استطاع أن يهرب تلك البذور إلى البرازيل. في الوقت الحالي تعتبر البرازيل هي (إمبراطورية القهوة) بينما إلى حدود قرن من الآن كانت تعتبر وبدون منازع (إمبراطورية المطاط) وذلك عندما قام المستكشف البريطاني هنري ويكهام بتهريب كمية من بذور شجرة المطاط الطبيعي إلى ماليزيا وسنغافورة التي أصبحت أكبر موقع يحتوي أشجار المطاط وأشجار زيت النخيل بعد أن كانت لا تعرف هذا النوع من النباتات.
وبهذا نختم بأنه في اليوم السبت 13 سبتمبر الموافق لليوم العالم للشوكولاتة وفي حال قام الواحد منا بتناول كوب من الشوكولا الساخنة أو فنجان من القهوة أو قدح من الشاي لعله من الملائم أن يفكر كيف تغير تاريخ دول وشعوب في عدد من دول العالم من جراء (النباتات المهاجرة) أو من جراء القصص الطريفة لعمليات الجاسوسية وتهريب شتلات وبذور أشجار الشاهي أو القهوة أو التوابل. ومن الطرائف التي يمكن ذكرها في هذا السياق أن الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون عندما كان يعمل كسفير في فرنسا قام بزيارة إلى إيطاليا وهنالك أعجب كثيرا بنوعية الأرز الذي يزرع في إقليم لومبارديا ولهذا أستغل صفته الدبلوماسية لتسهيل تهريب بعض أكياس الأرز الخام من إيطاليا إلى مزارع ولاية كارولاينا الجنوبية. ومن مثل هذه القصص والأسرار بل وحتى الأساطير عن النباتات والسلع الغذائية الاستهلاكية لعل هذه السلسلة من المقالات تستمر بمشيئة الله إذا تصادف تاريخ يوم السبت مع الأيام العالمية لبقية المنتجات الزراعية بالغة الأهمية مثل القمح أو الأرز أو التمور بل وحتى البطاطا !!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق