السبت، 4 أكتوبر 2025

( نقطة الحدود الثلاثية .. غنيمة سياحية باردة )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

    

د/ أحمد بن حامد الغامدي

  السبت 1447/2/22

 في تقاطع صارخ بين الأدب والسياسة وردت فقرة في رواية البؤساء لأديب الفرنسي فيكتور هوغو أثارت حيرة الأدباء والسياسيين على حد سواء. ففي عام 1862م صدرت رواية البؤساء وبعد ذلك بأشهر قليلة وقعت ثورة يناير البولندية ضد الاحتلال الروسي (انتفاضة كراكوف) والتي قمعت بشدة. صحيح أن من ضمن أحداث رواية البؤساء ما يمكن تسميته تجاوزا بالثورة الفرنسية الثانية (ثورة يونيو 1832م) وبالرغم من تعاطف فيكتور هوغو مع الشعوب المضطهدة مما جلب له المشاكل والنفي من بلاده لمدة 19 سنة. إلا أن وجه الغرابة أن فيكتور هوغو في تلك الرواية الأدبية البحتة ذكر العبارة المحيرة ذات الصبغة السياسية الصريحة والحادة (جميع الجرائم الاجتماعية المعاصرة تعود إلى تقسيم بولندا وجميع الفظائع السياسية الحالية نتيجة لتقسيم بولندا). وفي الواقع من إرهاصات وإشارات أن مآل ومستقبل بولندا سوف يكون التقسيم أنه كانت توجد بها منطقة جغرافية غير بعيدة من مدينة كراكوف البولندية لها اسم مميز هو (ركن الإمبراطوريات الثلاث). حيث كانت تلتقي بالقرب من مدينة ميسوفيتسه البولندية الصغيرة أطراف ثلاث إمبراطوريات قوية وذات نفوذ: الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية والإمبراطورية الألمانية والتي سوف تساهم لاحقا في تقسيم بولندا فيما بينها. وبالمناسبة في القرن الثامن عشر اشتهرت المدينة الأوكرانية الصغيرة نوفوسيليتسيا بأنها كانت كذلك (ركن الإمبراطوريات الثلاث) ولكن هذه المرة هي نقطة التقاء الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية. وعليه من كان يزور مواقع إلتقاء الإمبراطوريات تلك من الرحالة أو الكتاب وأهل الفكر كان بإمكانه أن يزعم أنه يستطيع التنقل بين أعظم الإمبراطوريات في عصره في ساعات قصيرة.

في الواقع مثل هذه النقاط الجغرافية ذات الحدود السياسية المثلثة تسمى: نقطة حدودية ثلاثية (or tri-border area Tripoint) وبالإضافة لأهميتها السياسية تكون في بعض الأحيان لها أهمية سياحية قصوى. وبالرغم من أن عدد الدول الأوروبية قليل نسبيا مقارنة بالقارات الأخرى حيث إن عدد البلدان الأوروبية 47 دولة إلا أن عدد النقاط الثلاثية الحدود في تلك القارة يصل إلى حوالي 51 نقطة وهذا من شأنه أن يعزز سهولة الانتقال من دولة إلى دولة خصوصا في حال عدم وجود نقاط الجوازات والجمارك بين حدود دول اتفاقية الشينغن. ومن هنا تظهر فكرة أن سهولة التنقل بين تلك الدول المتقاربة هي (غنيمة باردة) للسياح والرحالة حيث يمكن لأحدهم وبصورة فعليّه أن يتناول وجبة الغداء في دولة ما في حين بإمكانه أن ينتقل مسافة قصيرة لتناول الشاهي أو القهوة في دولة أخرى. بل يمكن أن يصل الأمر أن تجلس على طاولة واحدة وتتناول لقمة في دولة وبعد ثوان معدودة تنتقل لكرسي آخر في دولة أخرى لتتناول اللقمة التالية. وقبل سنتين وكجزء من رحلتنا السياحية إلى دول أوروبا الشرقية توقفت أنا ورفقاء السفر الأعزاء الأستاذ فهد القحطاني والدكتور عبد الكريم الخليفي في نقطة الحدود الثلاثية بين هنغاريا وسلوفاكيا والنمسا الفريدة في موقعها وتصميمها بحيث جلسنا جميعا على طاولة واحدة مثلثة الشكل ولقد كان في الواقع كل واحد منا يجلس منفردا على كرسي في دولة مستقلة.

وفي رحلتنا لهذا الصيف وفي الأسبوع الماضي تكرر تواجدنا في منطقة جغرافية ثلاثية الحدود حيث قادنا شغفنا لمشاهدة أكبر شلالات العالم على الإطلاق إلى زيارة مدينة فوز دو إيجوازو في غرب البرازيل. وعلى بعد قريب من شلالات إيجوازو البرازيلية تقع نقطة حدود ثلاثية بين دول البرازيل والأرجنتين والباراغواي حيث يمكن أخذ سفينة نهرية تعبر بالسياح بين البرازيل والأرجنتين من خلال نهر إيجوازو أو تعبر بهم بين البرازيل والباراغواي عبر نهر بارانا. وبالإضافة إلى التقاط الصور لهذه الدول من المطل المذهل في الجزء البرازيلي أتيحت لنا فرصة الدخول الفعلي إلى مدينة شرق الباراغواي وصلاة الجمعة في مسجدها الكبير وكذلك تمكنا من الدخول إلى الحدود الأرجنتينية في اتجاه مدينة بورتو إيجوازو. وإذا كانت نقطة مدينة إيجوازو الثلاثية تتيح السفر والترحال السريع لثلاث دول لاتينية في ساعات محدودة فكذلك نجد أن (نقطة كازونجولا الرباعية) قد تكون نقطة انطلاق لزيارة أربع دول أفريقية متلاصقة هي زامبيا و زيمبابوي وناميبيا وبوتسوانا. بقي أن نقول بأن كازونجولا هي بلدة حدودية في زامبيا تقع على الضفة الشرقية لنهر زمبيزي وهي في موقع غير بعيد عن شلالات فكتوريا (ثاني أكبر شلالات العالم) كما كانت مدينة فوز دو إيجوازو غير بعيدة عن شلالات البرازيل العظمى.

 معالم سياحية واحدة تشاهد من دول مختلفة

وبمناسبة ذكرالمعالم الطبيعية الكبرى والمميزة مثل الشلالات تجدر الإشارة أنه كثيرا ما يحصل أن تكون بعض هذه الأعاجيب الطبيعة هي نقطة التقاء بعض الدول وهذا ما يزيد من أهميتها السياحية لهواة السفر والترحال. صحيح أن جبل إيفريست يقع في المنطقة الحدودية بين نيبال والتبت ولكن في الواقع يمكن مشاهدته من ثلاث دول هي نيبال والصين والهند ولهذا لو أمكن الحصول على تأشيرة فيزا الدخول لهذه الدول لأمكن مشاهدة قمة إيفريست من زوايا مشاهدة متنوعة تعطي مناظر مختلفة. ولمن يحصل تأشيرة شينجن لدخول الدول الأوروبية لعله يفكر في مستقبل الأيام أن يحاول أن يشاهد جبل مونت بلانت (أحد أشهر وأطول جبال الألب) من ثلاث دول أوروبية هي إيطاليا وفرنسا وسويسرا. ومن القارة الأوروبية إلى قارة أمريكا الجنوبية حيث نجد أن جبل رورايما في فنزويلا يمكن مشاهدته من شمال البرازيل ومن جمهورية غويانا علما بأنه في موقع غير بعيد من جبل الطاولة اللاتيني هذا يوجد معلما سياحيا بالغ الأهمية إلا وهو شلالات إنجل التي تعتبر أطول الشلالات في العالم بارتفاع شاهق ومذهل يقترب من كيلو متر واحد. ونختم بالإشارة إلى أن أعلى قمة جبلية في القارة السمراء الإفريقية هي قمة جبل كليمنجارو في تنزانيا لذا يمكن مشاهدتها من دولة كينيا المجاورة وهذه المعلومة قد تكون سببا إضافيا في حث بعض السياح للحرص على استخراج تأشيرة الدخول لكلتا الدولتين لمشاهدة حيوانات السفاري في موقعين مختلفين ورصد الفروقات بين طبائع أفراد قبائل الماساي بين كينيا وشمال تنزانيا. هذا فضلا عن بعض الحلات الجغرافية عندما تكون عواصم بعض الدول قريبة نسبيا من بعضها البعض فمثلا المسافة بين دمشق وبيروت تزيد قليلا عن مائة كيلومتر مما يشجع الذي يزور واحده منها أن يسافر للأخرى وكذلك المسافة فيينا عاصمة النمسا وبين براتيسلافا عاصمة سلوفاكيا حوالي 80 كيلومتر فقط. بينما أغرب حالة جغرافية بين عواصم الدول نجدها في المسافة التي تفصل بين مدينة كينشاسا عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية وبين مدينة برازافيل عاصمة دولة الكونغو حيث يفصلهما فقط نهر الكنغو حيث أن المدينتين متقابلتين تماما بحيث تقع برازافيل على الضفة الشمالية للنهر وكينشاسا على الضفة الجنوبية.

 بقي أن نقول بأن السفر والارتحال بهدف السياحة إلى بلدان بعيدة مثل فينزويلا أو البرازيل أو جنوب أفريقيا أو كوريا الجنوبية أمر مرهق جسيدا ومكلف ماليا ومع ذلك لو وجد في بعض هذه الدول البعيدة فرصة سياحية لزيارة دولة أخرى ملاصقة لها فربما هذا الأمر قد يشجع للسفر إلى هذه البلدان المنزوية جغرافيا. وهنا تظهر أهمية النقاط الحدودية الثلاثية وكيف أنها غنيمة سياحية سانحة فيمكن في بعض الحالات أن تتنقل إلى دول أخرى في فترة الصباح ثم تعود في الليل إلى نفس الفندق الذي تسكن فيه في الدولة الأصلية التي سافرات لها أول الأمر. ولهذا ربما من الملائم الإشارة إلى أن لنقاط الحدودية الثلاثية دور كبير في تعزيز فكرة (إزالة الحدود) عن شعوب الدول المتلاصقة فمثلا في النقطة الحدودية الثلاثية في مدينة فوز دو إيجوازو في البرازيل مسموح للمسافرين من الشعب البرازيلي أو الأرجنتيني أو الباراغواني الدخول لأراضي الدول الأخرى دون تأشيرة فيزا. وفي الختام لا أدل على أهمية النقاط الثلاثية الحدودية في تسهيل السفر والترحال والتنقل بين الدول الأخرى بدون تأشيرة من أن التأشيرة الأوروبية المشتركة المسماة تأشيرة شينجن (Schengen Visa) التي تتيح الدخول إلى حوالي 29 دولة أوروبية فهذه الاتفاقية في الأصل مأخوذة من اسم قرية صغيرة في أقصى جنوب دولة لوكسمبورج. وبما أننا نتحدث في هذا المقال عن (نقطة الحدود الثلاثية) فلعلها معلومة شيقة أن نعلم بأن قرية (شينجن) هي في الواقع نقطة حدود ثلاثية بين لوكسمبورج وألمانيا وفرنسا. وبالمناسبة دولة لوكسمبورج من أصغر الدول الأوروبية مساحة ويمكن عبورها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب في حوالي ساعة ولهذا هي مثال جيد لسرعة التنقل والترحال داخل الدول. وربما من هذا المنطلق كانت رمزية اختيار تلك النقطة الحدودية الثلاثية (قرية شينجن) بالذات لكي تعقد فيها في صيف عام 1985م اتفاقية إلغاء الرقابة على الحدود الداخلية للدول الأوروبية وأتاحت إمكانية الارتحال والتنقل لجميع المقيمين على تلك الدول.



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق