السبت، 4 أكتوبر 2025

( ثنائية العدوان والسقوط .. ومستقبل إسرائيل )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1447/3/28

يُنسب للإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت المقولة المشهورة (الصين تنين نائم، لا توقظوه لأنه عندما يستيقظ سوف يهز العالم) وبالرغم من أن الإمبراطورية الصينية هي أقدم إمبراطورية ما زالت موجودة ومتواصلة عبر الزمن من ظهورها قبل 2246 سنة إلا أنها خلافا لكل الإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ البشري لم تحاول أن تتوسع وتسيطر على الدول والأقاليم الملاصقة لها. ودليل ذلك أن الإمبراطورية الصينية عندما نشأت عام 202 قبل الميلاد في عهد أسرة سلالة هان الحاكمة احتلت أجزاء صغيرة فقط من شمال كوريا وشمال فيتنام ثم بعد ذلك بأكثر من ألفي سنة وبالتحديد في عام 1950م اجتاحت الجيوش الصينية إقليم التبت وربما كان هذا هو كل (الإرث الاستعماري) للصين في كامل تاريخها. ويبدو أن من أسباب عدم (شهية) الإمبراطورية الصينية للتوسع والسيطرة على البلدان والممالك القريبة منها راجع إلى مفهوم (الأرض الوسطى) الذي كان يعتقده الصينيون وينظرون به إلى حضارتهم بأنها (وسط العالم) حضاريا وثقافيا وأن ما خارج حدودها هي أقاليم بربرية ومتخلفة لا حاجة لهم بها ولا فائدة من احتلالها. وفي هذا السياق نفهم كذلك لماذا انكفأت الصين على نفسها وانعزلت عن العالم الخارج في نهاية حكم أسرة سلالة مينغ العريقة فبعد سياسية الانفتاح العظيم أصدر الإمبراطور الصيني كانغ شي المرسوم المعروف باسم (أمر الإخلاء العظيم) والذي صدر عام 1661م وبموجبه تم طرد جميع التجار من الصين وإخلاء السواحل والموانئ الصينية من السفن الأجنبية.

ما أود الوصول له بعد هذه المقدمة المطولة أنه بالفعل كانت الإمبراطورية الصينية في أغلب تاريخها (تنين نائم) أو عملاق منعزل ليس له رغبة في العدوان والعنف على دول الجوار ولهذا استمر وجود الإمبراطورية الصينية لمدة تجاوزت الألفين سنة. قارن هذه الاستمرارية لأباطرة الصين بما حصل مع الإمبراطورية المغولية التي أسسها القاتل الرهيب جنكيز خان فبالرغم من أن إمبراطورية الدم والدمار تلك توسعت في زمن قصير جدا لتصبح ثاني أضخم إمبراطورية في التاريخ بعد الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، إلا أن العمر الفعلي للإمبراطورية المغولية كان قصيرا بشكل لافت للنظر.  لقد بلغت المساحة التي احتلتها الإمبراطورية المغولية حوالي 33 مليون كيلومتر مربع أي تقريبا 22% من مساحة اليابسة على الكرة الأرضية ومع ذلك كانت الفترة الزمنية للحكم التام لأباطرة المغول حوالي 54 سنة فقط امتدت بين لحظة ظهور الإمبراطورية عام 1206م وحتى عام 1260 عندما تقسمت وتفككت إلى أربع ممالك (خانات) متطاحنة. وهذا يقودنا لملحوظة أن الدول والممالك والإمبراطوريات العنيفة وذات العدوان الخارج والاحتراق الداخلي سرعان ما تضعف وتسقط وهذا ما أسميه (ثنائية العدوان والسقوط) أو ما يمكن إعادة تسميته بـ (متلازمة العنف والزوال). السقوط شبه السريع للإمبراطورية المغولية كان نتيجة حتمية للمستوى المريع الذي بلغته تلك الإمبراطورية من الوحشية والدموية والعدوان تحت حكم جنكيز خان وحفيده هولاكو لدرجة أن الدراسات التاريخية تقدر عدد من تسبب جنكيز خان في قتلهم قد يصل إلى حوالي عشرة ملايين. في حين أن هولاكو كما هو معلوم تسبب في مقتل أكثر من مليون شخص في بغداد وحدها في عام 1258م وبالجملة يتوقع أن الإمبراطورية المغولية قبل تمزقها في عام 1260م تسببت في مصرع ما يقارب أربعين مليون شخص بريء. 

وبالانتقال من أرض الصين إلى أرض الجرمان نجد أنه حتى حدود نهاية الألفية الأولى الميلادية لم يكن للشعب الألماني أي تأثير في السياسة الدولية، ولكن بعد أن كان ينظر لهم بأنهم مجرد برابرة نجد أنه منذ عام 962م وعند تتويج الإمبراطور أوتو الأول العظيم أصبحت ألمانيا قوة مهيمنة على وسط أوروبا ولمدة قاربت الألف عام من خلال ما يسمى (الإمبراطورية الرومانية المقدسة). وبتجاهل انتقاد فولتير الساخر لتلك الإمبراطورية عندما قال عنها (بأنها ليست مقدسة وليست رومانية وليست أصلا إمبراطورية) وكذلك بتجاهل أن هذه الإمبراطورية شاركت بفعالية في الحرب الدينية الشنيعة بين البروتستانت وبين الكاثوليك المسماة (حرب الثلاثين عام) ومع ذلك نجد أن هذه الإمبراطورية كانت بالجملة إمبراطورية مسالمة نسبيا بالمقارنة مع الإمبراطورية الرومانية القديمة أو إمبراطوريات المستعمرات مثل إسبانيا والبرتغال وهولندا وبريطانيا وفرنسا. ولهذا امتد الزمن بالإمبراطورية الرومانية المقدسة في ألمانيا تقريبا لمدة ثمانية قرون كاملة (962-1802) وهذا يثبت مرة أخرى أن الإمبراطوريات المسالمة وقليلة العدوان يكتب لها البقاء والازدهار أكثر من تلك الدول العدوانية وذات العنف المفرط.

وبعد هذا العمر الزمني المديد للإمبراطورية الألمانية قارن ما حصل عندما تسلم الحزب النازي زمام الأمور في ألمانيا بعد سقوط الرايخ الألماني مع نهاية الحرب العالمية الأولى وعندما صعد أدولف هتلر إلى كرسي السلطة فيما سوف يعرف بألمانيا النازية. الجميع يعرف بشكل تفصيلي الفظائع والجرائم والعنف والعدوان الذي ارتكبته ألمانيا النازية في حق أغلب دول وشعوب القارة الأوروبية فمن المتوقع أن هذا النظام العنصري المتطرف تسبب في مقتل أكثر من 13مليون شخص منهم ثلاثة مليون في روسيا وربما أكثر من مليون شخص تم تصفيتهم في معسكر اعتقال واحد فقط هو معسكر الإبادة النازية الشنيع (أوشفيتز) في وسط بولندا. وحسب مبدأ (ثنائية العدوان والسقوط) أو ملاحظة (متلازمة العنف والزوال) ربما نفهم لماذا الإمبراطورية الألمانية القديمة غير العنيفة استمرت ثمانية قرون بينما ألمانيا النازية بزعامة هتلر لم يستمر حكمها إلا لفترة قصيرة جدا في عمر الدول وهي 12 سنة فقط (ما بين عام 1933م وعام 1945م).

حتمية السقوط بعد العدوان ..  محاولة للفهم

لتفسير ثنائية العدوان والسقوط أو متلازمة العنف والزوال نحتاج لبعض النظريات في السياسة الدولية التي تشرح العلاقة التنافسية بين الدول وإن كان كانت مقولة (الظلم مؤذن بخراب العمران) لابن خلدون قد تعطي تفسيرا جزئيا عن الأسباب الداخلية لسقوط وانهيار الدول. الظلم الذي يقصده ابن خلدون هو الخطر الداخلي والاحتراق الذاتي الذي يتلف نسيج المجتمع المتلاحم، بينما عدوان الدولة الموجه للخارج والعنف الذي تمارسه على الكيانات السياسية المناوئة لها هذا ما يخلق ولا شك خطر خارجي يتمثل أحيانا في تكتل وتجمع الأعداء الخارجيين لرد العدوان الذي ترتكبه الدولة الغاشمة والمارقة من منظومة المجتمع الدولي كما حصل مع ألمانيا النازية.

التاريخ البشري من المنظور السياسي يوصف بأنه شلال من الدم وسلسلة متواصلة من الصراع ولهذا ترى بعض الدراسات النفسية أن الحرب جزء أصيل من الطبيعة البشرية بينما يؤكد أهل السياسة والتاريخ أن الدول غالبا لها طبيعة عدوانية. ومع ذلك للبشر كما الدول غريزة راسخة في صد العنف وردع العدوان وهذا ما انعكس صداه في نظرية تدرس في علم السياسة الدولية عنوانها (معضلة الأمن Security Dilemma). وهذه النظرية في العلاقات الدولية تعني بكل بساطة أن الدول والحكومات لها هاجس فيما يتعلق بالأمن الخارجي ولهذا من باب تعزيز الأمن تسعى تلك الدول إلى زيادة قوتها العسكرية وشراء الأسلحة وإقامة التحالفات. ولكن المشكلة أنه عندما تقوى دولة ما وتزيد من ترسانتها العسكرية فإن هذه الإجراءات العسكرية تقود إلى شعور الدول المجاورة لها بأنه مهددة (معضلة عدم الأمن) ولهذا تلك الدول بدورها تسعى لتقوية نفسها واتخاذ الاحتياطات الكافية لصد ورد العدوان وهذا يقودنا للنظرية الثانية في علم السياسية الدولية وهي نظرية (الواقعية الهجومية Offensive Realism). وهذه النظرية الأخيرة بدورها تعني أن الدول عندما تستشعر الخطر من دولة أخرى تخشى أن تعتدي عليها لهذا تقوم الدولة الأولى باستباق الأحداث والتصرف ضمن قاعدة (العدوان كضرورة) ولهذا سوف ترد بقوة على من يهدد أمنها على مبدأ المثل الدارج (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب !!).

في الواقع ينبغي التنبيه إلى أن أغلب الحكام القادة العسكريين يدركون تماما أن (العدوان بلا مقاومة يقود إلى مزيد من العدوان) ولهذا يجب أن تتضافر الجهود لصد العدوان ورد العنف. وفي هذا المنظور نفهم جزئيا لماذا سقطت بسرعة الإمبراطورية المغولية الدموية ولماذا زال سريعا حكم ألمانيا النازية العنيفة لأن المغول والنازيون تسببوا في خلق الكثير من الأعداء الأقوياء ولهذا على سبيل المثال بادرت أمريكا وحلفائها وفق نظرية (الواقعية الهجومية) على شن حرب مسلحة شاملة على ألمانيا النازية ولاحقا انخرطت في حرب وقائية ضد الاتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية.

وهذا يقودنا في خاتمة المطاف للإشارة إلى مستقبل الكياني الصهيوني الغاشم الذي يقوم هذه الأيام بأعلى درجات العدوان والعنف العنجهية ضد المنطقة العربية بأسرها لدرجة أنه في أوقات متقاربة كانت إسرائيل تقوم بالاعتداء السافر على شريحة واسعة من دول المنطقة مثل غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان وقطر واليمن وإيران وقبل مدة حصل اعتداء صهيوني على الحدود المصرية كما تم استهداف بعض سفن قافلة الصمود وهي موجودة في ميناء سيدي بوسعيد التونسي. خلال سنوات الحرب العالمية الثانية اعتدت ألمانيا النازية على حوالي عشرين دولة أوروبية وهذا ما تسبب في تكتل هذه الدول وغيرها مع أمريكا وبريطانيا لإسقاط الحكم والهيمنة النازية وعلى نفس النسق تقوم إسرائيل حاليا بالاعتداء المباشر على أغلب الدول العربية بل أنها قصفت بشكل مباشر ستة من العواصم العربية وهذا ما سوف يقود - طال الزمن أو قصر – إلى أن تقوم الدول العربية ومن خلفها الدول الإسلامية وخصوصا تركيا وباكستان وإيران بالتكتل والتجمع لصد عدوان العدو الصهيوني.

حتى مدة قريبة من الزمن كان من الممكن أن تسمع من البعض منا قوله إن إسرائيل لا تشكل خطرا علينا وأنها لم تعتد علينا أو تهددنا وهذا ما قاد بعضهم إلى للتهور لدرجة ترديد شعار (فلسطين ليست قضيتي). وبعد التصعيد المتزايد للعدوان الصهيوني على العديد من الدول العربية بالإضافة لجرائمها المتواصلة في غزة والضفة العربية ولهذا البعض لم يستغرب كثيرا أن يصرح الرئيس المصري في قمة الدوحة الأسبوع الماضي بخطاب مضاد للكيان الصهيوني ورد فيه إشارة إلى إسرائيل بأنها (العدو) وهذا توصيف لأول مرة يقال في مصر منذ نصف قرن. وقبل أيام طالب وزير خارجية باكستان إسحاق دار بإنشاء آلية ذاتية لدول الشرق الأوسط هدفها ردع إسرائيل كما دعا إلى تشكيل قوة مهام عربية/إسلامية مشتركة لمواجهة الكيان الصهيوني. صحيح أن بعض التصريحات السياسية الداعمة عسكريا لغزة ليست جادة تماما ومع ذلك يجب ألا نغفلها لأنها تعطي مؤشر بأن المزاج للدول والشعوب العربية والإسلامية تغيرا كثيرا نتيجة للعنف الإجرامي الي تنتهجه إسرائيل نحو غزة وأهلها.  وهنا نذكر بالتصريح المميز لوزير الخارجية الباكستانية عندما قال (غزة تحتاج إلى عمل ملموس وباكستان جاهزة، لدينا جيش قوي وقوات جوية وبحرية ونستطيع الانتصار إذا تحدّانا أحد). وفي ذات السياق وبعد تصاعد التوتر بين إسرائيل وتركيا بسبب الاعتداءات الصهيونية المتكررة على سوريا وقلق تركيا من أن تكون هي الهدف التالي لإسرائيل بعد قصف إيران ولهذا لم يكن مستغربا أن تقوم تركيا الأسبوع الماضي باستعراض ترسانتها الجديدة من الصواريخ الفرط صوتية مما أثار قلق إسرائيل. فهل سنشهد في المدى المنظور تفعيل نظرية (الواقعية الهجومية) وبالتالي سوف تبدأ تتضح أكثر مع الأيام ما هو مستقبل إسرائيل في المنطقة العربية والإسلامية.

وقبل أن نغادر لا بد أن نؤكد أن ما يصيب أهلنا في غزة تحديدا وفي فلسطين إجمالا من العدوان والعنف الصهيوني الأثيم أمر يصيب القلب بالحزن والقهر والشعور بالذل والمهانة ومع ذلك لعل في الأمر خير وفرج بأنه في نهاية المطاف ومع تزايد هذا العدوان الإجرامي يقترب موعد ووعد سقوط وزوال الظلم والطغيان. بالقطع لن نفرح بتصاعد حدة العدوان والعنف الصهيوني، ولكن في المقابل قد نستخدم ذلك كنوع من البشرى بأن نهاية هيمنة العدو قد بدأت لأن تجارب الحياة وشواهد التاريخ تثبت أن (العدوان المفرط ليس علامة على القوة) ولكن دلالة ومؤشرا على وجود مشاعر عميقة من الخوف والاضطراب.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر فكما لا نفرح بالعدوان المفرط الصهيوني ضد إخوتنا في العروبة والدين في فلسطين وإن كنا قد نعتبر ذلك نوعا من البشارة (الغريبة) لسقوط الكيان الإسرائيلي وزواله فكذلك نجد في التاريخ الإسلامي القديم مستحيل أن تجد من يفرح بتوجيه السباب والشتائم لمقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولكن من (الغرائب) أن بعض المسلمين قد يستبشرون أن من يسب النبي الكريم فهو مهزوم ومخذول وقد اقتربت نهايته. في كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) نجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر الخبر العجيب (أن المسلمين إذا استعصى عليهم فتح حصن من الحصون ثم بلغهم أن أهل الحصن قد تطاولوا بسبّ النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يستبشرون بذلك ويتيقنون أن النصر قريب لأن الله تعالى ينتقم لرسوله ممن تطاوله عليه ويعجل لهم الهزيمة والهلاك). وإن شاء الله على نفس النسق نحن نستبشر أنه كلما زاد الظلم والعدوان والعنف من قبل العدو الغاشم الإسرائيلي فإن النصر قريب لأن سنة الله الجارية أنه ينتقم للمظلومين ويكسر شوكة أهل الطغيان والعدوان.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق