السبت، 4 أكتوبر 2025

( الرحلة الأخيرة .. مخاطر الاستكشاف ووعثاء السفر )


د. أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1447/3/14 الموافق 6 أغسطس

 بعد حوالي ثلاثة أسابيع يحل موعد (يوم السياحة العالمي) وذلك في يوم 27 سبتمبر وفي الواقع لا أعلم كيف غاب عن منظمة السياحة العالمية عندما وافقت على هذا التاريخ أنه في هذا التوقيت مع نهاية شهر سبتمبر وبداية شهر أكتوبر تتراجع كثيرا معدلات مواسم السياحية العالمية (low season) مع بداية فصل الخريف ولذا ربما كان من الملائم أكثر اختيار توقيت يوم الساحة العالمي في أحد أيام أشهر الصيف. على كل حال في الوقت الراهن لا يوجد ما يمكن تسميته (اليوم العالمي للسفر) ولو حصل في مستقبل الأيام تبني هيئة دولية لمثل هذا اليوم البهيج لعشاق السفر فأنا منذ الآن أقترح أن يكون مماثل لتاريخ نشر هذا المقال أي يوم (السادس من سبتمبر). المسوغ لاختيار هذا التاريخ بالذات أنه تقريبا قبل خمسة قرون حصل لأول مرة في التاريخ البشري أن تمكنت وسيلة نقل من السفر والدوران الكامل حول كوكب الأرض.

حصل ذلك في يوم 6 سبتمبر من عام 1522م عندما تمكنت السفينة الإسبانية المسماة (فكتوريا) من العودة إلى مدينة إشبيليا بعد رحلة طويلة استمرت لمدة ثلاث سنوات انطلقت فيها باتجاه الغرب بدلا من الاتجاه شرقا عبر استخدام طرق راس الرجاء الصالح. في مغامرة جريئة عبرت تلك السفينة المحيط الأطلسي ودارت حول قارة أمريكا الجنوبية ثم عبرت المحيط الهادي لتعود أدراجها من جهة الشرق عبر المحيط الهندي لتختتم مشوارها صعودا بمحاذاة الساحل الغربي لإفريقيا قبل أن ترجع لمدينة إشبيليا. كان شرف الخلود في سجلات التاريخ الإنساني لأول شخص يدور حول العالم للبحار الإسباني خوان سباستيان إلكانو وهو في الواقع أحد قادة السفن الخمسة التي شاركت في (رحلة ماجلان) للوصول إلى جزر التوابل بالقرب من إندونيسيا. وبحكم أن المستكشف البرتغالي فرناندو ماجلان كان هو قائد الأسطول البحري الذي بدأ ما يسمى عصر الاكتشافات الجغرافية بالغ الأهمية في تمكين الهيمنة الأوروبية على بقية العالم كان من المفترض أن يكون ماجلان هو من يحوز شرف لقب (أول شخص يدور حول العالم). ولكن الذي حصل كما هو معلوم أن المستكشف ماجلان قد (قتل) عندما وصلت الرحلة البحرية إلى جزر الفلبين عندما حاول ماجلان فرض المسيحية على السكان الأصليين لبعض الجزر الفلبينية ولهذا حصل قتال مسلح بينهم. لقد كانت تلك هي (الرحلة الأخيرة) لماجلان حيث يوجد له قبر ونصب تذكاري مشهور على ساحل جزيرة سيبو الفلبينية وتجدر الإشارة إلى أنه من السفن الخمسة التي غادرت إسبانيا لم ترجع إلا سفينة واحدة فقط ومن طاقم أعضاء بعثة ماجلان البالغ عددهم 270 بحار لم يرجع مع خوان إلكانو إلا 17 شخصا فقط. بل إن المستكشف خوان إلكانو نفسه بعد سنوات قليلة من عودته حول العالم وبالتحديد في عام 1526م سوف يقتل هو الآخر والغالبية العظمى من البحارة المشاركين معه في رحلة استكشافه أخرى أرسلتها الإمبراطورية الإسبانية إلى المحيط الهادي.

والمقصود أنه في العصور القديمة كان أغلب الرحالة والمستكشفين والمغامرين يتعرضون لشتى أنواع المخاطر والأهوال أثناء سفرهم لاكتشاف الدول البعيدة والمناطق الجغرافية المجهولة. وفي هذا المنظور نستوعب أكثر العبارة التي سطرها عميد الرحالة العرب في العصر العباسي الرحالة المسعودي في مقدمة كتابه الجغرافي عن أدب الرحلات (مروج الذهب) حيث كان يعتذر عن أي تقصير أو نقص قد يجده القارئ فيه لأنه (قد شاب خواطرنا وغمر قلوبنا من تقاذف الأسفار وقطع القفار تارة على متن البحر وتارة على ظهر البر) وفي موقع آخر أشار المسعودي أنه قد تعرض للغرق في البحر أكثر من مره.

ومن هذا المساق لن نستغرب أن نعلم أنه في عصور الاستكشافات الجغرافية الأوروبية السالفة الذكر نجد أن بعض مشاهير المستكشفين والرحالة الغربيين لم يعودا قط إلى منازلهم وإنما قادتهم (الرحلة الأخيرة) للوفاة في الخارج. فبالإضافة إلى الرحالة البرتغالي ماجلان المقتول نجد أن أحد أبرز الرحالة الأوروبيين وأكثرهم إنجازات في عدد الرحلات والاكتشافات الجغرافية وهو الرحالة البريطاني جيمس كوك (مكتشف أستراليا وكاد يكون أول إنسان يكتشف القارة المتجمدة الجنوبية) قتل هو الآخر في جزر هاواي بعد أن دخل في نزاع مع السكان الأصليين بسبب سرقتهم قارب صغير منه وإصراره الأحمق على استرجاعه.

 الأمراض الفتاكة وإنهاء الرحلة الأخيرة

أحد أخطر المصاعب التي كانت تواجه رحلات الاستكشاف البحرية في السابق هو انتشار الأمراض الفتاكة بين أفراد طاقم السفينة وبالخصوص مرض الإسقربوط الذي تسبب في مصرع العشرات من البحارة المشاركين في رحلة ماجلان لجزر التوابل أو رحلة المستكشف البرتغالي فاسكو دي جاما نحو الهند وكذلك رحلة القبطان الإنجليزي جورج أنسون حول العالم التي بدأت بثماني سفن و1854 بحار نجى منهم فقط 188 بعد أن حصدت بقية الطاقم الأمراض والأعاصير. وعلى ذكر الأمراض الفتاكة فهذا يقودنا من صعوبات الرحلات البحرية إلى مخاطر الرحلات البرية عندما يتعرض الرحالة والمستكشفون للأمراض المهلكة أثناء مرورهم على البلدان أو الأقاليم الموبوءة بالأمراض الخطيرة مثل الملاريا أو الكوليرا أو الطاعون. ولنبدأ الحديث بالرحالة والمؤرخ السويسري البارز يوهان بوركهارت الذي يعتبر دون منازع أهم مستكشف أوروبي زار المنطقة العربية ويهمنا بالذات كتابه الضخم (رحلات في شبة الجزيرة العربية) وكتاب (ملاحظات عن البدو والوهابيين). وبحكم أن بوركهارت تجول في البلاد العربية وهو متخف في شخصية تاجر تركي يدعى إبراهيم بن عبد الله ونظرا لو جود احتمال كبير أن بوركهارت قد أسلم بالفعل ولهذا رغب في أداء فريضة الحج. وفي صيف عام 1814م وعند مرور بوركهارت على مدينة جدة أصيب بمرض الدوسنتاريا أو الزحار وبعد أن استاءت حالته الصحية انتقل إلى القاهرة في (رحلته الأخيرة) حيث توفي بها من جراء مضاعفات مرض الزحار. 

وإذا كان السويسري بوركهات أحد أهم الرحالة الأوروبيين الذين تجولوا في البلاد العربية حتى قضى عليه مرض الزحار فكذلك نجد أن أهم مستكشفا أوروبيا زار القارة الأفريقية هو الرحالة الأسكتلندي البارز ديفيد ليفنغستون والذي سوف يسهم مرض الزحار في القضاء عليه. خلال منتصف القرن التاسع عشر ولمدة ثلاثين سنة جاب ليفنغستون عددا من الدول الأفريقية وقد كان أول أوروبي يشاهد شلالات فيكتورا في زامبيا وذلك كنتيجة لمحاولة اكتشافه منابع نهر النيل. وبعد أن كان ليفنغستون على تواصل مستمر مع الجمعية الجغرافية البريطانية انقطعت أخباره بشكل غريب لمدة ست سنوات وهنا تم إرسال المستكشف والصحفي الأمريكي هنري ستانلي للبحث عنه حيث وجده وهو مريض بشكل خطير في عام 1871م ثم توفي بعد ذلك من جراء إصابته بمرض الملاريا ومرض الزحار. ونظرا لأن قلب ليفنغستون كان متعلقا بالقارة السمراء فهو لم يغادرها لمدة ثلاثين سنة ولهذا عندما أرسل جثمانه لدفن في بريطانيا تم انتزاع قلبه ودفن ذلك القلب في تراب إفريقيا التي عشقها.

وعلى ذكر قلوب الرحالة والمستكشفين المعلقة بالسفر والترحال لعل من الملائم الإشارة إلى (قلب) المستكشف والرحالة الإيرلندي السير هنري شاكلتون الذي قاد ثلاث رحلات استكشافية بريطانية إلى القطب المتجمد الجنوبي كان أهمها ما تسمى مهمة الاستكشاف الإمبراطوري لعبور الكامل القارة المتجمدة الجنوبية. نظرا للمخاطر الجسيمة والإرهاق البدني الشاق لمحاولة العبور البري من أقصى شمال قارة أنتاركتيكا المتجمدة إلى أقصى جنوبها لهذا لا غرابة أن وصفت هذه المحاولة بأنها (العصر البطولي لاستكشاف القطب الجنوبي). ولسنوات طويلة ثابر السير هنري شاكلتون على قيادة هذه الحملات الاستكشافية الخطيرة والمرهقة ولهذا في (رحلته الأخيرة) إلى القارة المتجمدة في عام 1921م تعرض لذبحة صدرية توفي على أثرها علما بأنه كان من الأساس لديه مشكلة صحية تتمثل في وجود ثقب في القلب. بقي أن نقول السير هنري شاكلتون عندما وصل لأول مرة في حياته إلى القطب المتجمد الجنوبي وذلك في عام 1901م كان شابا يافعا في سن 25 كان في ذلك الحين تحت إمرة الكابتن الإنجليزي الأسطورة (روبرت سكوت). جميعا تقريبا يعلم المأساة التي تعرض لها المستكشف الإنجليزي روبرت سكوت والذي كان يرغب أن يخلده التاريخ جراء (إنجاز) الوصول كأول شخص في التاريخ البشري إلى منتصف القطب المتجمد الجنوبي وإذا به يخلده التاريخ بسبب (فشله) في الرجوع الآمن من رحلته الاستكشافية الخطرة التي تسببت في النهاية في مصرعه ورفقائه الخمسة بسبب قلة المؤنة وشدة البرد والصقيع.

 خرج ولم يعد

مأساة الكابتن روبرت سكوت في رحلة العودة الأخيرة من استكشاف القطب المتجمد الجنوبي تذكرنا بالتضحيات الكبيرة التي يتجشمها الرحالة والمستكشفون القدامى في مقابل المغامرة الهادفة لزيادة المعرفة البشرية في التعرف واستكشاف المناطق المجهولة من كوكب الأرض. وعلى طارئ ذكر الكابتن روبرت سكوت الذي خسر حياته وخسر كذلك السباق للوصول إلى مركز قارة أنتاركتيكا المتجمدة في حين فاز بذلك المجد المغامر والمستكشف النرويجي روال أموندسن. ومع ذلك كان لهذا الرحالة النرويجي أموندسن حادثة مأساوية تستحق أن تذكر فبعد أن نجح في عام 1911م مع رفقائه في أن يصبحوا أول من يصل إلى مركز القطب المتجمد الجنوبي بلغ قمة المجد في عام 1926م عندما أصبح كذلك أول شخص يصل إلى مركز القطب المتجمد الشمالي. لكن بعد ذلك بسنتين فقط وعندما سقطت طائرة منطاد في القطب المتجمد الشمالي تطوع روال أموندسن وخمسة من معاونيه أن يذهبوا في رحلة إنقاذ لمساعدة الناجين المحتملين من ركاب تلك الطائرة المنكوبة. وهنا تتكرر مأساة المغامرين والمستكشفين عبر الجليد فكما توفي الكابتن روبرت سكوت وخمسة من فريقه الاستكشافي نجد كذلك أن المغامر راول أموندسن وخمسة من رفقائه فقدوا في عاصفة ثلجية فوق القطب المتجمد الشمالي وحتى الآن لم يعثر لهم على أي آثار على الإطلاق وبالتالي ينطبق عليه وصف بأنهم ممن (خرج ولم يعد).

وبمناسبة الحديث والرصد لظاهرة المستكشفين والرحالة الذين فقدوا واختفوا بشكل كامل بدون أي أثر أود أن أشير إلى أنه قبل سنة من اختفاء المستكشف النروجي أموندسن في القطب المتجمد الشامل نجد أنه في عام 1925م اختفى كذلك المغامر والمستكشف البريطاني بيرسي فاوست بشكل غريب في أدغال غابات الأمازون. الغريب في الأمر أن فاوست كان له خبرة طويلة في الرحلات الاستكشافية لغابات أمريكيا اللاتينية في عدد من الدول مثل البرازيل وبوليفيا والبيرو وهذا ربما ما أغراه لكي ينجرف وراء وهم غريب بأنه توجد حضارة مفقودة في أدغال غابات الأمازون في غرب البرازيل. ولهذا قام هو وابنه الأكبر برحلة استكشافية للعثور على ما كان يسمى مدينة Z المفقودة ولكن ما حصل أن المستكشف فاوست هو من فقد واختفى بدون أثر بعد أن خرج ولم يعد ه الآخر.  ومن غابات الأمازون إلى قمم جبال الهمالايا حيث نجد أنه في نفس ذلك العام أي 1924م وعندما كان بيرسي فاوست يختفي ويفقد في أدغال الغابات الكثيفة نجد أن المغامرين البريطانيين جورج مالوري وأندرو إيرفين كانا ممن شارك في البعثات البريطانية لاستكشاف جبل إيفرست ولاحقا محاولة تحقيق لقب أول شخص يتسلق قمة ذلك الجبل الشاهق. وفي صيف عام 1924م تم رصد جورج وأندرو وهما على الحافة الشمالية الشرقية من جبل إيفرست وعلى مسافة 245 مترا من قمة إيفرست وكانت هذه آخر مرة شوهد فيها هذان المتسلقان قبل أن يختفيا بشكل تام حتى اكتشفت مؤخرا جثة جورج مالوري وذلك في عام 1999 ميلادي. وعلى نفس النسق وبالانتقال من جبال الهملايا إلى صحراء القارة الأسترالية حيث نجد أنه في عام 1874م قام المستكشف الأسترالي ألفرد جبسون بالمشاركة في حملة لاستكشاف وعبور الصحراء الأسترالية من الشرق إلى الغرب، ولكن للأسف اختفى وفقد هذا الرجال المغامر بعد دخوله تلك الصحراء والتي من ذلك الوقت أصبحت تعرف باسم (صحراء جبسون) على اسم ذلك المغامر الذي لم يكن يعلم بأنه كان يقوم برحلته الأخيرة. وقبل أن نبتعد كثيرا عن الأراضي الأسترالية لعل سياق الحديث عنها يعطينا مبرر للإشارة إلى أن البحار والمستكشف البريطاني جورج باس الذي اكتشف ما يعرف باسم (مضيق باس) بين أستراليا وجزيرة تازمانيا وكان أول من طاف حول تلك الجزيرة. بينما كانت الرحلة الأخير final voyage في مسيرة البحار والمستكشف جورج باس هي رحلته البحرية في شتاء عام 1803م من ميناء مدينة سدنى باتجاه جزيرة تاهيتي في منتصف المحيط الهادي ومن المحتمل أنه واجهته عاصفة شتوية ربما تسببت في غرق سفينته حيث فقدت أخباره تماما بعد تلك الرحلة. وبحكم أن أغلب من ذكرنا أسماؤهم من الرحالة والمستكشفين في هذا المقال قد قتلوا أو ماتوا من جراء الأمراض أو اختفوا تماما وفقدوا بعد رحلاتهم الأخيرة فهذا يعطينا تصورا عاما لمدى خطورة الرحلات الاستكشافية في الزمن القديم وأن السفر إلى أمكان جديدة غير معلوم غالبا ما يكون مصحوبا بأنواع من (وعثاء السفر). ومن صور وعثاء السفر الخفيفة بالمقارنة مع ما تم سرده في السابق نجد أن الرحالة الأندلسي ابن جبير في بداية رحلته كادت عاصفة بحرية أن تغرق سفينته بالقرب من جزيرة سريدينا وبعد ذلك بسنوات وفي نهايته رحلاته تسببت عاصفة بحرية هوجاء في أن تغير سفينته مساره عودتها إلى الأندلس وتنحرف إلى جزيرة صقلية. ومن أهوال السفر البحري بسبب الأعاصير أو الأمراض الخطيرة إلى احتمال حصول العصيان والتمرد المسلح mutiny البحارة ضد قبطان السفينة وذلك ما حصل بالضبط مع رحلة كريستوفر كولومبس إلى القارة الأمريكية عندما تمرد حشد من البحارة وطالبوا بالعودة إلى إسبانيا عندما طالت الرحلة البحرية أكثر بكثير مما هو متوقع. ونفس هذا الأمر حصل كذلك مع الرحالة سالف الذكر ماجلان الذي واجهته مشكلة العصيان وتمرد جموع من البحارة الذين كانوا معه.

من هذا وذاك وبعد ثلاثة أسابيع وعندما تحل مناسبة (يوم السياحة العالمي) ولمن سوف يسافر بتلك المناسبة أو من سوف يسافر بمناسبة اليوم الوطني السعودي ربما من الجميل أن ندرك بعض أبعاد النعمة التي نعيشها في الزمن المعاصر بعد أن أصبح السفر والترحال أكثر أمانا وأكثر تشويقا وفائدة ومتعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق